جورج غالاوي (69 عاماً)، النائب السابق الذي عاد إلى مجلس العموم البريطاني للمرة الثالثة قبل أيام، في انتصار لافت حققه على حساب حزب العمال، شخص مثير للجدل بامتياز. اشتهر السياسي المحنك الذي يتقن فن الخطابة، لا سيما في أوساط العرب والمسلمين البريطانيين، بتأييده فلسطين وقبلها العراق. إلا أن خصومه يدّعون أن التزامه هذا ينبع من مصلحته أولاً، فهذه القضايا صارت بالنسبة إليه أشبه بـ”ماركة مسجلة” سياسية، تعطيه هويته الخاصة وتدر عليه المال. لكن المحاكم قالت خلاف ذلك في مناسبتين شهيرتين حكمت فيهما لمصلحته.
دخل البرلمان ثلاث مرات، الأولى في 1987 باسم حزب العمال الذي طرده في 2003 بسبب معارضته القوية لغزو العراق. ولا يخشى الجدال والمواجهة مع الأعداء والخصوم على حد سواء. يقاربه الإعلام البريطاني عموماً بطرق ملتوية. فهو يشكل مادة “دسمة” لأنه مثير للجدال، ويقول “ما لا يقال” عن قضايا في طليعتها إسرائيل وفلسطين. وبدلاً من تسليط الضوء على القيم التي يؤكد أنه يدافع عنها، كثيراً ما يتركز اهتمام الصحافة على الشخص نفسه الذي يمنحها صوته.
وحينما أعلن ترشحه في الانتخابات الفرعية لدائرة روتشديل، التي كانت “في جيب” حزب العمال قبل أن يفرّط بها بطريقة كارثية، أخذت التقارير المكتوبة بالأسود والأبيض عن غالاوي، زعيم “حزب عمال بريطانيا”، تتدفق على الجمهور البريطاني.
صحيح أنه اتُهم بتغيير نبرته حيال البعض والانتقال أحياناً من تمجيد شخصية قيادية في “محور الممانعة” مثلاً إلى انتقادها بحدّة. لكن ليس هناك أدلة إلى تراجعه عن دعمه الكامل لعراق صدام حسين وللمقاومة في غزة ولبنان، أو لفلسطين التي آمن بقضيتها منذ أواخر سبعينات القرن العشرين في سياق زيارة لبيروت، كما ذكر.
لا شك في أن له أخطاءه كسائر الناس. مثلاً، لم يستطع إنقاذ زواجه في ثلاث تجارب، اثنتان منها مع سيدتين فلسطينيتين. ويبدو أنه باق مع زوجته الرابعة المسلمة، الهولندية من أصل إندونيسي التي أنجبت له ثلاثة أولاد يلتحقون بإخوتهم الثلاثة من زيجات سابقة. وبعيد دخوله البرلمان للمرة الأولى حكى بعفوية عن مغامرات نسائية خاضها خلال زيارة عمل لليونان، فلُقّب منذئذ “جورج الفاتن”.
واللقب الآخر الذي لُصق به سياسي. لا يزال البعض يسميه “العضو الجدير بالاحترام عن (دائرة) بغداد”، وهي صيغة مناداة النواب في مجلس العموم. أما السبب فيعود إلى كلمة موجزة ألقاها عام 1994 في حضرة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، واشتملت على مديح فضفاض، برره لاحقاً بأنه قصد شعب البلاد وليس زعيمها الأسبق. والأرجح أن كثيرين لم يقبلوا هذا التفسير.
قيل مراراً إنه “معاد للسامية” و”ناكر للمحرقة النازية”. وهو يرفض هذا التوصيف معتبراً أن هاتين “شتيمتان”. غير أنهما لم تخرجا بعد من التداول، وخصوصاً في الصحف الصهيونية الهوى. كما أن المتعاطفين مع تل أبيب ما زالوا يرددون هاتين “الشتيمتين”، كتلك السيدة التي خرقت الصمت فيما كان يلقي خطاب الفوز بعد إعلان نتائج انتخابات روتشديل، بصراخها للتنديد به كـ”ناكر المحرقة”.
نأى بعض زملائه المقربين بأنفسهم عنه مرات عدة. واتهم بالتربح من نشاطاته السياسية، مثلاً في منظمة “الحرب على الحاجة” الخيرية، وفي “نداء مريم” الذي أطلقه أواخر تسعينات القرن الماضي لمكافحة العقوبات المفروضة على العراق. وكان أبرز الأمثلة على هذه التهم هو ما زعمته “ديلي تلغراف” البريطانية عن تلقيه “هبات” من بغداد بلغت 375 ألف جنيه إسترليني سنوياً، وما ذكرته “كريستيان مونيتورز” الأميركية التي ادعت أن ما قبضه من أُعطيات العراق كان “أكثر من عشرة ملايين دولار” إلخ. وهو نفى هذه التهم من أساسها، وقاضى
المؤسستين اللتين أجبرتهما المحكمة على الاعتذار علناً ودفع تعويضات كبيرة له.
كان غالاوي، وربما لا يزال، يعدّ العراق في ظل صدام ومع منظمة التحرير الفلسطينية و”حماس” و”حزب الله”، بين أصدقائه المقربين. وكانت له علاقات مع كوبا فيديل كاسترو وفنزويلا هوغو تشافيز. بيد أن صلاته بإيران كانت الأبقى وربما الأهم، كما يدل تعاونه مع الإعلام الممول من طهران أو المتعاطف معها.
قدّم بدءاً من 2009، برنامجاً بعنوان “الصفقة” في “برس تي في” وهو جزء من شبكة أخبار “العالم” المملوكة للحكومة الإيرانية، الذي كان مقره الرئيسي في طهران. إلا أن رخصة البث في المملكة المتحدة سُحبت منه في 2012 ما كبده خسارة مالية كبيرة، كما قال. ويقدم بانتظام منذ 2012 برنامج “كلمة حرة” الحواري عبر شاشة “الميادين” مرتين شهرياً، زعمت صحيفة “ديلي ميل” في عام 2012 أنه كان يتقاضى مقابلها 80 ألف جنيه إسترليني سنوياً.
والحق أن ما يقوله عبر وسائل الإعلام يلبي حاجات كثير من العرب والمسلمين في وضع النقاط على الحروف مع هذه الدولة الإمبريالية أو تلك. وهذا يعطيه مزيداً من الشعبية في بعض الأوساط ويزعج خصومه الذين يشنون هجمات أشد شراسة ضده. وهل تحدث أقواله فرقاً حقيقاً على الأرض، أم أنها أشبه بقنابل خلّبية، تنحصر قيمتها في الضجيج وحده؟ مثلاً، من يصدق أن بنيامين نتنياهو كان سيرفع الحصار عن غزة أو يتركها تتنفس بسبب حملات غالاوي من أجل إنقاذها التي بدأت أواخر العقد الأول من القرن الحالي، وماذا استطاع أن يفعل لها حينذاك أو الآن وهي تختنق؟
غير أن فوزه الأخير يفتح صفحة جديدة في مسيرته، وذلك بسبب غزة. وهو أعلن أنه عازم على إلحاق المزيد من الخسائر بحزبه السابق، العمال. فقد يصبح حزبه ملاذاً لنواب عماليين مستائين من تأييد زعيمهم كير ستارمر المطلق لإسرائيل. وهناك سلفاً نواب “مستقلون” جمّد عضويتهم حزبا العمال والمحافظين، فلماذا لا ينضم معظمهم إلى كتلة الحزب الجديد؟
وهو يطمح إلى أكثر من ذلك. وهو مصمم على تحقيق نجاحات أكبر في الانتخابات المقبلة. توعد بتجريد أنجيلا راينر نائبة زعيم حزب العمال من مقعدها البرلماني، خصوصاً أن أغلبيتها ضئيلة. وسيستهدف نواباً آخرين مثلها بدأوا يخشون على مستقبلهم منه ومن مرشحي حزبه المحتملين.
والمنافسة على مقاعد برلمانية في طول البلاد وعرضها تتطلب موازنة كبيرة. وبالتأكيد لن يكفي ما يتقاضاه من “الميادين” لشن حملة كهذه. فهل ستقف إيران إلى جانبه في هذه المعركة؟ لا يبدو أن ثمة مانعاً، فهو يعمل مع مؤسساتها ويثني على “أبطالها”، لا سيما السيد حسن نصر الله وإسماعيل هنية وغيرهما. فلماذا لا تُسمع صوتها بقوة بلسان خطيب مفوّه في عقر دار السلطة ببلاد تناصبها العداء؟