الهجوم الذي بدأ في السابع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم، وأطاح سريعًا بنظام بشار الأسد بحلول الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، سلط الضوء على المسارات المتشابكة للفصائل السورية التي جمعها هدف واحد؛ هو الإطاحة بالرئيس السوري على مدار عقد من الحرب الأهلية، وهو ما يفرض كثيرًا من التساؤلات التي تمتد إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة المباشرة، إذ ترتبط بطبيعة تلك الجماعات الجهادية، خاصة الفصيل المهيمن على المعارضة السورية “هيئة تحرير الشام”، وعلاقته المعقدة مع تنظيم “الدولة الإسلامية” من الولاء إلى العداء.
وفي هذا السياق، يكشف التطور المثير للجدل للجماعات الجهادية في سوريا، وخاصة هيئة تحرير الشام وداعش، عن قدرة تلك الجماعات على الصمود والقابلية للتغيير، وفي ظل الأزمات القاصمة فإنها تتكيف وتتطور وتعود إلى الظهور في أشكال جديدة، مستغلة في كثير من الأحيان فراغات السلطة والمظالم التي لم تُعالَج لتعيد تشكيل نفسها بأسماء مختلفة وأيديولوجيات متغايرة.
جذور العلاقة المعقدة بين هيئة تحرير الشام وداعش
تحت عنوان “شام الجهاد” أُعلِن تأسيس “جبهة النصرة لأهل الشام” على يد أحمد الشرع، المعروف شعبيًّا باسمه الحركي؛ أبي محمد الفاتح الجولاني، بعد أن أرسله تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق إلى سوريا عام 2011، غير أن الجولاني أظهر سريعًا نزعته المستقلة، وتحدى تعليمات تنظيم الدولة الإسلامية وركز على إقامة سيطرة إقليمية لجبهة النصرة في أجزاء من شمال سوريا وشرقها. وقد أرست هذه الخطوة الأساس لاستقلالية هيئة تحرير الشام.
اقرأ أيضا.. سوريا.. وخريطة رسم النظام العربي المقبل
وبدأت الخلافات تتصاعد بين تنظيم دولة العراق الإسلامية وجبهة النصرة منذ أبريل (نيسان) 2013 عندما أعلن زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق أبو بكر البغدادي اندماج الجماعتين في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وهو ما رفضه الجولاني، وقطع علاقاته بتنظيم الدولة الإسلامية، وأعلن ولاء جبهة النصرة إلى تنظيم القاعدة؛ ما مثل إعلان العداء الرسمي بين داعش والجولاني.
وما لبثت جبهة النصرة أن نفذت تحولًا أهم في عام 2016، حيث أعادت الجماعة تسمية نفسها باسم جبهة فتح الشام، ونأت بنفسها عن تنظيم القاعدة وأيديولوجيته العابرة للحدود الوطنية، لتركز جهودها على الساحة السورية، وواصلت جبهة فتح الشام تحركاتها في أواخر يناير (كانون الثاني) 2017، وانفصلت عن تنظيم القاعدة، ومن أجل تشكيل الكيان الجديد تحت اسم “هيئة تحرير الشام”، اندمجت مع كثير من الجماعات الأخرى، كحركة نور الدين الزنكي، ولواء الحق، وجيش السنة، وجبهة أنصار الدين، وقد سمح هذا التطور الإستراتيجي لهيئة تحرير الشام بترسيخ نفسها على نحو أعمق في الداخل السوري، ومن خلال تغيير الولاءات والإستراتيجيات، تمكنت الهيئة من الحفاظ على دورها في السياق المحلي.
من الولاء إلى العداء
يرتبط الخلاف الجوهري بين هيئة تحرير الشام وداعش بتباين المرجعيات الفقهية للطرفين؛ إذ يستند داعش إلى أطروحات أبي عبد الله المهاجر، في حين تستند هيئة تحرير الشام إلى أطروحات أبي مصعب السوري، ولعل سبب العداء الأبرز يعود إلى النشاط الإستراتيجي والتكتيكي للتنظيمين؛ ففي حين يتبنى داعش فكرة الجهاد العالمي، تصر هيئة تحرير الشام الارتكاز على مبدأ الجهاد المحلي في سوريا؛ لذا دفعت تلك الأسباب إلى تنامي المواجهات المسلحة بين الطرفين، واستهداف هيئة تحرير الشام عناصر داعش وقياداته في السنوات القليلة الماضية، خاصة في مناطق سيطرتها ونفوذها في سوريا، وكان من أبرز تلك العمليات مقتل زعيم داعش الرابع أبي الحسين الحسيني القرشي في أغسطس (آب) 2023، إذ أعلن المتحدث باسم التنظيم أن القرشي قُتل في مواجهات مع هيئة تحرير الشام في منطقة إدلب، لكن الهيئة نفت ذلك.
وفي هذا الإطار، اعتمد نهج الجولاني لمحاربة داعش وترسيخ نفوذ هيئة تحرير الشام كفاعل مؤثر في سوريا على إستراتيجية متعددة المسارات، حيث هدفت المرحلة الأولى في بداية عام 2018 إلى القضاء على الجماعات الإيرانية والمسلحين من بلدتي الفوعة وكفريا، الذين كانوا يشكلون تهديدًا للمنطقة بكاملها، وحافزًا للتعبئة الطائفية، التي استغلها داعش لتحقيق أهدافه، في حين شنت هيئة تحرير الشام خلال المرحلة الثانية، بنهاية عام 2018، حملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية وحلفائه في سوريا، الذين ندد بهم الجولاني باعتبارهم مزعزعين للاستقرار؛ لذا تضمنت المرحلة الثالثة تحصين شمال سوريا والدفاع عنه من أجل منع خسارة مزيد من الأراضي، من خلال إستراتيجية عسكرية وسياسية، حيث سعت هيئة تحرير الشام إلى الوحدة بين الجماعات الجهادية في سوريا باعتبارها صفًا واحدًا متماسكًا، لكن الآن، وبعد اقتراب هيئة تحرير الشام من مشارف تقلد السلطة في سوريا، بدأت تتنصل من ولاءاتها للجماعات الجهادية الأكثر تطرفًا.
مستقبل سيطرة الجماعات الجهادية على سوريا
يثار القلق من القيادة المحتملة لهيئة تحرير الشام لسوريا، ارتباطًا بالجذور الجهادية للهيئة، والاتهامات الموجهة إليها بشأن سجل الجماعة السيئ في مجال حقوق الإنسان في المناطق التي حكمتها في السنوات الأخيرة، وخاصة في محافظة إدلب، شمال غرب سوريا؛ إذ اتهمتها الأمم المتحدة باحتجاز معتقليها في مرافق سرية يشار إليها باسم “السجون الأمنية”، وهو ما رفضه الجولاني في تصريحاته في إطار عملية إعادة الصورة التي تسعى الهيئة إلى تصديرها منذ العملية الأخيرة التي أطاحت بالأسد، والتنديد بالممارسات الإسلامية المتطرفة للجماعات الإرهابية على شاكلة القاعدة وداعش.
وبالنظر إلى حجم المكاسب المتوقعة التي سيحظى بها داعش إثر الوضع المعقد في سوريا، نجد أن غياب نظام الأسد سيمنح التنظيم حرية أكبر في المناورة والحركة، ليس في سوريا فقط؛ بل إن عودة داعش تلك المرة يمكن أن يساعد على تعزيز الشبكة العالمية للجماعة المرتبطة بالفروع المختلفة، والشركات التابعة، ومجموعات الامتياز التابعة للدولة الإسلامية على مستوى العالم؛ وهو ما يحفز داعش على العمل بإصرار لإعادة هيكلة التنظيم، وتجنيد أعضاء جدد، مع التركيز على استغلال التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، وخطوط الصدع القائمة، التي قد تتفاقم بين القبائل والعشائر والفصائل السورية، خاصة أن هجمات التنظيم تضاعفت ثلاث مرات عن العام الماضي، لتصل إلى 700 عملية في سوريا وحدها في عام 2024.
وبعد سقوط الأسد، من المرجح أن ترتكز تلك الهجمات على أهداف أكثر وضوحًا، مثل السجون ومعسكرات الاعتقال في شمال شرق سوريا، التي تحرسها حاليًا قوات سوريا الديمقراطية، مستغلة تصاعد الاشتباكات بين الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا وقوات قسد في كوباني ومنبج، وإذا دفع الزعيم التركي رجب طيب أردوغان لبناء المنطقة العازلة في تركيا فإن ذلك سيؤثر -تأثيرًا مباشرًا- في القتال ضد داعش، خاصة بعد إعلان دونالد ترمب نيته سحب القوات الأمريكية المتبقية في سوريا، البالغ عددها 900 جندي. كما أن إشادة ترمب بالدور الذي تؤديه تركيا في سوريا يشير إلي احتمالية ترك الولايات المتحدة ساحة القتال ضد داعش لأنقرة، وهو ما سيحمل فرصة للتنظيم من أجل إعادة تجميع صفوفه؛ ومن ثم، فعلى المديين المنظور والمتوسط، من المحتمل أن يواصل تنظيم الدولة الإسلامية زيادة وتيرة عملياته، في حين يعمل في الوقت نفسه على إرساء مبادئ جديدة للتنظيم، خاصة بعد أن رأى مدى نجاح هيئة تحرير الشام في إسقاط نظام الأسد في أيام معدودة؛ لذا سيسعى جاهدًا إلى الحفاظ على حكومة ظل في أجزاء من سوريا خارج سيطرة هيئة تحرير الشام، وقد يساعده على ذلك استقطابه متشددين داخل هيئة تحرير الشام غير قابلين للنهج الحالي الأكثر اعتدالًا وبراغماتية للهيئة، خاصة الجهاديين من الشيشان والبلقان وآسيا الوسطى. وكما فعل مع الحرب في غزة، سوف يبحث داعش عن روايات مبتكرة لتأطير سقوط حكم الأسد بطرائق تساعد على تعزيز جاذبية الدولة الإسلامية.
الخاتمة
تتمثل العقبة الأكثر خطورة أمام تطلعات تنظيم الدولة الإسلامية في وجود دولة قوية وموحدة تحت قيادة مدنية يمكنها ممارسة السيادة والسيطرة على سوريا، لكن ثمة عوامل تحول دون هذا، وتنذر بفرصة ذهبية لداعش لتسهيل عودته وانتعاشه، ليس فقط في سوريا؛ ولكن في أجزاء أخرى من إفريقيا، وآسيا الوسطى، ودول أمريكا اللاتينية، ومن بين تلك العوامل: سيطرة الأكراد بحكم الأمر الواقع على الشمال الشرقي، والاشتباكات بين العرب والأكراد، والتكهنات بشأن عملية عسكرية تركية وشيكة في سوريا، بل الأهم حالة اللا يقين بشأن حكم هيئة تحرير الشام، وهل ستنجح في تكرار سيناريو طالبان في أفغانستان، والاعتراف رسميًّا بحكم الجماعة الجهادية لسوريا، لا سيما بعد المناقشات الأمريكية المكثفة لرفع اسم الهيئة من قائمة الإرهاب.