منذ سنوات يتحدّث كثيرون عن سيناريو تقسيم سوريا كأمر واقع سيُفرض عليها في يوم من الأيام. وبعد الزلزال السياسي الأخير الذي أدّى إلى سقوط السلطة السورية المتمثّلة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد عاد الحديث عن تقسيم سوريا إلى الواجهة. فمن يقرأ عن الواقع السوري خلال العقد الأخير يستنتج أن سوريا باتت دولة تؤثّر فيها 7 دول بشكل رئيسي، دعمت كل من روسيا وإيران السلطة السورية السابقة، في حين ساندت الولايات المتحدة وحلفاؤها، وهي فرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا، إضافة إلى تركيا، الجماعات المناهضة لها.
وتبرز 4 دول أجنبية في وجودها العسكري على الأراضي السورية، وهي: الولايات المتحدة وتركيا وإيران وروسيا، وتتباين كل منها في الأهداف، وتتفاوت في حجم الحضور العسكري وتأثيره والمهام المنوطة به، وتملك تلك الدول مجتمعة 801 قاعدة ونقطة عسكرية، بحسب بيانات مركز جسور للدراسات لعام 2024. وبطبيعة الحال لكل دولة من هذه الدول مصالحها المختلفة وهي بناءً على قراءتها لمصالحها تدعم الأطراف والجماعات التي تحقّق لها الحد الأقصى من المكاسب. فتدعم تركيا مثلًا هيئة تحرير الشام فيما تدعم واشنطن قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
ومع سقوط السلطة السورية السابقة وانسحاب إيران من سوريا وقلق روسيا من مستقبل حضورها هناك برزت قراءات تتحدّث عن لجوء دول عربية جديدة لتعزيز استثمارها في بعض الجماعات السورية للحد من استفراد زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع في السلطة. والحديث هنا بشكل أساسي عن السعودية والإمارات التي ترى فيما حدث خطرًا محتملًا وفرصةً في الآن ذاته. فتعتبر الرياض وأبو ظبي أن عودة الإسلام السياسي، المدعوم من تركيا وقطر بشكل أساسي، إلى الحكم من بوابة دمشق خطرًا كبيرًا. وفي الوقت ذاته قد تجد هاتان الدولتان الفرصة سانحة لتعزيز استثمارها في بعض الجماعات المعارضة لكي يكون لها نفوذ في أي سلطة جديدة حاكمة.
تركيا والخطر الكردي
تُعتبر تركيا من أكثر الدول تحقيقًا للمكاسب نتيجة سقوط النظام السوري السابق. فلم تخف القيادة التركية يومًا رؤيتها بوجوب ألا يبقى بشار الأسد رئيسًا للبلاد. وهي أصلًا كانت من أوائل الدول التي تبنّت خيار إسقاط بشار الأسد بداية الربيع العربي. ففي تشرين الثاني 2011 قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في اجتماع في اسطنبول مخاطبا الاسد “تستطيع أن تبقى في السلطة بالدبابات والمدافع فقط لفترة معينة ليس الا. وسيأتي اليوم الذي سترحل فيه انت ايضا”.
اقرأ أيضا.. مستقبل الجماعات الجهادية في سوريا.. بين هيئة تحرير الشام وداعش
لطالما كانت لتركيا مصالح راسخة في سوريا، وقبل سقوط الأسد، تعهد الرئيس رجب طيب أردوغان مرارا وتكرارا بشن عملية برية في شمال سوريا، بهدف إفراغ المنطقة من المقاتلين المتحالفين مع “حزب العمال الكردستاني”، والذي تعتبره تركيا منظمة “إرهابية” تشكّل تهديدًا لها.
ومع سقوط النظام اعتبرت تركيا أنها أمام فرصة لتحقيق أكبر قدر من المصالح في سوريا، وعلى رأس هذه المصالح منع إقامة كيان كردي مستقل تعتبره أنقرة تهديدًا لها. فنجاح أحمد الشرع، المدعوم من تركيا بشكل أساسي، أعطى أنقرة نفوذًا على منافسيها في سوريا ستعمل على استغلاله للحد الأقصى.
وبعد بدء هجوم الفصائل المسلحة المُعارضة بهدف إسقاط النظام، اندلع القتال بين “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا والمسلحين الأكراد في الشمال الشرقي. وعندما نجح تحرّك المعارضة المسلّحة التي تقودها “هيئة تحرير الشام”، تصاعد القتال المفتوح بين “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا والقوات الكردية على مدى الأسابيع الماضية.
ونقلت صحيفة وول ستريت جورنال عن مسؤولين أميركيين لم تسمهم قولهم إن تركيا وحلفائها من الميليشيات يحشدون قوات بالقرب من كوباني (عين العرب)، وهي مدينة ذات أغلبية كردية في سوريا، وسط مخاوف من عملية عبر الحدود وشيكة. وبما أن قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أي المسلّحين الأكراد، مدعومون من الولايات المتحدة سارع البيت الأبيض لمنع التحرّك ضدّهم. فأعلنت الخارجية الأميركية، يوم 16 كانون الأول الجاري، عن تمديد اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا و”قسد” حول مدينة منبج في شمال سوريا لبضعة أيام فقط أملًا في التوصّل إلى اتفاق مع الأتراك يوقف الهجوم المُحتمل.
ورغم هذا الإعلان واصلت تركيا والفصائل الموالية لها هجماتها على عدة مناطق في محيط عين العرب (كوباني) وسد تشرين وعين عيسى بشمال سوريا في “خرق” للهدنة. فيعتبر أردوغان أنه حاليًا في ذروة التفوّق على منافسيه في سوريا وأن اللحظة الحالية هي اللحظة الأمثل للتحرّك ضد كل ما تعتبره أنقرة تهديدًا لها.
وبات جليا أن قوات المعارضة التي تعيش أفضل حالاتها، تتجه لتركيز ثقلها على تنظيم قسد الذي أثار المخاوف طوال الأعوام الماضية من اتجاهه إلى قيادة مشروع تقسيم مستفيدا من دعم التحالف الدولي. وما زاد الأمور صعوبة على قسد هو أن تزايد نفوذ أنقرة في الداخل السوري سيرفع من عدم رغبة مختلف المكونات السورية في التقارب مع قسد، فالكل سيسعى لتجنب إغضاب أنقرة التي ازدادت فعاليتها في الملف السوري بالتوازي مع انحسار دور إيران وروسيا.
ونتيجة تبدل الأوضاع السياسية وتصاعد الضغط عليها، فقد تبنت قسد في 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري رفع العلم السوري الموحّد الجديد (علم الثورة السورية)، في خطوة تبدو مؤشرا على إمكانية اندماجها ضمن المرحلة القادمة، والتخلي عن فكرة الإدارة الذاتية، لكن مع الاحتفاظ بمكتسبات سياسية وثقافية واضحة. وعليه يمكن القول أن قسد في هذا التوقيت في أضعف مراحلها وهو يُقلق قادتها من إمكانية أن يستفيد أعداءها، وعلى رأسهم داعش، للتحرّك ضدها.
سوريا والتقسيم
لا يزال الوقت مبكّرًا للإجابة على سؤال إن كانت سوريا ذاهبة نحو التقسيم. فعوامل عديدة محلية وإقليمية ودولية تتداخل للتأثير على هكذا الخيار. فسيناريو التقسيم ظهر بشكل كبير أيام الربيع العربي ومنذ تلك اللحظة لم يغب عن لسان مختلف الشخصيات السياسية والإعلامية.
ومع سقوط النظام وتحوّل العلويين من الأقلية الحاكمة إلى الأقلية التي تحتاج حماية تكثّفت القراءات التي تطرح إمكانية فصل الساحل السوري كبداية لتقسيم البلاد. ولعل الإجابة على هذا الطرح تقع بشكل أساسي على السلطة السورية الجديدة، فمستوى تمسك قوى المرحلة الانتقالية بوحدة الدولة السورية ومركزيتها في مقابل الدعوات إلى الفيدرالية يعتبر عاملًا محدّدًا في مستقبل البلاد.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن خروج المعارضة المسلّحة من الشمال السوري وعودتها إلى كامل الأراضي السورية يعني أن كل الجماعات التي كانت منضوية تحت هيئة تحرير الشام في إدلب عادت اليوم إلى الجغرافيا والديمغرافيا الأساسية لها. وهذا ما يرفع من احتمالية أن تعيد هذه الجماعات تشكيل نفسها في مناطقها والمطالبة في حصة داخل الإدارة الجديدة للبلاد.
لا شك أن الجغرافيا السورية تعتبر أرض خصبة لأي مشروع تقسيمي. فبعد سقوط الأسد برز الحديث مجدداً عن “الكيان السني” في إشارة إلى المناطق التي انتشرت فيها المعارضة السورية، لتعيد للأذهان تجربة ولادة “روج آفا” في شمال شرقي سوريا، حينما أعلن الأكراد في مارس (آذار) 2016 من محافظة الحسكة (شمال شرق)، عن إقرار النظام الفيدرالي في المناطق الخاضعة لسيطرتهم شمال البلاد، وهو ما رفضته السلطة السورية ومعظم المعارضة السورية آنذاك أيضاً، لكن هذا الموقف لم يمنع الأكراد من بقاء سيطرتهم على ثلث مساحة سوريا. يضاف إلى ذلك الآن، مما يشار إليه بالكيان العلوي في الساحل، وأخيراً يطل من جديد الكيان الدرزي في السويداء ذات الغالبية الدرزية، مع مشاركة التشكيلات المسلحة المحلية من السويداء ودرعا الجارتين في الجنوب السوري المحاذيتين للحدود مع الأردن في غرفة العمليات المشتركة لفصائل المعارضة السورية.
المرحلة الحالية هي مرحلة ترقّب إن كانت هيئة تحرير الشام ستنجح في منع الفوضى وتوحيد الجميع تحت كنفها في مرحلة الحكم المقبلة. ومن الواضح أن هذا ما يعمل عليه زعيم الهيئة أحمد الشرع الذي يقوم بكل ما يلزم للإسراع في تشكيل السلطة الجديدة قبل أن تتعزّز الخلافات الداخلية التي قد تمنعه من تحقيق هذا الهدف. وهو في هذا الإطار منع تدمير مؤسسات الدولة ويحاول احتواء الأقليات في سوريا ويُرسل رسائل إيجابية لجميع الدول العربية وللغرب. ومن هذه الرسائل عدم التركيز على كل ما تقوم به إسرائيل في سوريا وعدم تبنّي الخطاب الإسلامي المُنفّر للسعودية والإمارات ومهاجمة إيران ومحور المقاومة والتركيز على المشاريع الاقتصادية أملًا في أن يرفع الغرب العقوبات عن سوريا. فهل ينجح أحمد الشرع أم ستكون الفوضى هي الخيار الذي لا مهرب منه؟