في المنعطفات المصيرية الكبرى، وللمرّة الرابعة خلال قرنين من الزمن، يذهب مجرى التاريخ أواخر عام 2024 في اتجاه المشروع اللبناني، في وقت كان فيه الوضع، هذه المرّة أيضاً، شبه يائس، يكاد يستحيل الخروج منه. كان المشروع اللبناني مترنّحاً بين الانهيار الاقتصادي والمعيشي التام، وازدواجية الدولة الضعيفة والتنظيم العسكري المذهبي البالغ التسلح، الخارج عنها والمهيمن عليها منذ ربع قرن بقوة «المحور». كان يمكن للمرء أن يشاهد على الشاشات مثل هذا الحوار السوريالي: يقول أحد المحاورين إنه «لا يمكن للبنان النهوض من دون قيام دولة واحدة فيه وجيش واحد، على غرار جميع دول العالم»، فيجيبه المحاور الآخر وابتسامة الثقة والرضا على وجهه: «معك حق. الدولة اللبنانية انتهت منذ عام 1975. وعليها تسليم بقاياها للدولة الحقيقية التي هي الحزب، الذي اكتملت مشروعيته بخروجه من مذهبيته وتحالفه مع فئات من سائر الطوائف والمذاهب».
اقرأ أيضا.. إسرائيل تمدّد سيطرتها وتستدرج “حزب الله”؟
مثل هذا الحوار الذي لا يعود لأكثر من شهرين، بات يبدو من زمن غابر. فهذه هي أقدار التاريخ. وقد التأمت فجأةً معطيات التحوّل، بين الواقع الذي يبدو دوماً أكثر قوة مما هو عليه بكثير، والتقاء الشعلة اللبنانية المحاصرة في الداخل، بعوامل دولية وإقليمية لا يد لها فيها، انقلب الوضع لصالح المشروع اللبناني والدولة اللبنانية. أتى اتفاق «هدنة الستين يوماً» لينهي في الواقع ظاهرة الحزب كتنظيم مسلّح، بموافقته ورضاه. ثم سقط نظام الأسد سقوطاً مدوياً، ليقطع طريق الإمداد، وليخلخل «المحور» برمته. ضمن هذه الدينامية التاريخية الجديدة تأتي انتخابات الرئاسة اللبنانية التي طال تأجيلها ومنعها. وهي ترتدي في زمن التحوّل أهمية ومعنى عميقين، عزّ نظيرهما في تاريخ «لبنان الكبير». إذ يؤمل منها أن تكون نقطة الانطلاق نحو تشكيل سلطة إنقاذية فاعلة وإعادة بناء المؤسسات اللبنانية على أسس إصلاحية وتحديثية، لا مفرّ منها لإخراج «بلاد الأرز» من الحضيض الذي أدركته بين دول العالم، ومن الجحيم الذي وصلت إليه.
هذا المسار «العجائبي» الذي أحيا آمال اللبنانيين، حيث لم يعد من أمل، لا تزال تعترضه عقبات عديدة. وإذا كان هذا المسار أيقظ الفرح والرجاء في مجمل النفوس، فهو يثير أشد القلق والمخاوف لدى الذين نهبوا لبنان منذ ثلث قرن، والذين سيطروا بقوة السلاح على مؤسساته منذ ربع قرن. وهؤلاء، على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم، لهم اليوم اليد الطولى في السلطتين التنفيذية والتشريعية. ومع أن لبنان شهد منذ خمس سنوات أحد أكبر الانهيارات الاقتصادية والمالية والحياتية في تاريخ الشعوب، ثم أحد أكبر الانفجارات غير النووية في جميع الأزمنة، فلم يتخذ مسؤولو السلطة اللبنانية والمهيمنون عليها مذ ذاك أبسط إجراء إصلاحي، إضافة إلى منعهم العدالة وضربها في السر والعلن أمام العالم.
أن يذهب مجرى التاريخ في اتجاه المشروع اللبناني ودولته، وأن يضحى ذلك مطلباً غربياً وأممياً، فتلك مفاجأة كبرى لم يكن يتوقعها كل هؤلاء، وكارثة مفجعة تحلّ عليهم. كم كانوا يفضلون أن ينسى التاريخ «بلاد الأرز» وينساهم. كانوا يحتارون ويدورون حول الانتخابات الرئاسية منذ عامين ونيّف. أما الآن فباتت هذه الانتخابات تقضّ مضاجعهم. إذ يدركون تمام الإدراك أنها ستكون نقطة الانطلاق لتكوين السلطة من جديد. وبما أن البلاد وصلت إلى قعر الهاوية، فلتحقيق النهوض بات محتماً اللجوء إلى إجراءات إصلاحية فعالة في جميع المؤسسات والمجالات، يخشى أن تُفتح معها الملفات، وتُكشَف شيئاً فشيئاً الارتكابات، وتكرّ السبحة الطويلة جداً.
ما العمل؟ منتهى الأمل في دنياهم أن يأتوا برئيس مشارك بصورة ما في الخراب، فيسعى جهده في حماية نفسه وحمايتهم. ولهم باع طويل وكفاءة عالية في هذه الصنعة، مشهود لهم فيها. لا فرق في أن يكون سيادياً أو غير سيادي، فلم يعد ذلك مهماً. المهم أن يكون «مشاركاً». وإذا تعذّر ذلك، فلا بد من الانتقال إلى «الخطة باء»، والعمل بكل الوسائل لإيصال «رئيس توافقي» يتقن فن التأجيل والتمييع ولا يجسر على التقرير، فيطول الوقت وتكثر الاحتمالات، على أمل «أن يموت جحا، أو الملك، أو الحمار»، كما في تلك الحكاية الجميلة، وينتهي الأمر. وإذا كانت موجة إحياء الدولة اللبنانية شديدة عاتية، بحيث تأتي برئيس قوي، غير مرتكب، غير محبٍ المال، وإصلاحي حقاً، فتلك حقاً «الطامة العظمى».