يتعاطى المجتمع الدولي مع الأوضاع في اليمن بكثير من السطحية الناتجة عن عدم الإلمام الكامل بماهية الجذور المتسببة بهذه الحرب ولهذا تفشل جهودهم المتكررة لإيقافها وتحقيق سلام عادل شامل ومستدام. يُركّز المبعوثون الدوليون والمنظمات وسفراء الدول الفاعلة في الشأن اليمني على البعد السياسي في هذه الحرب، ويتجاهلون حقيقة أنَّ اليمنيين عندما يخوضون هذه المعركة ضد الحوثيين لأنَّهُم يرفضون العنصرية السلالية التي تُغلّف نفسها بالطائفية والدِّين، وبالتالي فإنَّ الأبعاد الاجتماعية والإنسانية الحقوقية حاضرة بشكل أساس في هذه الحرب كما كانت سببًا للحروب القديمة.
النظرية الدينية والسياسية للحوثيين قائمة على محورية ونقاء وتميُّز السلالة التي ينتمون إليها، ولهذا تستتبعها استحقاقات سياسية (تمنحهم الحكم)، واقتصادية (تعطيهم الخمس)، ويجب أن يتحكموا بأموال اليمنيين وأعمال ومؤسسات اليمنيين، ودينية: حيث يجب على اليمنيين أن يدينوا لهم بالولاء والطاعة، وإلَّا فهُم كفار يستحقون القتل، واجتماعية: فعلى اليمنيين أن يُقبِّلوا أقدامهم وأيديهم ويضعوهم على رأس مجالسهم، وهذه عنصرية لم تَعُد موجودة إلَّا لدى هذه الجماعة، وبناءً على ذلك فكُلُّ الجرائم والانتهاكات التي يمارسها الحوثيون في اليمن هي بدوافع عنصرية عِرْقية.
هي عنصرية لا يتحدث عنها الحوثيون علنًا إلَّا في حدود ضيِّقة، لكنَّها موجودة في كتبهم ومؤلفاتهم وتشريعاتهم وقنواتهم وممارساتهم اليومية، سواء كانت رسمية أو مجتمعية، وكثيرًا ما يفصح عنها أتباعهم في المجالس واللقاءات المجتمعية.
تظهر قيادات الحوثي لتتحدَّث عن التعايش ووحدة الصف، لكنَّ هذه الخطابات والتصريحات، والتي تهدف إلى تخدير اليمنيين بدرجة أساسية، تصطدم بنظريتهم الدينية (الولاية) التي تحصر الحُكم والثروة الوطنية والجاه والعلم في سلالة بعينها دون بقية اليمنيين، ثم تأتي الممارسات القائمة على التمييز العنصري، وكذلك القوانين والتشريعات العنصرية، مثل قانون شرعنة خمس «بني هاشم» المذكور في الفصول السابقة.
إنَّ تناوُل الجماعة الحوثية كأيديولوجيا وممارسة عنصريتين يتيح لنا فهم دوافعها في تجويع اليمنيين والتنكيل بهم معتمدين على نصوص دينية مفتراة تقول بأنَّهُم يتميَّزون عن بقية البشر، وأنَّهُم الأحق بالحُكم وإدارة الأموال وتقديم الدين الإسلامي للآخرين وتفسير القرآن الكريم، وأنَّ السعي وراء هذا الحق بالقوة والعنف شكل من أشكال الجهاد والتعبُّد والتقرُّب إلى الله عز وجل.
ومن هذا المنطلق، يمارسون كمًّا هائلًا من الانتهاكات ضد اليمنيين على أساس تفضيلي تمييزي قائم على العِرْق والطائفة، وفي مجملها تُعتبَر هذه الممارسات جرائم حرب وجرائم مُرتكَبَة ضد الإنسانية.
بناءً على هذه العقيدة الاستعلائية تتعامل جماعة الحوثي مع اليمنيين وتتخذ الدين وبعض الشعارات السياسية المتعلقة بمحاربة أمريكا وإسرائيل وتحرير القدس والسيادة ومحاربة الدواعش والتكفيريين والإرهابيين غطاء لفرض هيمنتها، حتى لو تطلَّب ذلك ارتكاب مذابح جماعية وتهجير السكان وتفجير منازلهم وتجويعهم.
وبالرجوع إلى الأفعال التي نصَّت عليها المادة (2) من «الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها» باعتبارها ممارسات فصل عنصري، يمكن لأيَّة مراجعة موضوعية وقراءة فاحصة مُنصِفة التأكيد بأنَّ الجرائم التي تمارسها جماعة الحوثي بشكل مُمنهَج ومستمر لا تعني إلَّا أنَّ هذه الجماعة عنصرية فكرًا وعقيدة وممارسة.
وبالعودة كذلك إلى الاتفاقية الدولية لمواجهة جريمة الفصل العنصري، فقد أكدت على عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، كونها وبحسب المادة (1/ 1) جرائم تنتهك مبادئ القانون الدولي، ولا سِيَّما مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتُشكّل تهديدًا خطيرا للسلم والأمن الدوليين.
وتقول المادة (الثانية) من الاتفاقية: تنطبق عبارة «جريمة الفصل العنصري»، التي تشمل سياسات وممارسات العزل والتمييز العنصريين المشابهة لتلك التي تُمارَس في الجنوب الأفريقي، على الأفعال اللاإنسانية الآتية، المُرتكَبَة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية ما من البشر علي أيَّة فئة عنصرية أخرى من البشر، واضطهادها إيَّاها بصورة منهجية:
أ) حرمان عضو أو أعضاء في فئة أو فئات عنصرية من الحق في الحياة والحرية الشخصية:
«1» بقتل أعضاء من فئة أو فئات عنصرية.
«2» بإلحاق أذى خطير، بدني أو عقلي، بأعضاء في فئة أو فئات عنصرية، أو بالتعدِّي علي حريتهم أو كرامتهم، أو بإخضاعهم للتعذيب، أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة.
«3» بتوقيف أعضاء فئة أو فئات عنصرية تعسُّفًا وسجنهم بصورة لا قانونية.
ب) إخضاع فئة أو فئات عنصرية، عمدًا، لظروف معيشية يُقصد منها أن تفضي بها إلى الهلاك الجسدي، كُليًّا أو جزئيًّا.
ج) اتخاذ أيَّة تدابير، تشريعية وغير تشريعية، يُقصد بها منع فئة أو فئات عنصرية من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للبلد، وتعمُّد خلق ظروف تحول دون النماء التام لهذه الفئة أو الفئات، وخاصة بحرمان أعضاء فئة أو فئات عنصرية من حريات الإنسان وحقوقه الأساسية، بما في ذلك الحق في العمل، والحق في تشكيل نقابات معترف بها، والحق في التعليم، والحق في مغادرة الوطن والعودة إليه، والحق في حمل الجنسية، والحق في حرية التنقل والإقامة، والحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في حرية الاجتماع وتشكيل الجمعيات سلميًّا.
د) اتخاذ أيَّة تدابير، بما فيها التدابير التشريعية، تهدف إلي تقسيم السكان وفق معايير عنصرية بخلق محتجزات ومعازل مفصولة لأعضاء فئة أو فئات عنصرية، وبحظر التزاوج فيما بين الأشخاص المنتسبين إلي فئات عنصرية مختلفة، ونزع ملكية العقارات المملوكة لفئة أو فئات عنصرية أو لأفراد منها.
هـ) استغلال عمل أعضاء فئة أو فئات عنصرية، لا سِيَّما بإخضاعهم للعمل القسري.
و) اضطهاد المنظمات والأشخاص، بحرمانهم من الحقوق والحريات الأساسية، لمعارضتهم للفصل العنصري( ).
اقرأ أيضا| اليمن والحوثي السعيد
حدَّدت الاتفاقية عددًا من الأفعال التي ترتكب «لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية ما من البشر علي أية فئة أخرى من البشر واضطهادها إيَّاها بصورة منهجية» وهو ذات الهدف الذي يعمل عليه الحوثيون لتحقيقه، من خلال حرمان يمنيين من الحق في الحياة والحرية الشخصية ولأنَّهُم ينتمون إلى فئة عِرْقية يرون أنها مميزة ونقية يسعون إلى إدامة هيمنتها على بقية اليمنيين، وذلك بالقتل والاعتقال التعسُّفي والإخفاء القسري والتعذيب وإلحاق الأضرار الخطيرة البدنية والعقلية وعبر التعدِّي علي حريتهم وكرامتهم، ومن خلال العقوبات القاسية أو اللاإنسانية، أو الحاطَّة بالكرامة وحرمانهم من حقهم في التعبير.
تمارس جماعة الحوثي أغلب الجرائم المنصوص عليها في الاتفاقية ضد اليمنيين بدوافع عِرْقطائفية، وسنتطرق هنا إلى الجوانب المتعلقة بالتجويع وبعض الجوانب الثقافية الأخرى.
تقول الاتفاقية في المادة (2/ ب)، «إخضاع فئة أو فئات عنصرية، عمدًا، لظروف معيشية يُقصد منها أن تفضي بها إلى الهلاك الجسدي، كُليًّا أو جزئيًّا». وهذا ما يفعله الحوثيون وبلا شك من خلال مضاعفة الجبايات والرسوم والضرائب والجمارك والزكاة وإنعاش ورعاية السوق السوداء للمشتقات النفطية والكهرباء، ومنع الصدقات وسرقة المساعدات، وعدم تسليم المرتبات لسنوات طويلة، وحرمان اليمنيين من الرعاية الصحية والتعليم، وغيرها من الاحتياجات رغم قدرتهم على ذلك بناءً على تقارير اقتصادية مختلفة.
وفي المادة (3/ ج) أشارت الاتفاقية إلى عملية اتخاذ أيَّة تدابير سواء كانت تشريعية أو غير تشريعية يُقصد منها منع فئة أو فئات من المشاركة «في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للبلد، وتعمد خلق ظروف تحول دون النماء التام لهذه الفئة أو الفئات، وخاصة بحرمان أعضاء فئة أو فئات من حريات الإنسان وحقوقه الأساسية، بما في ذلك الحق في العمل، والحق في تشكيل نقابات مُعترَف بها، والحق في التعليم، والحق في مغادرة الوطن والعودة إليه، والحق في حمل الجنسية، والحق في حرية التنقل والإقامة، والحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في حرية الاجتماع وتشكيل الجمعيات سلميًّا» وأغلب هذه الأفعال تمارسها جماعة الحوثي لدوافع عِرْقطائفية لا سِيَّما ضد الأشخاص والفئات والأحزاب والسكان الذين يرفضون فكرها الذي تعمل على فرضه بالقوة عَبْرَ المدارس والمساجد ووسائل الإعلام الرسمية والمؤسسات الحكومية ومحو الملامح الثقافية اليمنية.
أمَّا مَن يتعايش مع سُلطتها القسرية ويقطن في نطاق سيطرتها صامتًا محرومًا من الحق في التعبير وإبداء الرأي، يُجبَر على إرسال أبنائه إلى المدرسة ليتعلموا مُعتقَدًا لا يؤمن به الآباء وهذا حرمان من حق التعليم، وهو ما أشارت إليه المادة أعلاه، فضلًا عن كونه مصادرة لحق اليمنيين في المعتقد الديني المُعترَف به من قِبَل الأمم المتحدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اُعتُمِدَ في 1948م( )، كما أنَّ هذه الأفعال تُصادر حق الآباء في اختيار وتحديد ما يتعلمه الأبناء في المدارس بحسب أحد بنود المادة (18/ 4) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي أكد على أنَّ الدول الأطراف تتعهَّد بِـ «احترام حرية الآباء، أو الأوصياء عند وجودهم، في تأمين تربية أولادهم دينيًّا وخُلقيًّا وفقًا لقناعاتهم الخاصة»( ).
بلا أدنى شك، فإنَّ الحوثيين خلقوا وكرَّسوا وبشكل مُمنهَج «ظروفًا تحول دون النماء» التام لبقية الفئات اليمنية التي لا تلتقي معها عِرْقيًّا ولا تتفق معها طائفيًّا وسياسيًّا، من خلال سلسلة من الإجراءات المباشرة وغير المباشرة التي تنتهي بحرمان مخالفيهم من حريات الإنسان وحقوقه الأساسية، بما في ذلك الحق في العمل والحصول على المرتبات، وحقوقه المالية والرعاية الصحية وبقية الاحتياجات الأساسية.
تمنع جماعة الحوثي تشكيل أي جمعيات أو منظمات أو نقابات لا تكون خاضعة لها بالمُطلق، من خلال هيمنة مَن ينتسبون لعِرْقيتها على هذه الكيانات، وبهذا تكون هذه النقابات شكلية ووجودها يخدم توجُّه الحوثيين بالمُطلق، ولا يمكنها أن تمارس نشاطها بشكل مستقل، بما ينعكس على مصلحة هذه الفئات التي لا تنتمي للحوثيين.
أمَّا عن جريمة الحوثيين المتمثلة في منع اليمنيين من حقهم في التنقل، فقد منعوا كل من وقف ضد انتهاكاتهم من مغادرة مناطقهم، أو ابتزوهم في نقاط التفتيش، وقد صدر تقرير مُوسَّع عن منظمة سام للحقوق والحريات يُوضِّح هذا النوع من الجرائم بعنوان «حواجز الخوف وإعلام التدليس»، حيث أشار التقرير إلى أنَّ (38) حاجزًا أمنيًّا أنشأها الحوثيون في سبع محافظات؛ ليمارسوا في هذه الحواجز انتهاكات للحق في حرية التنقل والحركة، واحتجاز المواطنين في سجون خاصة بهم، وما يصاحب ذلك من تدليس إعلامي وتلفيق اتهامات، وانتهاكات أخرى مثل الإخفاء والتعذيب( ) وكل ذلك بدوافع عِرْقطائفية، وإن غُلِّفت بالسياسة كما في بقية الانتهاكات.
ومن ضِمْن الأفعال التي تُعتبَر شكلًا من أشكال الفصل العنصري، ما أشارت له المادة (3/ د) وهي اتخاذ أيَّة تدابير، بما فيها التدابير التشريعية، تهدف إلى تقسيم السكان وفق معايير عنصرية، وهذا ما فعلته جماعة الحوثي، مثل تركيز الأموال في عرقيتها، وتسريح أعداد هائلة من الموظفين من أعمالهم بعد تهجير أغلبهم، وإصدار قرارات تعيين لآلاف الحوثيين في أهم المناصب في المؤسسات ليتحكموا بالمجتمع، زِدْ على ذلك تدمير واستهداف القطاع الخاص من خلال محاصرة وملاحقة وإفقار رجال الأعمال، وإنشاء سوق خاص جديد تابع للحوثيين، وإصدار قانون الخمس العنصري، وهذا ما أشرنا إليه في الأبواب السابقة.
أشارت المادة إلى عملية حظر التزاوج فيما بين الأشخاص المنتسبين إلي فئات عنصرية مختلفة، وهذا ما تفعله جماعة الحوثي، بالإضافة إلى «نزع ملكية العقارات المملوكة للأفراد أو الفئات التي لا تنتمي لهذه السلالة بعد التحريض ضدها إعلاميًّا واتهامها بالعمالة والارتزاق والخيانة والانتساب لتنظيم داعش والقاعدة، جاعلة هذه التُّهَم مُبرِّرًا لمصادرة الأملاك عبر ما يُسَمَّى بـ «الحارس القضائي».
في المادة (3/ هـ)، أشارت الاتفاقية إلى جريمة استغلال أعضاء فئة أو فئات بعينها «لا سِيَّما بإخضاعهم للعمل القسري»، وهذا ما تفعله جماعة الحوثي، حيث تُجبر الموظفين في المؤسسات الخاضعة لسيطرتها بالعمل دون أن تصرف لهُم مرتبات (سخرة) منذ العام 2016م حتى كتابة هذا الكتاب في 2022م، في مقابل ذلك تصرف أموالًا طائلة لأنصارها، لا سِيَّما مَن ينتسبون للعِرْقية التي تقوم عليها أيدلوجية جماعة الحوثي.
أمَّا آخر فعل أشارت له الاتفاقية في المادة (3/ و)، فالحوثيين يضطهدون كُلَّ المنظمات والأحزاب والأشخاص الذين يرفضون الممارسات العنصرية، ويمكن القول بأنَّهُم نفَّذوا إبادة سياسية لأحزاب كبرى في مناطقهم، أبرزها حزب المؤتمر الشعبي العام، وحزب التجمع اليمني للإصلاح، والحزب الاشتراكي اليمني، والحزب الناصري، وغيرها من الأحزاب، حيث قتلت وهجَّرت وسجنت آلاف من قيادات وعناصر هذه الأحزاب، ومَن سلم تحت الإقامة الجبرية أو مُجْبَر على التعايش مع هيمنة الحوثيين ينتظر الفرج. زِدْ على ذلك، إنهاء أعمال وأنشطة عشرات من منظمات المجتمع المدني، وإنشاء جيل جديد من المنظمات يرأسها مَن ينتمون لعِرْقيتها، أو قِلَّة قليلة من خارج السلالة يعملون معها، وينشرون فكرها القائم على التمييز العنصري، كما أشرنا في الأبواب السابقة.
وقد حدَّدت المادة (3) المسؤولية الجنائية، أيًّا كان الدافع، علي الأفراد وأعضاء المنظمات والمؤسسات ومُمثّلي الدولة:
أ) إذا قاموا بارتكاب الأفعال المبينة في المادة الثانية من الاتفاقية، أو بالاشتراك فيها، أو بالتحريض مباشرة عليها، أو بالتواطؤ معها.
(ب) إذا قاموا بصورة مباشرة بالتحريض أو بالتشجيع على ارتكاب جريمة الفصل العنصري، أو آزاروا مباشرة في ارتكابها( ).