قبل طوفان الأقصى كانت عضو الكونغرس الأمريكي رشيدة طليب تصر في تدخلاتها وتصريحاتها على تسمية إسرائيل بنظام الفصل العنصري «أبرتهايد». كان كثيرون يتعاملون بلامبالاة مع تصريحاتها لأنها بالنسبة لهم ناشطة متحمسة، تدفعها أصولها الفلسطينية للمبالغة في انتقاد إسرائيل. ويمكن القول إن كثيرا من مناصري فلسطين، من عرب ومسلمين وغيرهم من أحرار العالم، لم يولوا اهتماما كبيرا لتوجيه هذا الاتهام لإسرائيل، إذ يجري الحديث في الغالب عن الاحتلال وعن ممارسات الاحتلال دون إبراز سياسة الفصل العنصري المستمرة منذ قيام إسرائيل عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين.
بعد اندلاع الحرب الهمجية التي تشنها إسرائيل على غزة بدأ التدقيق في السلوك الإسرائيلي ليكتشف كل باحث عن الحقيقة، في ربوع هذا العالم الواسع، أن رشيدة طليب محقة في اتهامها لإسرائيل.
اكتشف العالم أن الفلسطينيين يعاملون كفئة من درجة دنيا، تراقبهم الكاميرات في بيوتهم وشوارعهم وأسواقهم طول الوقت، وأنهم يعيشون في جزر منفصلة يواجهون كل يوم محنة الحواجز وإهانات الأمن والعسكر. اكتشف العالم أن إسرائيل تفصل حتى بين الفلسطيني وشجرة الزيتون التي ورثها عن أجداده وتمنعه من الوصول إليها فيتحول موسم الجني كل سنة إلى محنة حقيقية يعاني فيها من صنوف الاعتداءات والإهانات.
في فبراير عام ألفين وثمانية عشر أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرا جاء فيه أن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي نظام قاس يقوم على الهيمنة ويشكل جريمة ضد الإنسانية.
وأضافت أن هذا النظام يتمثل في تفتيت الأراضي والتفرقة والعزلة والسيطرة ونزع ملكية الأراضي والعقارات وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.
هذا واحد من تقارير كثيرة أصدرتها منظمات حقوقية دولية في السنوات الماضية، لكنها لم تحدث أثرا كبيرا في الرأي العام الدولي لأنها لم تصل إلى أغلب الناس، ولذلك فنادرا ما كانت إسرائيل تتهم في وسائل الإعلام أو منصات التواصل الاجتماعي بأنها نظام «أبرتهايد».
لم توجه تهمة الفصل العنصري لإسرائيل رغم أنها لم تخف ذلك واتبعت سياسة عنصرية واضحة وردد ساستها تصريحات يعترفون فيها بأن دولتهم تطبق نظام «الأبارتهايد» بحذافيره.
في صيف ألفين وثمانية عشر صدق الكنيست على قانون يهودية الدولة الذي يعتبر إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي، ومن مبادئه الأساسية أن ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل ممارسة حصرية للشعب اليهودي.
وفي رسالة نشرها في مارس /آذار ألفين وتسعة عشر كتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو:» إسرائيل ليست دولة لكل مواطنيها بل إنها الدولة القومية للشعب اليهودي وحده» يعني كلام نتنياهو أن إسرائيل ليست دولة الفلسطينيين الذين يعيشون في أراضي ثمانية وأربعين. فرغم أنهم يحملون الجنسية الإسرائيلية فإنهم لا يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها اليهود.
وربما يتغير الوضع في المستقبل فيصبح بإمكان جميع من يؤمن بهذه الحقيقة قولها دون خوف، وحينها سيضيق الخناق على إسرائيل كما ضاق من قبل عن نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا
أما الفلسطينيون الذين يعيشون في الأراضي المحتلة في الضفة والقدس وغزة فوضعهم أسوأ لأنهم لا يتمتعون بأي حقوق، وفي نفس الوقت يتعرضون لاعتداءات مستمرة من الشرطة والجيش والمستوطنين. وهكذا يمكن لأي عسكري أو مستوطن أن يطلق النار على أي فلسطيني لأتفه الأسباب فيقتله أو يجرحه دون عواقب تذكر، ويمكن هدم بيوت الفلسطينيين ونزع ملكية أرضهم واعتقالهم سنوات دون محاكمة وتعريضهم لأسوأ صنوف التعذيب.
كل هذا يحدث منذ عقود، ومع ذلك يصر الغرب على اعتبار إسرائيل واحة ديمقراطية وسط صحراء استبداد قاحلة.
اقرأ أيضا| في أجواء أعياد الميلاد: لتتوقف الإبادة في غزة
وهذا ما ترفضه منظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية التي يمكنها وضعها من الاطلاع على خبابا الأمور في إسرائيل أكثر من غيرها. في تقرير نشرته في يناير/ كانون الثاني عام ألفين وواحد وعشرين تقول بتسيلم إن كل المنطقة التي تسطير عليها إسرائيل داخل الخط الأخضر وفي الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة تعمل وفق مبدأ واحد وهو تحقيق تفوق جماعة من البشر هم اليهود على جماعة أخرى هم الفلسطينيون.
تثبت كل هذه التقارير أن إسرائيل نظام فصل عنصري « الأبارتهايد « يفوق في بشاعته النظام الذي كان سائدا في جنوب إفريقيا.
في جنوب إفريقيا كان الفصل على أساس العرق أما في إسرائيل فإن الفصل يقوم على أساس الدين الذي يرتبط عندهم بالعرق، وإن كان من الصعب علميا إثبات انتماء كل الإسرائيليين لعرق واحد. يعتمد سلوك الإسرائيليين على أحكام تلمودية تعتبر بالنسبة لهم أحكاما مطلقة لا يمكن الطعن فيها بأي شكل من الأشكال، وهي أحكام تفرق بين اليهودي وغير اليهودي، سواء كان فلسطينيا أو غير فلسطيني، وتضمن لليهودي التفوق في كل الأحوال.
في كتابه «التاريخ اليهودي، الدين اليهودي، ثقل ثلاثة آلاف سنة» يظهر الكاتب والناشط الإسرائيلي «إسرائيل شاحاك» الذي توفي عام ألفين وواحد تأثير كتب صنفها علماء دين يهود لتقنين وتصنيف أحكام التلمود على إسرائيل والإسرائيليين. ومن هذه التعاليم أنه أثناء الحروب كل من ليسوا يهودا، وبينهم وبين اليهود عداوة، يمكن قتلهم.
ويوضح شاحاك أنه، بناء على هذه التعاليم، نشرت القيادة الإقليمية المركزية في الجيش الإسرائيلي التي يشمل نشاطها الضفة الغربية، منذ ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، كتيبا موجها للجنود المتدينين جاء فيه: «في الحرب عندما يهاجم جنودنا العدو يسمح لهم، بل يجب عليهم وفقا للنظام القانوني اليهودي الكلاسيكي أن يقتلوا حتى المدنيين الطيبين أي المدنيين الذين يبدو من مظهرهم أنهم طيبون».
هناك كثير من التعليمات من هذا النوع في كتب تقنين وتصنيف أحكام التلمود، وهي كتب لا يمكن أن تنتج إلا نظام فصل عنصري، ليس فقط مع الفلسطينيين والعرب بل مع كل من لا يدين باليهودية. وهذا ما يفسر الوحشية التي يعامل بها جنود الاحتلال أهل غزة، وكيف يحتفلون بقتل النساء والأطفال والشيوخ.
بعد طوفان الأقصى وشن إسرائيل حرب الإبادة على غزة استغرب كل من فيه ذرة إنسانية كيف يحتفل إنسان بقتل رضيع أو امرأة أو شيخ مسن، لكن الاستغراب يتلاشى عند التعرف على التعاليم الدينية العنصرية التي يؤمن بها هؤلاء الجنود والتي تجعل الإنسانية عندهم تضيق لتقتصر على اليهود وحدهم.
الآن أصبحت هذه الصورة واضحة لدى قطاع واسع من الرأي العام الدولي. أصبح من يملكون الجرأة لتحدي أذرع النفوذ الصهيوني المتشعبة يقولونها بأعلى صوتهم: إسرائيل نظام فصل عنصري «أبارتهايد».
أما من لا يملك هذه الجرأة فعلى الأقل أصبح يعرف ما لم يكن يعرفه، وربما يتغير الوضع في المستقبل فيصبح بإمكان جميع من يؤمن بهذه الحقيقة قولها دون خوف، وحينها سيضيق الخناق على إسرائيل كما ضاق من قبل عن نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا ما أدى إلى النتيجة المعروفة.