يبدو أن إقليم الساحل الإفريقي سيكون على موعد مع آليات عمل جديدة ينتهجها حلف شمال الأطلسي- الناتو ستتضح معالمها مع قرب انعقاد قمته التالية (يونيو 2025م)، وعقب مخرجات الاجتماع الأخير لوزراء خارجية دُوَله في بروكسل مطلع ديسمبر الجاري، والذي شهد مداولات بخصوص الوضع في الإقليم والسياسات المستقبلية للحِلْف إزائه.
وسيُركّز الناتو بشكل كبير على تفكيك “تحالف دول الساحل” -المكون من مالي والنيجر وبوركينا فاسو-، أو على الأقل نزع ذراعه العسكري والأمني المدعوم بشكل كبير من روسيا والصين وعدد من القوى الإقليمية، رغم إعلان التحالف أن مَهمته الأساسية، في شقّها العسكري، تتمثل في مواجهة الإرهاب وجماعات العنف المسلحة والإجرامية في الإقليم، وهي نفس غايات الناتو والقوى الغربية المنخرطة منذ أكثر من عقد في جهود مشابهة في الإقليم.
ويظل العامل الحاكم لمقاربة الناتو تجاه الإقليم بشكل عام، ودول تحالف الساحل على وجه الخصوص، متمثلًا في المتغيرات المرتقبة لسياسات إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب التي ستبدأ عملها رسميًّا في 20 يناير 2025م (رغم وجود مؤشرات واضحة على انخراط ترامب في العديد من الملفات بشكل مباشر منذ إعلان فوزه).
الأهمية المتزايدة لإقليم الساحل في ترتيبات الناتو:
وجَّه حلف الأطلسي “الناتو” اهتمامًا كبيرًا في العقود الأخيرة نحو إقليم الساحل (الذي ارتبط في صياغة سياسات الناتو بإقليم شمال إفريقيا) وقضاياه باعتباره “مؤثرًا في التصوُّر الأمني الجاري والمستقبلي لأوروبا وحلف الناتو ككل؛ لكونه أظهر إمكانات على تغيير الوضع السياسي والاقتصادي القائم في القارة الإفريقية”؛ بحسب عدد من وثائق الناتو؛ وحظي الوضع في الساحل بمتابعات مستمرة مِن قِبَل الناتو، كان من أهمها مؤخرًا مناقشات قمة وزراء خارجية الناتو في بروكسل (أبريل 2024م، وبمناسبة مرور 75 عامًا على قيام الحلف)، الذي ناقش ما توصلت له عملية المراجعة التي قامت بها “مجموعة من الخبراء المستقلين” حول مقاربة الناتو للأوضاع في جواره الجنوبي، وأبرزت الصلة بين مناطق هذا الجوار (الساحل والشرق الأوسط وشمال إفريقيا وما جاورها) وحلفاء الناتو، ولا سيما التحديات المحلية في إقليم الساحل والتي ضاعف من تداعياتها “المنافسة الإستراتيجية العالمية”، وأوصت “لجنة الخبراء” بوجوب تبنّي الناتو “لمقاربة شاملة قائمة على الحوار والامتداد والتعاون العملي مع المنظمات الدولية والإقليمية والدول الشريكة؛ كما أنه يجب على الناتو تركيز جهوده على نحوٍ خاصّ في مجالات مثل مكافحة العنف والأمن البحري والاستقرار والأمن المناخي والمرأة، والسلم والأمن، والأمن الإنساني”، كما أوصت اللجنة بضخّ الناتو مزيدًا من الاستثمارات في التدريب وبناء قدرات الدول الشريكة على إدارة التحديات الأمنية المعقدة داخل مناطق جواره.
كما تكتسب علاقات الناتو وسياساته تجاه إقليم الساحل (وشمال إفريقيا، كوحدة واحدة في تصنيف الحلف) أهميةً كبيرةً للغاية، ليس لاعتبار عامل القرب الجغرافي مع دول حلف الناتو الجنوبية (المتوسطية) فحسب، ولكن أيضًا في ضوء العلاقات التجارية المهمة التي تربط دول البحر المتوسط والساحل. أما بخصوص الجنوب الإفريقي فإن التعاون الأوروبي مع إفريقيا يكتسب أهميةً متزايدةً مثل إتاحة الوصول للغاز الطبيعي والبترول، والاحتياطيات المعدنية، ومُقدّرات هائلة للطاقة المتجددة. علاوةً على ذلك فإن دول الساحل من أسرع أقاليم العالم نموًّا في السكان، مما يتزامن معه تحديات وفرص للحكومات المحلية والشركاء الدوليين لها، لا سيما في ملف الهجرة، وهو عامل سياسي رئيس، ويثير مخاوف أوروبية مستدامة.
ومع هذا الاهتمام المستمر، فإن توجهات الناتو تلك، والتي تأتي في ظل تراجعات مستمرة للنفوذ الفرنسي في السنغال وتشاد وغيرهما، ستُواجه بجهود روسية وصينية بتعميق نفوذهما في الإقليم بشكل واقعي يفرض حالة جديدة، وربما تغييرًا لا يمكن التراجع عنه في ظل صعود الدعم الشعبي الواضح لسياسات وخيارات دول الساحل الأخيرة بطرد القوات الفرنسية، ورفض استمرار الصيغة الأمنية والعسكرية التي تفرضها القوى الغربية على تلك الدول.
الناتو والوجود الصيني والروسي: مشروطيات الهيمنة!
مثَّل الخروج الفرنسي المتلاحق من إقليم الساحل -وكانت آخر حلقاته التطورات الجارية في السنغال وتشاد؛ حيث طالب البلدان (بصيغ ولاعتبارات متباينة) بخروج القوات الفرنسية من أراضيهما-؛ تهديدًا جديدًا لديناميات عمل الناتو في المنطقة بأكملها، فيما تتعزز أوجه حضور النفوذ الصيني والروسي بها.
الناتو وبدائل التدخل: ورقتا أوكرانيا والتشيك
وكان دفع الناتو بدور أوكراني واضح في إقليم الساحل “لموازنة النفوذ الروسي” خطوة استباقية خطيرة لتعويض خسارة التأثير الفرنسي والاحتفاظ بموطئ قدم غربي في الإقليم، ومن باب تعظيم الاضطرابات فيه كما اتضح من شكاوى كل من النيجر وبوركينا فاسو ومالي للأمم المتحدة في أغسطس 2024م بخصوص ما رأته دعمًا أوكرانيًّا “لجماعات من المتمردين في الساحل”، بعد قطع مالي علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا مطلع أغسطس 2024م ردًّا على تصريحات أندريه يوسوف Andriy Yusov الناطق باسم المخابرات العسكرية الأوكرانية بخصوص دعم بلاده لجماعات مسلحة في شمالي مالي (بمعلومات استخباراتية حسب بيانه)، استفادت منها في قتل عشرات الجنود في صفوف الجيش المالي وقوات روسية داعمة له في يوليو 2024م([4])؛ وهو ما اعتبرته الحكومات الثلاث اعترافًا من كييف “بالتورط المباشر في الصراع ودعمها للإرهاب الدولي”؛ بحسب الشكاوى المرسلة لمجلس الأمن.
إقرأ أيضا : تركيا _ قسد .. معركة “النفس الأخير” بسوريا
وقبيل نهاية نوفمبر الماضي أكدت وكالة أنباء تحالف الساحل الرسمية AES INFO شحن أوكرانيا ذخائر فوسفور أبيض محرمة دوليًّا “لمجموعات إرهابية في مالي” بحسب اعترافات مسلحين مناهضين للحكومة عقب إلقاء القبض عليهم في شمالي مالي، وهي تصريحات تتسق مع ما ذكرته صحيفة لوموند الفرنسية (10 أكتوبر الماضي) من تدريب متخصصين أوكرانيين “للإرهابيين في شمالي مالي لمواجهة القوات الحكومية” على الأعمال القتالية العامة، وصنع درونز مزودة بمتفجرات، فيما تم -بحسب لوموند- إرسال عدد من المسلحين المناهضين للحكومة المالية إلى أوكرانيا للتدريب بها.
ويتوقع أن يتزايد اعتماد الناتو على أدوار أوكرانيا المتنوعة في إقليم الساحل (دعم استخباراتي مباشر، وتدريب عسكري داخل مناطق الاضطراب عبر إرسال خبراء أوكرانيين، واستقبال عناصر مسلحة مناهضة لحكومات الدول الثلاث مالي وبوركينا فاسو والنيجر للتدريب في أوكرانيا وغير ذلك)، كما يتضح من تركيز آخر اجتماعات للناتو في ظل إدارة جو بايدن الحالية (بروكسل 3 ديسمبر الجاري) على دعم أوكرانيا دعمًا كاملًا في مواجهة روسيا وضمنيًّا في ساحة إقليم الساحل؛ حيث تستعر المواجهات الروسية الأوكرانية بشكل واضح، وعلى نحوٍ يتسق مع تصعيد إدارة بايدن في العام الأخير تسليحها لأوكرانيا وتعاونها الكامل معها في ملفات كثيرة ومن بينها استعادة نفوذ الناتو في إقليم الساحل، دون إغفال ملاحظات الرئيس المنتخب دونالد ترامب عن شكوكه في استمرار دعم بلاده لأوكرانيا بالمستوى الراهن مستقبلًا، الأمر الذي سيغير بطبيعة الحال من حدود الدور الأوكراني في إقليم الساحل.
وبموازاة هذا الدور الأوكراني “بالوكالة”، والمفهوم بطبيعة الحال في إطار الصورة الأكبر من الصراعات الغربية- الروسية الراهنة؛ يبدو أن موريتانيا، التي تتمتع بعلاقات طيبة مع الناتو في السنوات الأخيرة، ستضطلع بدور أكبر في ترتيبات الأمن التي يعتزم الحلف القيام بها في إقليم الساحل في الفترة المقبلة، وهذه المرة من باب توظيف دول أخرى لا تملك “سجلًا عدائيًّا” في الساحل بعدُ.
وفي هذا المسار تقرر نهاية نوفمبر الماضي توجُّه قوات تشيكية إلى موريتانيا ضمن برنامج الناتو للمساعدة في تدريب الجيش الموريتاني؛ وهو ما مثل عودة قوية للتشيك (وربما دول أخرى من “أوروبا الشرقية” في الفترة المقبلة) إلى إقليم الساحل في مهمة تستغرق عامين؛ حسبما صادق البرلمان التشيكي قبل القرار بأسبوع على إرسال 30 من عناصر القوات الخاصة التشيكية لهذه المهمة؛ مع ملاحظة أن الخطوة التشيكية تأتي في إطار تعاون سابق، وقد لا يرتبط بالضرورة بالأوضاع في دول تحالف الساحل.
لكنّ الاستجابات التشيكية للخطوة تكشف عن حضور جانب مواجهة النفوذ الروسي في الساحل ودرء مخاطر تداعيات الأزمة فيه على أوروبا. فقد صرح مسؤولون بوزارة الدفاع التشيكية أن سبب إرسال هذه القوة إلى موريتانيا يتمثل في وجود “عدد من التهديدات الأمنية مثل الإرهاب والهجرة غير القانونية والآخِذة في التصاعد في الساحل، وفي الوقت نفسه فإن القوى الكبرى التي تُعادينا تتورّط بقوة هناك، وخاصة روسيا والصين.
ولاحظ جان جيريس Jan Jires، مدير قسم سياسة وإستراتيجية الدفاع في وزارة الدفاع التشيكية، أن روسيا -على وجه الخصوص- تهدف إلى زعزعة الاستقرار في الإقليم “لطرد الدول الغربية منه، وتكثيف التهديدات التي تؤثر (بدورها) على أوروبا.