إنها حرب ساخنة ومدمرة للغاية، تدور رحاها منذ أكثر من عام في الشرق الأوسط. بعد بدايتها في غزة، امتدت هذه الحرب إلى الضفة الغربية، وشمال إسرائيل ولبنان، مع وجود علامات مشؤومة على توسعها إلى حرب إقليمية. وهذه حرب تقودها حكومة إسرائيلية عازمة على فرض الانتقام على كل أعدائها المفترضين، دون أن تكبحها الولايات المتحدة التي تدعمها وتزودها بالأسلحة. وفي حين حظيت هذه الحرب بتغطية إعلامية واسعة النطاق، فإن ما تم التقليل من شأنه أو نسيانه في الغالب هو الظروف التي أدت إليها ـ أي وهي الحرب السرية التي شنتها إسرائيل منذ عقودٍ على الشعب الفلسطيني.
بالنسبة لمعظم الإسرائيليين، كان ما ساد في السنوات التي سبقت السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 هو الوضع الراهن المقبول إجمالاً، أو حتى المرغوب فيه. وقد ورد أن تامار هيرمان إحدى الباحثات البارزات في «معهد الديمقراطية الإسرائيلي» (Israel Democracy Institute)، قالت إن «قضايا المستوطنات أو العلاقات مع الفلسطينيين كانت خارج الحسبان لسنوات»، وأضافت أن «الفلسطينيين لم يلفتوا انتباه اليهود الإسرائيليين». وكان وجود مشكلة فلسطينية في وسطهم أو بالقرب منهم أمرا يتم تجاهله في كثير من الأحيان، أو يتراجع ببطء إلى خلفية من النسيان الجماعي.
في عامي 2021 و2022، أصدرت منظمات حقوق الإنسان المختلفة تقارير لاذعة تصف إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري (على وجه المثال، انظر إلى تقارير «منظمة العفو الدولية»، و «هيومن رايتس ووتش»، و»منظمة بتسيلم» الإسرائيلية). لكن المسؤولين الإسرائيليين كانوا يرفضون هذه التقارير بشكل روتيني، مع اتهامات غاضبة بأنها محاولات معادية للسامية لنزع الشرعية عن إسرائيل.
وفي الوقت نفسه، كان الاقتصاد الإسرائيلي مزدهرا، بعد أن صمد في وجه جائحة كوفيد بشكل أفضل من معظم الدول الغربية، حيث تجاوز معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل معدل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في السنوات الثلاث التي سبقت عام 2023. كما أصبحت إسرائيل أكثر شهرة كوجهة سياحية مع 4.9 مليون زائر في عام 2019، ورغم الركود الاقتصادي خلال جائحة كوفيد، إلا أنها نجحت في جذب 2.5 مليون زائر في الأشهر التسعة الأولى من عام 2023.
وهذا الوضع لم يكن كل شيء، فقد بدا أن الحكومات العربية التي كانت معادية لإسرائيل في العقود السابقة، تصالحت مع ـ أو حتى رحبت ـ بدولة إسرائيلية قوية، يُنظَر إليها إلى حد كبير باعتبارها رأس جسر لاستعراض القوة الأمريكية في شرق البحر الأبيض المتوسط. وبصرف النظر عن الانتقادات العرضية لإسرائيل لاسترضاء التعاطف الواسع النطاق مع الفلسطينيين بين جماهيرهم، كان الحكام العرب الموالون لأمريكا يصطفون للتوقيع على اتفاقيات مع إسرائيل، بتوجيه وبركة أمريكية.
وكان أحد التطورات غير العادية التي شهدتها «اتفاقيات إبراهيم»، التي تم التفاوض عليها تحت رعاية أمريكية في نهاية عام 2020، التدفق المستمر للسياح ورجال الأعمال الإسرائيليين المتجهين إلى الدول العربية الغنية في الخليج العربي. وهكذا فإن الأيام التي سبقت السابع من أكتوبر/تشرين الأول ربما أعطت الإسرائيليين الذين كانوا يعيشون في جو من اللامبالاة وانعدام الوعي بالوضع الفلسطيني، لمحة عن عالم متخيل ومرغوب فيه حيث يكون الفلسطينيون مختبئين أو حتى غير موجودين على الإطلاق، أو إذا كان الإسرائيليون لا يزالون قلقين بشأن المشكلة الفلسطينية، فربما كانوا يعزون أنفسهم بالخيال القائل بأن المشكلة يمكن احتواؤها بشكل دائم، وهذا هو الخيال الذي روج له رئيس الوزراء نتنياهو، الذي من بين أمور أخرى بطرقه الملتوية والخبيثة العديدة، قضى سنوات في تعزيز منظمة حماس في غزة ضد وعلى حساب السلطة الفلسطينية في رام الله، بهدف إبقائهم منفصلين ومنعهم من الاتحاد.
حتى عندما أثار «الإصلاح الشعبوي» الذي أطلقته الحكومة الإسرائيلية في يناير/كانون الثاني 2023 معارضة كبيرة، شملت الطيف السياسي للمجتمع الإسرائيلي من اليسار إلى معظم اليمين، فشل التيار الرئيسي في هذه المعارضة في استيعاب وتفهم العلاقة بين هذا «الإصلاح» والقمع الذي يتعرض له الفلسطينيون تحت الحكم الإسرائيلي.
إذا كان هذا هو الحال بالنسبة للإسرائيليين، فماذا عن الفلسطينيين؟ ماذا كان ينتظرهم في السنوات التي سبقت السابع من أكتوبر 2023؟ بالنسبة لهم، كان ما ساد قبل السابع من أكتوبر أمراً بعيدا كل البعد عن وضع راهن مقبول: بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في إسرائيل، كان يعني استمرار التمييز والتهميش . وبالنسبة لأولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية، كان يعني استمرار الخضوع للقمع التعسفي والإذلال وخطر القتل، أو الإصابة في سياق بعض عمليات جيش الدفاع الإسرائيلي. وبالنسبة لأولئك الذين يعيشون في غزة، كان يعني الاستمرار في العيش تحت الحصار الخانق إلى أجل غير مسمى، ودون أمل في الإفراج المشروط.
وفي إسرائيل نفسها، استمر الفلسطينيون في المعاناة من مستويات متزايدة من التمييز المؤسساتي المباشر وغير المباشر، وواجهوا عنصرية متزايدة. وفي حين تمكن بعض الفلسطينيين من تحسين ظروفهم المعيشية، على الرغم من كل الصعوبات، إلا أنهم ما زالوا مهمشين في المجتمع الإسرائيلي، خاصة في المجال السياسي. وتنعكس عملية الإقصاء في قانون الدولة القومية لعام 2018، الذي ينص على أن «دولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي، حيث يحقق حقه الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي في تقرير المصير.
إن الحق في ممارسة تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل فريد من نوعه للشعب اليهودي».
في الضفة الغربية، كانت أكبر الآفات التي تهدد الوجود الفلسطيني هي المستوطنات المتوسعة، والجدار الذي تم بناؤه لحمايتها. كانت «الإجراءات الأمنية» التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي قاسية ومهينة ومقصودة عمدا، لجعل الروتين اليومي للفلسطينيين بائسا ولا يطاق، ومن هذه الإجراءات: حظر التجوال، والاغتيالات المستهدفة وضحاياها «غير المقصودين»، والسجن خارج نطاق القضاء، ونقاط التفتيش، وحجب إمدادات الوقود والغذاء، وهدم المنازل، والاستيلاء على الأراضي، والطرق «الالتفافية» المخصصة للإسرائيليين فقط، وغير ذلك من الفظائع المنتظمة.
وفي حين كانت هذه الظروف في طور التكوين لسنوات وعقود، فقد أصبحت أكثر شؤما وتهديدا مع حكومة نتنياهو الأخيرة في نهاية عام 2022، التي ضمت وزراء من أقصى اليمين المتطرف وعنصريين بشكل علني، وزراء من نوعية بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير. أما بالنسبة لقطاع غزة، فقد أصبح، على حد تعبير عالم الاجتماع الراحل في الجامعة العبرية باروخ كيمرلينج، «أكبر معسكر اعتقال على الإطلاق».
ومن الجدير بالذكر أنه أدلى بهذا التصريح في عام 2003، عندما لم تكن غزة مغلقة بالكامل بعد؛ ولم يتم فرض حصار كامل على القطاع، إلا بعد أربع سنوات، عندما سيطرت منظمة حماس على غزة في عام 2007. وفي ورقة حقائق صدرت في عام 2018، وصف «المجلس النرويجي للاجئين» قطاع غزة بأنه «أكبر سجن مفتوح في العالم». وكان حارس السجن هو إسرائيل، وكانت مصر هي الوصي المتواطئ؛ وكان بوسع البلدين أن يتصرفا بإفلات من العقاب، لأن ممكِّنهما الأمريكي سيحميهما دائما من المساءلة في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية.
في مارس/آذار 2018، أطلق الفلسطينيون في غزة «مسيرة العودة الكبرى»، وهي حملة منظمة من الاحتجاجات الأسبوعية بالقرب من السياج المحيط بغزة. وقد سمحت منظمة حماس، السلطة الحاكمة في غزة منذ عام 2007، بحدوثها دون أن تقودها؛ وكانت مبادرة مدنية غير مسلحة، كما أوضح تقرير صادر عن لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في ذلك الوقت (18 مارس 2019). وكانت مطالب الحملة إنهاء الحصار الإسرائيلي وحق العودة للاجئين الفلسطينيين المحاصرين إلى قراهم وبلداتهم، في ما يعرف الآن بإسرائيل. وقد قمعت إسرائيل هذه الاحتجاجات غير المسلحة باستخدام القوة المميتة غير المقيدة، كما يتضح من ضحايا هذا القمع: فوفقا لتقرير «منظمة العفو الدولية»، الصادر في مارس 2019 ، قُتل أكثر من 195 فلسطينيا وجُرح أكثر من 28939، بينما قُتل جندي واحد على الجانب الإسرائيلي وأصيب آخر بجروح طفيفة.
اقرأ أيضا| لماذا تتمسك إسرائيل بالسيطرة على قطاع غزة؟
لقد خفتت آمال مسيرة العودة الكبرى بحلول نهاية عام 2019، ولم تلوح في الأفق أي فرصة لتخفيف معاناة سكان غزة المحاصرين، وكانت المسيرة في نهايتها بمثابة فشل آخر للفلسطينيين في المقاومة السلمية. وبالنسبة للفلسطينيين الأكبر سنّاً ، كانت مسيرة العودة الكبرى بمثابة صدى للانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات ـ بسبب انضباطها وشجاعتها وتنظيمها وإصرارها على الوسائل السلمية ـ ولكن أيضا بسبب نهايتها غير الناجحة والمريرة في آخر المطاف، لأن تأثيرها على الرأي العام العالمي كان محدوداً. كان ذلك تراكما للمظالم المكبوتة والإهانات العامة والغضب الخفي والإهمال العالمي على مدى سنوات عديدة، ثم انفجر في السابع من أكتوبر 2023 .
وهكذا وقع الانفجار المتنبأ به، وإن كان شكله وتوقيته غير متوقعين. ولم يكن ذلك عملاً انتقاميا بقدر ما كان عمل يأس وفقدان الأمل، فقد خرج أهل غزة من خنق الموت البطيء. وكانت أحداث ذلك اليوم الواحد بغيضة ومروعة، وكانت بقيادة منظمة حماس وبعد ذلك مجموعة متنوعة من الجماعات والأفراد الآخرين، وكانت فوضوية إلى حد يفوق توقعات الفلسطينيين أنفسهم، ويرجع ذلك جزئيا إلى انهيار كامل لوحدات الجيش الإسرائيلي حول غزة في حالة من الفوضى والارتباك وعدم التنظيم.
بعد ثلاثة أيام من هجوم السابع من أكتوبر، كتبت الصحافية الإسرائيلية أميرة هاس: «في غضون أيام قليلة، مرّ الإسرائيليون بما اختبره الفلسطينيون كأمر روتيني لعقود من الزمان، وما زالوا يعانون منه»، بما في ذلك «التوغلات العسكرية، والموت، والقسوة، وقتل الأطفال، وتكديس الجثث في الطريق والحصار والخوف والقلق على الأحباء، والأسر والإذلال الشديد. إن القمع والظلم المستمرين ينفجران في أوقات وأماكن غير متوقعة». ثم كانت الأحداث التي وقعت كل يوم منذ السابع من أكتوبر 2023 بغيضة ومروعة، ارتكبها الجيش الإسرائيلي بشكل منهجي ومتعمد، بناءً على تعليمات صريحة من نتنياهو ووزرائه.
لقد مر أكثر من عام حتى كتابة هذه السطور (20 نوفمبر 2024) دون نهاية في الأفق ـ جرعة غير مسبوقة من العنف والوحشية اليومية والتدمير الجنوني ـ حيث تجاوز إجمالي القنابل التي ألقيت على غزة ومليوني نسمة بالفعل إجمالي القنابل التي ألقيت على دريسدن وهامبورغ ولندن طوال فترة الحرب العالمية الثانية.
هذه هي المرحلة الأخيرة، الأكثر عنفاً وتدميراً من كل المراحل السابقة، في مسار التحول العرقي، الذي دام قرناً من الزمان في فلسطين. وبالنسبة للجمهور الإسرائيلي بشكل عام، فقد تم تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم إلى حد مطلق على مدى عقود من التلقين، حتى أن تدمير غزة يُنظر إليه على أنه عادل، ويُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم يستحقون ذلك! لا يمكن تقديم وصف لما ساد في العقود الأخيرة التي أدت إلى يومنا هذا، دون الإشارة إلى أن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط جمعت بين الدعم غير المشروط لإسرائيل والإهمال المتعالي للفلسطينيين.
وينعكس الانفصال التام بين السياسة الأمريكية والواقع على الأرض في المقال الذي قدمه مستشار الأمن القومي في الحكومة الأمريكية ، وهو جيك سوليفان، لمجلة «الشؤون الخارجية» (Foreign Affairs) في 2 أكتوبر 2023. وفي هذا المقال، زعم أن الشرق الأوسط «أهدأ مما كان عليه منذ عقود» وأننا «نجحنا في تهدئة الأزمات في غزة». وتم تقديم هذا المقال قبل 5 أيام من 7 أكتوبر، و17 يوما قبل نشره، ما أدى بالمصادفة إلى إنتاج سجل مكتوب وشهادة للآراء العمياء وقصيرة النظر والوهمية تماما لحفنة من الأشخاص المسؤولين عن تحديد السياسة الخارجية الأمريكية.
لقد حان الوقت لأن تغير الولايات المتحدة سياستها وتجبر إسرائيل على وقف عدوانها المسعور والجنوني في غزة والضفة الغربية ولبنان، والدخول في عملية سريعة تهدف إلى تحرير الفلسطينيين من الحكم الإسرائيلي القمعي. ليت أن تكون هذه الخطوة الأولى نحو حل عادل للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني والسلام الإقليمي الشامل والأوسع!