ثمة سجال واسع حول استخدام مصطلح «الإبادة» لوصف ما تقوم به «إسرائيل» في غزة. فماذا تعني الإبادة في المصطلح القانوني الدولي؟ وما الذي تمارسه القوات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة؟ ثم ماذا سيترتب على الاتفاق حول المصطلح فيما لو حصل؟ ومن هي الجهة المخوّلة باتخاذ إجراءات للتعامل مع ذلك؟
من المؤكد أن الضحايا الفلسطينيين ليس لديهم وقت أو مزاج لمناقشة المصطلحات، فهم يصارعون من أجل الحياة وتفادي الموت على صعدان عديدة لا تنحصر بالقصف أو استخدام السلاح الفتاك.
ومع حلول فصل الشتاء أصبحت الحياة في العراء أو الخيام تحديا صعبا للاجئين الذين دمّر القصف منازلهم. وفي غياب وسائل التطبيب والعلاج تتضاعف معاناة سكان المخيمات حتى يصل البعض حد اليأس من إمكان الحياة. وهذه مشاهد مرئية بشكل يومي على شاشات التلفزيون، ولكنّ تفاقمها حوّلها إلى مشاهد عاديّة لا تحرّك المشاعر. ولذلك يستمر القصف بدون توقف ولا تجد قوات الاحتلال نفسها مطالبة بالتوقف عن ممارساتها.
وبهذا يتحوّل العالم إلى وجود بلا أخلاق أو إنسانية برغم جهود الإغاثة الإنسانية التي يضحّي موظفوها بأنفسهم من أجل إيصال المعونات لمحتاجيها. ومنذ بداية هذا العام قتل أكثر من 160 منهم وهم يمارسون عملهم الخيّر في الأراضي المحتلة. وأصبح واضحا أن قوات الاحتلال تستهدف موظّفي الإغاثة بشكل مستمر.
لقد لقي أكثر من 45 ألفا من سكان غزة مصرعهم في القصف اليومي بالطائرات. وهناك أكثر من ثلاثة أضعاف هذا العدد من الجرحى الذين فقد الكثيرون منهم أطرافا وحرموا من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي. وبرغم الدعوات العالمية لوقف إطلاق النار ما تزال «إسرائيل» ترفض ذلك وتصر على مواصلة القصف الذي لا يسلم منه الكبير او الصغير.
ويرى البعض أن ما يحدث في غزة ينطبق عليه ما جاء في التعريف القانوني للإبادة. ويشجعه على ذلك أمور عديدة: أولها أن القصف أصبح ممارسة «عادية» ساهمت في تكلّس القلوب وتبلّد المشاعر لدى الكثيرين.
ثانيها: أن الإعلام الغربي الذي يفترض أن يساهم في تحريك ضمائر المسؤولين في العواصم العالمية أصبح يتحاشى الوصف الدقيق والواقعي لما يحدث، وراح يبحث في أمور لا يمكن إثباتها أو تجاوزها ومنها «أن إثبات جريمة الإبادة الجماعية ضد المسؤولين الإسرائيليين يتطلب أيضا إثبات نيتهم»، أو «أن الاتصالات والنقاشات مستمرة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار»، أو يبالغ في الحديث عن قضايا إقليمية حول ما يجري في سوريا مثلا أو اليمن ويتحاشى التطرق لما يعانيه ضحايا القصف الإسرائيلي.
ثالثها: عدم اكتراث الدول الأخرى بما يعانيه الفلسطينيون، وما أكثر الانتقاد الموجّه للجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي بالإضافة للأمم المتحدة لعدم التصدّي الجاد للعدوان، بل أن بعض الدول العربية هرع للتطبيع مع الاحتلال.
رابعا: يعتقد زعماء الاحتلال أنهم يمتلكون من القدرات العسكرية ما يجعلهم قادرين على الاستمرار في العدوان الهادف لتحقيق الأهداف التي انطلق من أجلها. فقد أعلن نتنياهو أن هدفه القضاء على مجموعات المقاومة الفلسطينية واللبنانية. وبرغم القصف الشامل والاغتيالات الشاملة لم يتحقق له ذلك.
هناك خطابان متضادان يؤثران بشكل مباشر على مسار الصراع العربي – الإسرائيلي. فالاحتلال يخطط للهيمنة المطلقة على المناطق الممتدة من النهر إلى البحر، بما في ذلك لبنان والأردن وسوريا وجزء كبير من العراق. ويعتبر ذلك مهمّة توراتية برغم الوجه العلماني لحكومات الاحتلال. ويسعى من أجل ذلك لمحو خريطة فلسطين من الوجود ومن الذاكرة البشرية، وفرض كيان الاحتلال كحقيقة تفرض نفسها بقوة السلاح والدعم الغربي خصوصا الأمريكي. هذا الخطاب مضى عليه أكثر من قرن وربع وما يزال يعشش في أذهان الصهاينة ويدفعهم للتسلح من أجل التوسع.
اما الخطاب الثاني فهو ما يؤمن به أصحاب الأرض وداعموهم من العرب والمسلمين وشعوب كثيرة في أنحاء واسعة من العالم. هذا الخطاب يرفض الاحتلال ويعتبر شعب فلسطين مظلوما وأن دعمه مسؤولية إنسانية وضرورة سياسية. وبرغم تداعي الموقف العربي، فإن هذا الخطاب يجد له أصداء لدى الشعوب التي تخشى من توسع نطاق الاحتلال، ويعتبر أن التمدد الإسرائيلي لا يخدم الأمن والاستقرار الإقليميين والدوليين. هذا الخطاب، برغم تحاشيه من قبل بعض الأنظمة التي هرعت للتطبيع مع الاحتلال، يمثل خطّا مستقيما تتوافق بشأنه كافة الشعوب العربية والإسلامية وشعوب أخرى ذات نزعة تحررية وإنسانية.
هذا الخطاب أيضا يعتبر الوجود الإسرائيلي احتلالا غاشما لا يحظى بشرعية وليس مدعوما بقرارات دولية، ويشكك حتى في القرارات الأولى التي صدرت بعد التقسيم. الخطابان مستمران في تعايش قلق ضمن أطر هشة ليست مرشحة للاستمرار. وتلعب الهيمنة الغربية دورا محوريا للحفاظ على «الوضع الراهن» الذي تحظى فيه «إسرائيل» بهيمنة سياسية وعسكرية غير مسبوقة. كما يساهم تخاذل الأنظمة العربية في ذلك.
بين هذين الخطابين، تسعى «إسرائيل» لفرض واقع يقبل بالتخلي عن فلسطين في مقابل «السلام» الذي يسعى الغربيون لفرضه على المنطقة.
هذا السلام المزعوم، فيما لو حدث، سيكون تعبيرا عن ظلامة تاريخية للجانب الفلسطيني والعربي، وسيمثل تحديا للضمير العالمي، وسيصيب مشاريع التضامن والتحرر وحق تقرير المصير في مقتل. فهو مفروض بقوة السلاح على شعب مظلوم لم تُسلب منه أسباب القوة فحسب، بل أصبح مستهدفا في عيشه من خلال سياسات جديدة تمارس التجويع والتعطيش. يضاف إلى ذلك أن السياسة الإسرائيلية الحالية تجاوزت في استهدافها الجانب الفلسطيني وأصبحت تستهدف الحكومات والمجموعات المرتبطة بمشروع التحرير.
سياسة التجويع أصبحت واضحة للعيان، الأمر الذي دفع منظمات دولية عديدة لشجبها والدعوة لوقفها. فقالت منظمة هيومن رايتس ووج في تقرير أصدرته في 19 ديسمبر: «هذه السياسة، التي فرضت كجزء من القتل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين في غزة، تعني أن السلطات الإسرائيلية ارتكبت جريمة ضد الإنسانية تتمثل في الإبادة، التي لا تزال مستمرة.
اقرأ أيضا| أمريكا وأوروبا.. والصمت المتعمد أمام جرائم الإبادة
كما تصل هذه السياسة إلى حد اعتبارها أحد أفعال أعمال الإبادة الجماعية الخمسة بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948» التي تعرّف بأنها «أفعال ارتكبت بنيّة التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية». وتقول منظمة العفو الدولية في تقرير نشر في 5 ديسمبر أن «إسرائيل والجيش الإسرائيلي ارتكبا ما لا يقل عن 3 من الأفعال الخمسة المحظورة بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، وهي القتل، والتسبب في أضرار بدنية أو نفسية خطيرة، وفرض ظروف معيشية تهدف عمدا إلى التدمير الجسدي لمجموعة محمية»
وقد رفضت «إسرائيل» الاتهامات الموجّهة لها بأنها تمارس إبادة بحق الفلسطينيين. ولكن هذا الرفض لم تتبعه تغيرات جوهرية في أساليب التعاطي مع أهل الأرض. فما يزال القصف الجوّي مستمرا بدون توقف، حيث يحصد أرواح ما يقرب من 50 شخصا يوميا، يمثل الأطفال والنساء نسبة كبيرة منهم. ويُفترض أن تكون مشاهد القتل خصوصا للأطفال والنساء وتدمير الأبراج وسحق الإنسانية باعثة للتقزز والغضب، ومانعا عن البحث عن أعذار لمرتكبيها.
كما يُفترض أن يكون للقضاء الدولي دور فاعل لردع العدوان ومحاصرة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية. ولكن الواقع لا يؤكد ذلك، بل أنه حافل بهذه المشاهد التي لم تعد تحرّك المشاعر الإنسانية خصوصا لدى السياسيين الذين يعتبرونها ضمن «أضرار الحرب الضرورية».
والأمل أن يستفيق الضمير الإنساني من غفلته وينتفض من أجل الجياع في غزة، ومن أجل الأرواح التي تزهق يوميا في الأبراج السكنية التي تدمرها الطائرات الإسرائيلية بدون رادع من ضمير. في أجواء عيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، يجدر بزعماء الغرب الاحتذاء بنهجه المتميز بالحب والرأفة وتقديم العون بلا حساب. بهذه الروح سيعيش العالم حياة أكثر أمنا واستقرارا وبعدا عن الحرب والدماء، فتلك رسالة السماء لأهل الأرض، لكي يعيش أهل فلسطين، بمسلميها ومسيحييها ويهودها في أمن وسلام واستقرار بعد عقود من التوتر والاضطهاد والاحتلال. ألم يحن الوقت لوقف «الإبادة» التي تحدث عنها الأمين العام للأمم المتحدة وشجبتها المنظمات الحقوقية المذكورة؟