ثمّة من يربط على سبيل التضليل أو سوء التقدير، ما بين وجود لبنان والحياد حيال الصراعات، أو التنائي عن الخلافات والنزاعات. وقد تمَّ، لهذا الغرض، صياغة نظرية لبنانوية خاصة، سُمِّيت في مراحل متأخرة بـ: مبدأ «النأي بالنفس»: طلباً للسلامة والأمان.ليس من الصعب ملاحظة أن هذه المقولة ليست مبدئية، وبالتالي، ليست صلبة ودائمة. هي ذات وظيفة ظرفية ومؤقتة: حسب التطورات والأحداث وطبيعة الصراعات في أبعادها المحلية والإقليمية والدولية.
ولعل أكثر من ألحّ عليها وبلور لها صيغاً ومفردات، هما، ويا لغرائب الصدف، الرئيس نجيب ميقاتي منذ حوالي عقد من الزمن، والبطريرك الماروني بشارة الراعي في السنوات الأخيرة! وتشاء الأقدار أن يكونا، حالياً، في صدارة المشهد السياسي العام: الأول، حكومياً ورسمياً، والثاني سياسياً وطوائفياً!
بيد أن لبنان السياسة الرسمية خصوصاً، لم يكن، بشكل عام، ما عدا في بعض المحطات القليلة، إلّا منحازاً، وحتى ملحقاً بالسياسات الغربية عموماً، والأميركية على وجه الخصوص! ويعود جذور هذه المسألة/المعادلة (منذ الاستقلال) إلى ما سمّاه الصحافي الراحل جورج نقاش ثنائية «النفيين»: لا يكون لبنان ملتحقاً بالغرب عبر فرنسا، ولا بالشرق العربي عبر البوابة السورية. من اللافت أن الصحافي المذكور، المنحاز ثقافياً وسياسياً إلى الغرب، وحتماً من هذا الموقع، أضاف إلى تلك المعادلة: أن «نفيين لا يصنعان وطناً»!
لبنان الرسمي والتوازنات، كان مؤسّساً على ثنائية التبعية للخارج والغلبة في الداخل، في كل الأبعاد والحقول. استدعى تكامل هذه الثنائية وترسّخها أن البعض صاغ لها نظريات ذائعة الصيت طبع جزءٌ منها «الميثاق الوطني» غير المكتوب والذي ما زال قائماً حتى اليوم منكراً للدستور والمصلحة الوطنية. برزت في السياق مقولة، بل شعار، أن «قوة لبنان في ضعفه». وهو شعار طالما ردّده أحد أكبر الأحزاب اليمينية، عنينا حزب «الكتائب اللبنانية». لقد بلغ في «حيادية هذا الحزب» أن أصبح حليفاً مستقوياً بالعدو الصهيوني في النزاع الأهلي الداخلي (1975-1989)، وممتطياً دباباته لإيصال قياديَّيْن فيه، إلى سدة رئاسة الجمهورية هما: بشير وأمين الجميل، وبعد غزو واحتلال نصف لبنان، بما في ذلك العاصمة بيروت، من قبل الجيش الإسرائيلي، عام 1982.
حين اندلعت الحرب الأهلية عام 1975 وتشكّلت «الجبهة اللبنانية» («جبهة الكفور» عند التأسيس) تسلّم أمانتها العامة النائب إدوار حنين صاحب نظرية: «لبنان يتهز إذا استقلّ ويعتزّ إذا استُتبع»! لم تتأخر «الجبهة اللبنانية» تلك في استدعاء الجيش السوري عام 1976، ثم الإسرائيلي عام 1982. وقبل ذلك، كان أحد أركان الجبهة، و«بطرك الموارنة» (كما عُرف آنذلك)، رئيس الجمهورية كميل شمعون، قد دفع البلاد إلى حرب أهلية عام 1958، تخلّلها استدعاء الأسطول السادس الأميركي، إلى الشواطئ اللبنانية، دعماً لالتحاقه بـ«مشروع أيزنهاور» و«حلف بغداد»!
برز، في السياق، شعار «نحنا شو خصنا»، وتجمّع «شيعة ضد الحرب»، ودعاة «اللاعنف»، وانضم إليهم يساريون سابقون خائبون يكررون شعاراتهم ومواقفهم
الانحياز الرسمي اللبناني إلى الغرب استمر قائماً حتى يومنا هذا. وهو ثمرة مرة لشبكة علاقات التبعية الشاملة للغرب الاستعماري، وتجسيد لمصالح البورجوازية اللبنانية الكبرى (وجناحها المالي والمصرفي خصوصاً) وبقايا الإقطاع السياسي.
شكَّل الاختبار السوري، ابتداءً من آذار عام 2011 («الثورة السورية»)، مناسبة جديدة لكشف زيف «الحياد» اللبناني الرسمي. في مرحلة اندفاعة الاحتجاجات تجنّد الفريق «السيادي»، الرسمي وغير الرسمي، في المعركة بشكل كامل لدعمها، والترويج لمشروعيتها، والمراهنة على نجاحها. وحين تغيّرت المعادلات، ورغم دخول التيار الإرهابي المتطرف لاعباً أساسياً في مجمل الوضع السوري، كان الاحتجاج الكبير على تدخل «حزب الله» في المعركة ضد الإرهاب الداعشي الذي كان يستهدف لبنان كما يستهدف سوريا.
في الحقل الداخلي، غذّت واشنطن، بشكل وقح ومكشوف، الأزمة اللبنانية. وهي رعت أبطال الفساد والنهب وسرقة العصر. هي أصرّت، كذلك، على حماية الطبقة الحاكمة، عبر تزوير الوقائع، واستغلال الأزمة لإلقاء المسؤولية، تحديداً وحصرياً، على المقاومة وسلاحها الموجَّه ضد العدو الصهيوني. لم تكتفِ واشنطن بذلك، بل هي عاقبت لبنان، وحاصرته ومنعته، حتى عن إقامة علاقة بسيطة مع سوريا. إلى ذلك، هي منعت المساعدات عنه والقروض، وحرمته من التنقيب عن النفط والغاز، ومن استجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر… وهي حاولت فرض ترسيم بحري لمصلحة العدو بالكامل، لولا تدخل المقاومة الذي حدّ نسبياً من مسلسل الرضوخ والتنازلات… إلى ذلك، وفي عزّ أزمته الاقتصادية أغرقت واشنطن لبنان بحوالي مليوني نازح سوري بهدف الضغط والتآمر على لبنان وسوريا، ولا تزال.
لم يتحرّك معظم السلطة السياسية والدينية إزاء كل ذلك تحت مسمّى «السيادة» أو «الحياد». هذان أُشهرا فقط في وجه التطبيع مع سوريا، وقتال المجموعات الإرهابية، وسلاح المقاومة الذي حرّر معظم المناطق المحتلة من قبل العدو، وفرض عليه معادلة ردع وتوازن غير مسبوقة.
في السياق، ابتكر البطريرك الراعي «الحياد الناشط». وهو اليوم يلحّ، بمناسبة أو من دونها، على الاعتراض على التضامن مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة همجية، وتتعرّض المقدّسات الإسلامية والمسيحية في «أرض السلام» لأفظع الانتهاكات الصهيونية. لقد شكَّلت عملية «طوفان الأقصى» حلقة نوعية كبيرة في مسار كفاح الشعب الفلسطيني ضد محاولات تصفية حقوقه وقضيته، وخصوصاً، ضد آخر حلقاتها التي تمثّلت في «التطبيع» مع العدو: بتشجيع وضغوط واشنطن.
هبَّ العالم الغربي كله، بالأساطيل والموقف والمال والإعلام، لدعم الرد الهمجي الذي بدأه الصهاينة منذ اليوم الثاني للعملية. لقد أعلن العدو من الأهداف، وأطلق من الشعارات لحربه، ما لم يقتصر على غزة وحدها. طاولت أهدافه كل فلسطين، بل كل «الشرق الأوسط»، وفي المقدّمة لبنان: كما توعّد المجرم نتنياهو في تصريح مبكِّر! ولقد كان من الطبيعي، سياسياً ووطنياً وقومياً وإنسانياً، التضامن مع الشعب الفلسطيني، بكل السبل، لتخفيف معاناته وآلامه، ولوضع الشعب اللبناني في موقعه السليم في هذه المعركة.
ولقد انطلقت حملة واسعة للاعتراض وللمطالبة بعدم التدخل وبالحياد! ورفع سياسيون وأحزاب ومجمل الفريق الأميركي، شعارات اعتراضية متنوّعة: سياسية واجتماعية، ترفض التضامن مع الشعب الفلسطيني، وتتواطأ مع محاولة استفراد العدو بقطاع غزة ومقاومته ومدنيّيه. وهدّد متعاونون سابقون مع العدو، بعدم استقبال النازحين البنانيين (لا السوريين!)، وبعدم التعويض على المتضررين… وبرز، في السياق، شعار «نحنا شو خصنا»، وتجمّع «شيعة ضد الحرب»، ودعاة «اللاعنف»، وانضم إليهم يساريون سابقون خائبون يكررون شعاراتهم ومواقفهم.
لقد أطلقت وحشية الصهاينة وأسيادهم موجة غضب واحتجاج، سياسي وشعبي، ملأت شوارع العالم وساحاته. وحرّكت بطولات المقاومين، وتضحيات وصبر وآلام المدنيين، الفلسطينيين، مشاعر تعاطف وتضامن مئات الملايين في كل الدنيا… أما الفريق «السيادي»، فلا يزال يراهن على «الخماسية» الأميركية، لفرض رئيس «سيادي»؛ وعلى معجزات الموفد الأميركي-الإسرائليي، لاستعادة قرار «الحرب والسلم»!