تنتهي سنة 2024 بأكبر التطورات في الشرق الأوسط، وقد تكون تطورات مخادعة بحكم سهولة انجرار عدد من المحللين والإعلاميين والسياسيين مع أحداث اللحظة، وهي التي تبدو فيها إسرائيل «منتصرة» أو بالأحرى «متفوقة»، غير أن استحضار الماضي ورؤية واقعية للمستقبل، يؤكدان أن الكيان في الطريق غير الصائب، بل يسير نحو وضع أصعب ومعقد.
وعليه، عادة ما تنجر نسبة كبيرة من وسائل الإعلام مع تأثير اللحظة، وتعتقد أنه مع وقوع حدث كبير يتم الحسم في حدث، أو أحداث معينة، لاسيما إذا كانت جرائد كبرى دولية هي وراء نشر استنتاج ما، كما يجري في الشرق الأوسط طيلة سنة 2024. إذ يسود الاعتقاد بأن سقوط نظام الديكتاتور بشار الأسد في سوريا غيّر ملامح الشرق الأوسط إلى الأبد، بينما هذا التغيير سيكون محدودا على المدى المتوسط، لأن دور سوريا خلال الثلاثة عقود الأخيرة، اقتصر على احتضان بعض الفصائل الفلسطينية دون أخرى، والتحول الى منطقة أشبه بالفصل بين معسكرين، فقد بقيت سوريا في ظل بشار الأسد على هامش الحروب التي شهدتها المنطقة سنة 2006 وابتداء من 7 أكتوبر إلى يومنا هذا.
ولم ينجح نظام بشار الأسد في تطوير الجيش السوري، على الرغم من الدعم الروسي والإيراني لأنه كان نظام يجتهد لاستمراره وليس لتحرير أراضيه وكرامة شعبه. ومما يزيد من وهم الانتصار لدى المطبعين، هو القصف الإعلامي الذي تقوم به مختلف وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية، بتسريب أخبار معينة وبعضها بشكل متعمد لضرب كل معنويات الشعوب المكونة للعالم العربي بأن قدرها هو الهزيمة وضرورة قبول الواقع الحالي. ظاهريا، ما حققته إسرائيل سيبدو منطقيا أنه منتصر، فالكيان يمتلك قوة عسكرية كبيرة، لكن مختلف الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة هرعت إلى نجدته بعشرات المليارات من الدولارات من العتاد الحربي، وتقديم الدعم المعلوماتي ـ الاستخباراتي.
في الوقت ذاته، انخرطت دول عربية بكل أجهزتها الاستخباراتية في دعم إسرائيل، سواء بمدها بالمعلومات أو قهر الشعوب العربية، ومنعها من التعبير في الشارع بما يقترفه الكيان من جرائم، يضاف إلى كل هذا، كيف عملت إسرائيل طيلة عقود من التغلغل في المجتمعات العربية حتى أصبح لها ناطقون باسمها في عدد من الدول العربية، هدفهم تبرير جرائم الكيان والترويج لأطروحة أن إسرائيل منصة لتطوير العالم العربي ومحاولة استهداف المتضامنين مع القضية الفلسطينية.
هؤلاء الناطقون باسمها يغيب عنهم أن إسرائيل تحكمها الآن أحزاب دينية ترى في باقي البشر من إثنيات وديانات وثقافات متعددة، خاصة المسلمين مجرد حيوانات. كما أن ما حققته إسرائيل حتى الآن ضد الفلسطينيين هو بسبب نهجها لأبشع أنواع حرب الإبادة التي كانت منتشرة في القرون الوسطى، أو أساليب النازية ضد اليهود، كما يذهب إلى ذلك، رؤساء دول مثل البرازيلي دا سيلفا وغيره. لكن في العمق، لم تنتصر إسرائيل لا على المدى المتوسط ولا البعيد، بل ستصبح أكثر ضعفا مستقبلا، وهنا يمكن العودة إلى الماضي وقراءة الحاضر والتكهن بالمستقبل.
اقرأ أيضا| هل سيتمختر جنود «يوشع بن نون» على ضفاف نهر بردى
في المقام الأول، مارست إسرائيل في هذه الحرب القتل المتوحش على طريقة القرون الوسطى، قد يمكن تفهم ردها على هجمات حماس يوم 7 أكتوبر، لكن عمليات القتل العشوائي التي استهدفت الأطفال والشباب والنساء، يبقى الهدف منها هو إبادة شعب. وكما بقي الهولوكوست محفورا في ذاكرة اليهود، ستبقى مجازر حرب الإبادة الحالية محفورة في ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية خاصة في ظل شبكات التواصل الاجتماعي، التي تدون كل شيء.
ونحن نعيش في الوقت الراهن، نرى كيف تطالب شعوب افريقية ومن أمريكا اللاتينية القوى الاستعمارية بتصحيح جرائم الاستعمار، وبالتعويض، بل المحاكمة، وهو ما سيحدث بقوة مع إسرائيل، لاسيما بعدما اعتبرت محكمة العدل الدولية رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو مجرم حرب. وهكذا، ستجد إسرائيل نفسها أمام المطالب نفسها الآن وغدا.
وفي المقام الثاني، تدرك إسرائيل أنها تسوق لانتصار وهمي، فهي حققت بعض الأهداف لكنها لو كانت تتوفر على القوة العسكرية الكافية، لكانت قد هاجمت إيران من دون رحمة، ولكانت قد احتلت بيروت، ولكررت جرائم التدمير الشامل في لبنان كما تفعل في قطاع غزة، خاصة شماله. لكنها لا تجرؤ على ذلك بسبب التكلفة العالية بشريا وماديا. ونتساءل: كيف كان سيكون الوضع العسكري لإسرائيل في مواجهة المقاومة من دون دعم لا مشروط من الغرب وتواطؤ من بعض الأنظمة العربية؟
في المقام الثالث، ترى إسرائيل كيف أن كل حرب تخوضها مع مرور الزمن تكلفها الكثير، خاصة بعدما انتقلت هذه الحرب إلى داخلها. في الماضي، كانت تنتصر على جيوش كاملة مثل حرب 1967، والآن وبعد مرور أكثر من سنة لم تحسم الحرب مع حركات سياسية – مسلحة مثل حزب الله وحركة حماس، على الرغم من الدمار الكبير في قطاع غزة.
ولعل المستجد الكبير والخطير الذي لم تكن تنتظره إسرائيل هو أسلوب الحرب عن بعد، أو عن مسافة التي فرضتها حركة الحوثيين، وهو تطور استراتيجي، ربما لا يستوعب الكثيرون مخاطره وانعكاساته الآن ومستقبلا. إذ أصبح بمقدور حركة أو دولة شل دولة أخرى ولو نسبيا بواسطة الطائرات المسيرة الدرون»، والصواريخ ومنها فرط صوتية.
لقد نجح الحوثيون في تغيير مسار الملاحة العالمية نسبيا بسبب استهدافهم السفن في البحر الأحمر، كما يشلون الحياة لساعات في إسرائيل عندما يطلقون الصواريخ، حيث يهرع نصف الإسرائيليين إلى الملاجئ، وما يشكله ذلك من توقف الحياة والضغط النفسي. ويبقى التساؤل: ماذا لو ظهرت أكثر من حركة حوثية في الشرق الأوسط، تجعل من إسرائيل هدفا حربيا استراتيجيا في أجندتها؟ في ظل عشر سنوات، سيكون الشرق الأوسط يعج بالصواريخ فرط صوتية والطائرات المسيرة وستكون هذه الصواريخ والمسيرات أكثر تطورا، وقتها سيكون المشهد الحربي مختلفا عن الآن.
إن التاريخ يؤكد أنه على الرغم من شراسة المحتل ورغم سنوات الاستعمار الطويلة التي قد تتجاوز المئة سنة، ينتهي الاستعمار بالاندحار والهزيمة.