غني عن البيان أن كل جبهات الإسناد وما يندرج تحت مسمى “وحدة الساحات” دخلت أتون الحرب مكرهة وهي غير مقتنعة بها، فهي لم تنجح في وقف حرب الإبادة في غزّة أو حتى تخفيف ضراوتها وذلك أضعف الإيمان، ولكن تورطت هي وورطت حاضنتها معها، ولو عاد بها الزمن إلى الوراء لما قامت بالفعل ذاته.
وفي السياق نفسه لو وضعنا كيف تصرف حزب الله سياسيا وعسكريا تحت المجهر، لوجدنا أنّه لم يمارس “العناد الإستراتيجي” و”العناد الوطني” الذي اختصت به حركة حماس؛ فرغم أن ارتباطه بإيران أوثق من ارتباط حماس بها، قدّر جمهوره واهتم بحاضنته ولم يعتبرها خسائر تكتيكية، ولم يتحدث عن الشهداء المدنيين وكأنهم فاتورة يجب دفعها كاملة، ولا يجوز حتى العمل على تقليلها، كما فعلت حماس.
كان من اللافت أن حزب الله وحاضنته لم يطالبا الجيش اللبناني بدخول المعركة التي باشرها الحزب بقرار منفرد منه، تأسّيا منه بحماس، لكن الحزب لم يخوّن الجيش اللبناني وقادته وعناصره ولم يطلب منه المشاركة أساسا.
وقام الحزب بتسليم ملف المفاوضات للدولة اللبنانية واختبأ خلفها واحتمى بشرعيتها، ووافق على الانسحاب لأنه يعلم تمام العلم أن إسرائيل تتفوق عليه عسكريا واستخباراتيا ولها القدرة على خوض الحروب طويلة الأمد، فاستطاع إنقاذ ما تبقى من قوّته البشرية والتسليحية من فك التمساح.
وهذه الخطوات لم تتخذها حماس بل قامت بنقيضها تماما، من خطابات تحريضية لإشعال الضفة بل وتوريط مصر والأردن، وتخوين السلطة وقيادتها، ورفضها تسليم ملف المفاوضات إلى السلطة أو إشراكها بالحد الأدنى، لأنها ترى نفسها فوق الجميع وفوق الوطن الجريح.
استنفدت الحرب في قطاع غزّة كل أسبابها ومسبباتها، لم تكن منذ يومها الأوّل حربا بين طرفين متكافئين، أو قوتين عسكريتين متقاربتين بالأعداد والعدّة، بل كانت حربا للإبادة الإسرائيلية الشاملة لكل ما يتحرّك في قطاع غزّة. وما يحدث اليوم من مجازر ليس إلا هواية متطرفة تمارسها إسرائيل في حروبها ضد العرب، من قتل وتشريد وهدم وحرق مخيمات.
ومن هنا يجب أن تُجبِر هذه المصائب والنكبات، السلطة الوطنية الفلسطينية على اتخاذ الإجراءات الأكثر نجاعة في إنقاذ ما تبقى من قطاع غزّة وسكانه، ولعل أوّل هذه الإجراءات التوقف عن اللقاءات مع حركة حماس، ولو مؤقتا، لإجبارها على التنازل أمام جراحات الشعب الفلسطيني، فالحوارات الوطنية التي جابت كل عواصم العالم، أضحت مدعاة للسخرية والتندر حتى من الفلسطينيين أنفسهم.
ما يحدث منذ أكثر من عام وشهرين يستوجب حلولا سريعة واستجابة طارئة، فالسلطة الوطنية الفلسطينية هي طوق النجاة الوحيد المتبقي للفلسطينيين، كونها الوجه الشرعي والمعتدل والوسطي والمقبول والمعترف به دوليا.
ومن هنا على الشارع الغزّي أن يتحرك ضد إسرائيل أوّلا وحماس ثانيا، فما حدث تتحمل كل من إسرائيل وحماس مسؤوليته، كما تتحملان مسؤولية وقوف الآلاف من الناس ليوم كامل في طوابير طويلة، للفوز بربطة خبز لا تسمن ولا تغني من جوع.
اقرأ أيضا| الاصطفاف الوطني في مواجهة الاحتلال وعدوانه
كيف تكون خسارة مئتي ألف بين شهيد وجريح ومفقود مجرد “خسائر تكتيكية”؟ كيف يكون دمار غزة ومسح ذاكرتها وتخريب مستقبلها، والمقاومة في الوقت ذاته بخير ولم يمسسها سوء، بينما الشعب يائس وبائس ومذبوح؟ هل يعني هذا أن المقاومة شيء مختلف عن الشعب؟ هل وظيفة الشعب بأطفاله ونسائه وشيوخه أن يحمي المقاومة؟ أم العكس هو الصحيح؟
خرجت كل المظاهرات في العالم، تعاطفا مع الضحايا الفلسطينيين وليس إشادة بهجوم حماس في السابع من أكتوبر، العالم بأسره يتعاطف مع الضحية، وحماس التي تطالب اليوم بحضور لها في سلطة اليوم التالي في قطاع غزة، مصنفة كحركة إرهابية في غالبية الدول في العالم. فهل الفلسطينيون اليوم بحاجة إلى حركة منبوذة في كل أصقاع العالم لتمثّلهم وتتحدث باسمهم؟
وليس بمقدور حماس أن تجلب للفلسطينيين سوى الويلات والخراب والحصار والمقاطعة والنبذ العالمي، وهذا جلّ ما تتمناه إسرائيل، لا يغيب عن ذاكرتنا كيف قاطع وحاصر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الحكومة التي شكّلتها حماس بعد فوزها بالانتخابات في عام 2006.
وكأي نظام حكم شمولي آيل إلى السقوط، تظهر فضائحه لوسائل الإعلام، سأعمل على تسليط الضوء ولو قليلا على سجون حماس الداخلية، التي تتطابق مع سجن الواحات زمان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
بما أن الشعب الفلسطيني، وبالأخص في قطاع غزّة، عايش حكم حماس القمعي، فقد كان مجرد سماع اسم “سجون الأمن الداخلي” يثير الهلع والرعب في صدور الغزيين، وهذه السجون سيئة الصيت والسمعة، تطرق إليها حديثا تقرير موقع صحيفة “ديلي ميل” البريطانية، الذي نشر تسجيلات لمئات ساعات التعـذيب بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
الأمر الذي حدا بحراك “بدنا نعيش” (نريد العيش) إلى إصدار بيان أكدّ فيه أنّ كل ما ورد في تقرير “ديلي ميل” هو جزء من حقبة سوٰداء حكمت فيها حمـاس قطاع غــزة بالحديد والنار، وقال في الفقرة الثانية تحديدا “هذه الحقبة السوداء مارس فيها جهازها الأمني كل الموبقات ضد الأصوات المعارضة متأسّيا بجهاز الباسيج الإيراني.”
تعيش القضية الفلسطينية اليوم مرحلة مفصليّة غاية في الأهميّة، وأهم ما فيها أنها مرحلة كاشفة، تؤذن بانتهاء حقبة حكم حماس الانقلابي وتأثيره على الشّارع، ما يخلق فراغا كبيرا يستوجب من منظمة التحرير الفلسطينية المسنودة بنضالاتها وشرعيتها التواجد في قطاع غزّة وقيادة اليوم التالي.