لم ينعم العراقيون منذ قيام دولتهم الحديثة عام 1921 ولحد الآن بدفيء الحرية والديمقراطية وأحترام حقوقهم الأنسانية فكل الأنظمة التي توالت على حكمهم من ملكية الى جمهورية أتسمت بروح الأستبداد والديكتاتورية وبالأخص حقبة النظام السابق.
تم تغييب وتهميش دور المواطن العراقي فيها بشكل كامل فلم يكن هناك ألا قائدا واحدا وحزبا واحدا وصحيفة واحدة وكان قول لا وطرح الرأي الاخر ، حتى وأن كان بسيطا يعني التغييب في السجون والتعذيب والموت! . وفي الحقيقة أذا أردنا الغوص أكثر في عمفق التاريخ لوجدنا أن العراقيين لم يعرفوا طعم الحرية والديمقراطية منذ أنتهاء الخلافة الراشدية !!،
وبسبب ذلك فأنهم تعاملوا مع مفهوم الحرية والديمقراطية بعد الأحتلال بشكل فوضوي غوغائي بعيد عن لغة التمدن والحضارة . وفي الحقيقة أن المجتمع العراقي كان ولا يزال يعيش حالة من الصراع بين البداوة والحضارة ! ، وقد رجحت ومع الأسف الشديد كفة البداوة وخاصة في العقود الأربعة الأخيرة منذ ثمانينات القرن الماضي ، ثم (سنوات ما بعد الأحتلال!) ، حيث حكم الريف المدينة بشكل واضح وقوي وتحت السيطرة! ،
فأصبح الولا ء للعشيرة أكثر وأكبر من الولاء للوطن في سابقة شاذة لم يألفها العراقيون بشكلها الحالي طوال فترة كل الحكومات السابقة! . الحقيقة المضحكة وهي مصيبة! ، هو أن الشعب العراقي لا زال يعشق روح البداوة والفروسية والقوة والتسلط وتأليه الحاكم ولا زال يتغزل بالشارب الثخين! ، ويحلف به كأنه كتاب مقدس ! وغيرها من كلمات ومفاهيم أوصلتنا الى الكارثة التي نحن فيها! ، فبعد سقوط النظام السابق وغياب كافة مؤوسسات الدولة وما رافق ذلك من أنفلات أمني ، قويت هذه الروح وترسخت هذه المفاهيم أكثر وأكثر وألقت بظلال من السلبية على مجمل المشهد العراقي . أن إشاعة مفاهيم الحرية والديمقراطية وكيفية أحترام حقوق الأنسان ترتكز، على الثقافة والوعي والأدراك للفرد
ولا أعتقد أن الغالبية من الشعب العراقي تمتلك مثل هذه الأدوات في الوقت الحاضر!! ، كما أن العراقيين بطبيعتهم ميالين الى الثورة والفوضى بسبب وبدون سبب عندما يشعرون بضعف أجهزة الدولة في التعامل معهم! ، وما جرى على الساحة العراقية من بعد الأحتلال وما يجري خير دليل على ذلك. من المعروف أن رئيس النظام السابق حكم الشعب العراقي طيلة 35 عاما بيد من حديد وبأستبداد رهيب! ، وجعلهم ، مشروعا دائما للموت من أجل قضايا الأمة العربية!
ومن الطبيعي كان العراقيين مجبرين على الرضوخ وقبول تلك السياسة وتلك الأفعال والممارسات الرهيبة بسبب الخوف من العواقب في حال مخالفتهم لكل تلك السياسات! ، ولكن في قلوبهم كانوا يرفضون ذلك تماما ويتمنون الخلاص من قبضة النظام الخانقة لهم! وكان سكوتهم هو بسبب خوفهم وضعفهم وقلة أيمانهم! ، قال الرسول العظيم عليه أفضل السلام (( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده وأن لم يستطع فبلسانه وأن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان )) .
فإذا أردنا أن نبني مجتمعا متحضرا متقدما يفهم الحرية والديمقراطية بمعناها الحقيقي علينا أن نبدأ ، أولا بأعادة بناء الأنسان بناء صحيحا من كافة النواحي، ولكن نسأل هنا ، هل قامت حكومات ما بعد الأحتلال بذلك ؟ ، أو هل فكرت بذلك ؟ الجواب كلا ومع الأسف ، بل أزداد وضع المواطن سوء ، حتى بدأ العراقيين يشعرون وكأن هناك سياسة ممنهجة لقتل هذا الأنسان فكريا أجتماعيا أخلاقيا ودينيا وفي كل شيء ، بل مسخه من كونه أنسان! ، فظل المواطن العراقي ، يعيش تحت ضغط وأفرازات العقود الظلامية السابقة وأزداد سوء أكثر!
فمن الطبيعي أن تصاب تجربة بناء العراق الحر الديمقراطي الفدرالي التعددي الجديد بالفشل! وهذا ما حصل بالفعل ، وما نشاهده من صراعات سياسية بين الأحزاب ، وتقاطعات حتى في الحزب الواحد خير دليل على ذلك! ، حتى أصبحت تجربة الديمقراطية وبناء العراق الحر الديمقراطي أمر مستحيل ! على ضوء هذه الأوضاع والظروف الشاذة ، وأصبح أمر تحقيق ونجاح ذلك ضرب من الخيال، وصار أشبه ( بأستاذ يلقي محاضرة جامعية في علم الفيزياء ، على تلميذ في الصف الأبتدائي!! ، فهل ممكن أن يفهم وينجح ؟ من الطبيعي أستحالة الفهم والنجاح وسيكون الفشل هو النتيجة وهذا ما حدث! .
إن عملية فهم ونشر مباديء الحرية والديمقراطية تحتاج الى تدريب وتثقيف وتوعية كاملة قد تستغرق وقتا طويلا لمجتمع مثل مجتمعنا تربى على مفاهيم القوة والعنف وحب السلطة وهيبتها ، وبنفس الوقت يكره كل أشكال النظام والترتيب وجمال الحياة كره العمى !! . أرى أن الحكومة والأحزاب السياسية ، أمام أمتحان صعب وعسير بين الرغبة في ترسيخ مفاهيم الحرية والديمقراطية وأحترام حقوق الأنسان ، وبين محاربة كل مظاهر العنف والفساد والأنفلات الأمني والأجتماعي والأخلاقي التي تزداد شراسة وشراهة في المشهد العراقي دون المساس وخدش هذه المفاهيم!
لا سيما أذا علمنا وبيقين تام أن أعداء العراق من الداخل والخارج هم كثر ومستمرين في التآمر عليه وأرباكه ، لأنهم لا يريدون له النهوض والسير على سكة الأصلاح والبناء كحال بقية الأمم ! . من جانب آخر أن كل المؤشرات والتقارير الدولية والعالمية التي تكتب عن العراق والذي تراقب وضعه في ظل الأحتلال ، كلها مؤشرات وتقارير سلبية وغير مشجعة وتتوقع له الفشل والأنهيار! ، وخاصة في وضعه الأقتصادي وتقارير صندوق النقد الدولي التي تعتبر معيارا ومقياسا خير دليل على ذلك ، حيث تؤكد بأن العراق وبعد سنتين وفي حال عدم قيامه بأية أصلاحات وفي ظل التقلبات في أسعار النفط قد يعجز حتى على تأمين رواتب الموظفين!! ، وقد حذرت تلك التقارير منذ فترة على ذلك واليوم تؤكد على ذلك! ،
كل ذلك بسبب تراكم الفساد والأنفلات الأمني وعدم الأستقرار السياسي الذي يجر معه أقتصادا مربكا فوضويا لا ضابط ولا رابط له!! . فالعراق وحسب تقارير مراكز الدراسات والبحوث السياسية والأقتصادية العالمية يسير نحو هاوية الأنهيار أن لم تتدارك الحكومة والأحزاب السياسية الأمر ، فهو بحق في حالة من الأحتظار!! ، ولكن الناس لا تعي ولا تدرك ذلك بسبب فوضى الحياة ويأسهم وأستسلامهم من عدم حصول أية تغيير في الوضع العراقي بعموميته وأن القادم أسوء!! ، وكأن لسان حالهم يقول ( شيصير خلي يصير، ملينه وروحنه طلعت وهنياله المات وخلص!).
وأمام ذلك أرى ومن وجهة نظري كمراقب لما يجري ، أن للحكومة الحق وكل الحق في أن تعمل ما تراه مناسبا وأن تضرب بيد من حديد على أيدي الفاسدين والعابثين في آمن الوطن ، وأن تفرض هيبتها وشخصيتها على الوضع العام في العراق من شماله الى جنوبه أذا كانت جادة وعازمة بصدق لأعادة الحياة والأستقرار للعراق وأنجاح التجربة الديمقراطية التي يتكلم بها غالبية المسؤولين وهم بنفس الوقت يخالفونها! .
إن الحرية والديمقراطية التي جائتنا بشكلها المفاجيء من بعد الأحتلال أربكتنا كثيرا ، ولم نجن منها غير الفوضى والسلبية بسبب عدم أدراكنا لكيفية فهمها بعقلانية وبشكلها الأنساني والحضاري ، ليس لأننا لم نكن مهيئين لذلك أصلا! ، بل لأن أرض العراق يبدو وكأنها لا تصلح لنبات أسمه الحرية والديمقراطية ، ولكل معبد طقوسه!! ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.