في 18 كانون الأول/ديسمبر، نشرت صحيفة ديلي تلغراف تحقيقًا استثنائيًا حول قيام بريطانيا والولايات المتحدة بتدريب و”إعداد” مقاتلين في جيش مغاوير الثورة، وهي قوة “متمردة” تعاونت مع هيئة تحرير الشام في الهجوم الكبير الذي أطاح ببشار الأسد قبل أسابيع. وكشفت الصحيفة للمرة الأولى أن واشنطن لم تكن فقط على علم مسبق بالهجوم، بل كانت تمتلك معلومات استخباراتية دقيقة عن حجمه.
“التحالف الفعّال” الذي تأكد وجوده مؤخرا بين الولايات المتحدة وهيئة تحرير الشام وُصف بأنه “إحدى المفارقات العديدة” التي أفرزها الصراع بالوكالة المستمر منذ أكثر من عقد ونصف عقد.
وذكرت التلغراف أن هذا التعاون قد يكون غير مقصود، ويمثل نتيجة طبيعية للحرب الأهلية السورية الطويلة التي أدت إلى ظهور “مجموعة معقدة من الميليشيات والتحالفات، معظمها مدعوم من قوى أجنبية”. وخلال هذه الفترة، كان من الشائع حدوث تعاون أو انشقاقات أو اندماجات بين الجماعات التي تبدو مستقلة، لدرجة أن العديد من المقاتلين تحالفوا في أوقات مختلفة مع مجموعة متنوعة من الفصائل التي يُفترض أنها منفصلة عن بعضها البعض. مع ذلك، هناك أدلة قاطعة تشير إلى أن بريطانيا والولايات المتحدة حافظتا على علاقات وثيقة ومنسقة مع هيئة تحرير الشام على مدى سنوات.
على سبيل المثال، في آذار/مارس 2021، اعترف جيمس جيفري، المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا في الولاية الاولى لدونالد ترامب، في مقابلة مع شبكة PBS، بأن مسؤولين رفيعي المستوى في واشنطن حصلوا على إعفاء خاص من وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو لتقديم المساعدة لهيئة تحرير الشام. ورغم أن الإعفاء لم يصل إلى حد السماح بتقديم الدعم والتسليح المباشر للمجموعة، إلا أن شروطه نصت على أنه إذا انتهى الدعم الممول من الولايات المتحدة أو المقدم منها “بطريقة ما” في “أيدي” هيئة تحرير الشام أو فروعها المتطرفة للغاية، فلن يتم تحميل الجهات الغربية المسؤولية عن ذلك.
إقرأ أيضا : ما مصير فيلق إفريقيا في حال فقدان روسيا قواعدها في سوريا؟
سمحت هذه الخدعة لواشنطن بدعم هيئة تحرير الشام “بشكل غير مباشر” وضمان عدم “تفككها”، مع الإبقاء على تصنيفها كمنظمة إرهابية – بما في ذلك وضع مكافأة بقيمة 10 ملايين دولار على رأس قائدها أبو محمد الجولاني، تم إلغاؤها لاحقًا. ووفقًا لجيفري، كانت هيئة تحرير الشام “الخيار الأقل سوءًا” للحفاظ على “نظام أمني تديره الولايات المتحدة في المنطقة”، وبالتالي تم “تركها وشأنها”. علاوة على ذلك، مكّن صعود الهيئة المتزايد تركيا من الحصول على “منصة” للعمل في إدلب. في الوقت نفسه، كانت هيئة تحرير الشام ترسل رسائل سرية واضحة إلى رعاتها في الولايات المتحدة: “نريد أن نكون أصدقاء. لسنا إرهابيين. نحن فقط نحارب بشار الأسد”.
“ملاذ آمن”
منذ سقوط الأسد، أخذ المسؤولون في لندن زمام المبادرة بشكل ملحوظ في إضفاء الشرعية على هيئة تحرير الشام كحكومة سورية جديدة. علما أن هذا الفصيل أُدرج على القائمة البريطانية للمنظمات الإرهابية المحظورة عام 2017، ونص القرار يومها على أن هيئة تحرير الشام من بين “الأسماء البديلة” لتنظيم القاعدة المحظور منذ فترة طويلة. ورغم تصريح رئيس الوزراء كير ستارمر بأن “من السابق لأوانه” إزالة إسقاط الهيئة من اللائحة، واعتراف وسائل الإعلام بأن أي لقاء بين الحكومة البريطانية وممثلي هيئة تحرير الشام أمر غير قانوني، إلا أن ذلك حصل بالفعل في 16 كانون الأول/ديسمبر.
ورغم أن تصنيفات الإرهاب التي تضعها الدول الغربية قابلة للتعديل ومسيسة إلى حد كبير، فإن التوجه الغربي نحو احتمال إزالة الهيئة من قائمة الإرهاب يعد تحولًا لافتًا خصوصا في حالة بريطانيا. فطوال سنوات الحرب القذرة في سوريا، شنّ مخبرو الاستخبارات البريطانية حربا نفسية واسعة للترويج لـ “المتمردين المعتدلين”، وأغرقوا وسائل الإعلام الدولية بالقصص الإنسانية وادعاءات حول وقوع فظائع. وكان الهدف من ذلك “تقويض” الدعم للجماعات المتطرفة داخل سوريا وخارجها، بما فيها جبهة النصرة، القاعدة، داعش، وهيئة تحرير الشام.
بمعنى آخر، خلال الأزمة التي استمرت عقدا ونصف عقد، كانت هيئة تحرير الشام تُعتبر رسميًا على قدم المساواة مع أكثر المنظمات تطرفا وارتكابا للإبادة الجماعية في البلاد. كما أن الوثائق البريطانية المسربة تسخر من الادعاء الشائع بأن هيئة تحرير الشام قطعت كل علاقاتها مع تنظيم القاعدة عام 2016، وهو ما روجت له وسائل الإعلام الرئيسية كثيرًا منذ سقوط الأسد. وتشير إحدى الوثائق المؤرخة عام 2020 إلى أن القاعدة “تتعايش” مع هيئة تحرير الشام في الأراضي السورية المحتلة، وتسعى لاستخدام دمشق كنقطة انطلاق لشن هجمات في أماكن أخرى: “لا تزال القاعدة جماعة سلفية جهادية عابرة للحدود، ذات أهداف وغايات تمتد خارج حدود سوريا. وتتمثل أولويتها في الحفاظ على ملاذ آمن تغذيه حالة عدم الاستقرار في سوريا، مما يتيح لها التدريب والاستعداد للتوسع المستقبلي. وتوفر هيمنة هيئة تحرير الشام على شمال غرب سوريا مساحة لوجود الجماعات والأفراد المرتبطين بالقاعدة”.
استمرت عمليات الدعاية النفسية التي نفذتها الاستخبارات البريطانية بهدف عرقلة هيئة تحرير الشام منذ تأسيس المجموعة وحتى وقت قريب. ومع ذلك، يبدو أنها لم تحقق شيئًا يُذكر. العديد من الملفات المسربة التي استعرضتها The Cradle أعربت عن استياء من أن “نفوذ هيئة تحرير الشام على الأراضي” قد “نما بشكل كبير” على مر السنين. وسمحت نجاحات المجموعة لها بـ”ترسيخ مكانتها، وتحييد معارضيها، والتحول الى فاعل رئيسي في شمال سوريا”. وتمكنت هيئة تحرير الشام من بسط هيمنتها جزئيًا من خلال إعادة تقديم نفسها كبديل للحكومة.
كانت المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام تضم مجموعة متنوعة من مقدمي الخدمات والمؤسسات الموازية، بما في ذلك المستشفيات، وأجهزة إنفاذ القانون، والمدارس، والمحاكم. وروجت الدعاية المحلية والدولية لهذه المؤسسات باعتبارها نموذجًا لـ”سوريا بديلة” جاهز للتطبيق في جميع أنحاء البلاد.
في مفارقة ساخرة، كانت العديد من هذه الهياكل والمنظمات – مثل “الخوذ البيضاء” السيئة السمعة – من صنع الاستخبارات البريطانية، وقد أُنشئت لأغراض الدعاية المرتبطة بتغيير النظام، وروجت لها لندن بشكل مكثف وبميزانيات ضخمة.
وتشير وثائق الاستخبارات البريطانية المسربة مرارًا إلى أهمية “زيادة الوعي بخدمات المعارضة المعتدلة” وتقديم روايات مقنعة للجمهور المحلي والدولي تقدمها “بديلاً موثوقاً لنظام (الأسد)”. ومع ذلك، لا يبدو أن هذه الوثائق تتضمن أي اعتبار لاحتمال أن هذه الجهود قد تساعد بشكل كبير هيئة تحرير الشام في محاولاتها لتقديم نفسها كـ”بديل موثوق” للأسد.
مع ذلك، هناك إقرار بأن السوريين في المناطق الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام قد يتقبلون وجودها “خصوصًا إذا كانوا يتلقون خدمات منها”. والأكثر إثارة للقلق، بحسب الوثائق، أن “هيئة تحرير الشام وغيرها من الجماعات المسلحة المتطرفة أقل احتمالاً بكثير لمهاجمة الكيانات المعارضة التي تتلقى دعمًا” من صندوق بريطانيا للصراع والاستقرار والأمن (CSSF).
إقرأ أيضا : ما مصير فيلق إفريقيا في حال فقدان روسيا قواعدها في سوريا؟
كان هذا الصندوق هو الآلية التي مولت الحرب الدعائية البريطانية في سوريا، إضافة إلى منظمات مثل “الخوذ البيضاء” و”الشرطة الحرة السورية” المرتبطة بجماعات متطرفة.
هذه الهياكل الإدارية التابعة للمعارضة التي كانت تديرها بريطانيا، والتي زُعم أنها تهدف إلى “تقويض” هيئة تحرير الشام، كانت تعمل داخل الأراضي التي تسيطر عليها المجموعة من دون أن تتعرض لهجمات بسبب عملها الممول من الخارج. ويُشار إلى أن هذه الكيانات كانت “توفر خدمات رئيسية” لسكان المناطق المحتلة بشكل واضح.
هناك أيضًا احتمال أكثر قتامة يتمثل في أن هيئة تحرير الشام كانت على علم بأن هذه “الكيانات المعارضة” كانت مموّلة من قبل الاستخبارات البريطانية، وربما تُركت دون تدخل لهذا السبب تحديدًا.
وكشف تقرير التلغراف ان “أول مؤشر على أن واشنطن كانت على علم مسبق” بهجوم هيئة تحرير الشام، هو تلقي وكلائها في جيش مغاوير الثورة تحفيزا من رعاتهم الأميركيين قبل ثلاثة أسابيع.
ففي اجتماع سري في قاعدة التنف الجوية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة على الحدود مع العراق، طُلب من المقاتلين تعزيز قواتهم و”الاستعداد” لهجوم يمكن أن “ينهي” حكم الأسد. ونقل التقرير عن قائد في جيش مغاوير الثورة قوله: “لم يخبرونا كيف سيحدث ذلك. قيل لنا فقط: ‘كل شيء على وشك أن يتغير. هذه هي لحظتكم. إما أن يسقط الأسد، أو تسقطون أنتم.’ لكنهم لم يحددوا متى أو أين، فقط طلبوا منا أن نكون مستعدين”.
وتلى ذلك قيام الضباط الأميركيين في القاعدة بتوسيع صفوف جيش مغاوير الثورة من خلال توحيد المجموعة مع وحدات سنية صحراوية أخرى مدربة وممولة وموجهة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، كانت تعمل من منطقة التنف، تحت قيادة مشتركة. ووفقًا لتقرير التلغراف، “كان جيش مغاوير الثورة ومقاتلو هيئة تحرير الشام… يتعاونون، وكان الاتصال بين القوتين ينسقه الأميركيون”.
وأثبت هذا التعاون تأثيره المدمر في “الهجوم الخاطف”، حيث تمكن جيش مغاوير الثورة من الاستيلاء بسرعة على أراضٍ رئيسية في البلاد بناءً على أوامر أميركية صريحة.
تبع ذلك قيام الضباط الأميركيين في القاعدة بتوسيع صفوف جيش مغاوير الثورة من خلال توحيد المجموعة مع وحدات سنية صحراوية أخرى تم تدريبها وتمويلها وتوجيهها من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، والتي كانت تعمل من منطقة التنف تحت قيادة مشتركة. وفقًا لتقرير التلغراف، “كان جيش مغاوير الثورة ومقاتلو هيئة تحرير الشام… يتعاونون، وكان الاتصال بين القوتين يتم تنسيقه من قبل الأميركيين”.
وقد أثبت هذا التعاون تأثيره المدمر في “الهجوم الخاطف”، حيث تمكن جيش مغاوير الثورة من الاستيلاء بسرعة على أراضٍ رئيسية في البلاد بناءً على أوامر أميركية صريحة.
كذلك انضم جيش مغاوير الثورة إلى فصيل معارض آخر في مدينة درعا الجنوبية، ووصل مقاتلوه إلى دمشق قبل هيئة تحرير الشام. ويحتل جيش مغاوير الثورة الآن حوالي خُمس مساحة البلاد، بما في ذلك جيوب من الأراضي في دمشق ومدينة تدمر الأثرية. ومنذ فترة كانت هذه المناطق “محروسة بشكل كبير” من قبل روسيا وحزب الله. و”استمر جميع أفراد القوة في تلقي الأسلحة من الولايات المتحدة”، وكانوا يتقاضون رواتب شهريّة تبلغ 400 دولار، أي ما يقرب من 12 ضعف ما كان يتقاضاه جنود الجيش العربي السوري.
من غير المؤكد ما إذا كان هذا التمويل المباشر لجيش مغاوير الثورة، وغيرها من الميليشيات المتطرفة التي أسقطت الحكومة الشعبية للأسد، لا يزال مستمرًا حتى اليوم. ومع ذلك، ما هو واضح هو أن بريطانيا وأميركا دعمتا هيئة تحرير الشام منذ تأسيسها، حتى وإن “بشكل غير مباشر”. ولعب هذا الدعم السري دورًا حيويًا في تمكين الهيئة تحرير الشام ماليًا وجيوسياسيًا وماديا وعسكرياً لتنفيذ “الهجوم الخاطف” على دمشق، ومن ثم استلامها للحكم.
مؤكدًا أن هذا كان الهدف الأساسي لبريطانيا والولايات المتحدة طوال الوقت، أعلن رئيس الوزراء كير ستارمر بعد سقوط الأسد أن بريطانيا ستلعب “دورًا أكثر حضورًا وثباتًا” في منطقة غرب آسيا نتيجة لذلك. وبينما قد يشعر بعض العواصم الغربية والخليجية بالفرح لأن المهمة المكلفة، التي كانت تهدف إلى القضاء على البعث، قد تكللت بالنجاح أخيرًا، إلا أن التحذير الذي وجهته الاستخبارات البريطانية سابقًا قد تحقق: فالقاعدة الآن تمتلك “ملاذًا آمنًا يغذيه عدم الاستقرار” أكبر مما كان عليه الحال سابقا، مما يفتح المجال أمام “التوسع المستقبلي”.