دفعت التغييرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وخاصة بعد ما جرى في سوريا، إلى العودة للحديث عن الدبلوماسية التونسية، وكيف يمكن أن تكون في الواجهة لتعبّر عن موقف البلاد وتضبط سبل الاستفادة من التطورات لصالحها بدلا من أن تقف موقفا هامشيا، وأن تغير أداها، والأهم الخروج من الصورة التقليدية.
الرئيس التونسي قيس سعيد أثار الموضوع خلال لقائه بوزير الخارجية محمد علي النفطي. وشدد على أن “العالم اليوم يشهد تطورات متسارعة وغير مسبوقة، ويجب أن تكون الدبلوماسية التونسية مستشرفة لكل الأوضاع التي يمكن أن تستجد للذود عن مصالح تونس.”
وأكد سعيد على “دور الدبلوماسية التونسية في هذه الفترة بناء على ثوابتها.” وتطرق الرئيس التونسي كذلك إلى “ضرورة مضاعفة البعثات الدبلوماسية والقنصلية لجهودها من أجل المزيد من الإحاطة بالتونسيين بالخارج وإسداء الخدمات لهم في أحسن الظروف وفي أقصر الآجال.”
وحصر بعض المحللين كلام الرئيس سعيد بالمناسبة التي قيل فيها، وهي أن ما جرى في سوريا من تطورات انتهى إلى رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، وضرورة أن تمتلك الدبلوماسية التونسية القدرة على التوقع، وأن تتجهز لمثل هذه الأحداث وتعرف كيف تتصرف خاصة بالنسبة إلى الاهتمام بالتونسيين الذين يوجدون في البلد الذي تجري فيه التغييرات أو الأزمات الأمنية.
قد يكون كلام الرئيس سعيد حمل لوما لوزارة الخارجية التي أصدرت بيانين في فترة متقاربة، الأول عبرت فيه عن إدانتها “بشدّة الهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا في المدّة الأخيرة،” وحثت على “مساندة هذا البلد الشقيق حتى يحافظ على سيادته وأمن شعبه واستقراره ووحدة أراضيه“.
وبدا البيان وكأنه موقف متسرع انحاز إلى الرئيس المتنحي ووضع تونس وكأنها تقف ضد المجموعات المسلحة التي تسيطر الآن على دمشق، ولذلك جاء البيان الثاني ليصلح بعض ذلك التسرع بالقول إن تونس تدعو إلى “ضرورة التفريق بين الدولة، من جهة، والنظام السياسي القائم داخلها، من جهة أخرى،” وأن “النظام السياسي هو شأن سوري خالص يختاره الشعب السوري صاحب السيادة، فهو وحده الذي له الحقّ في تقرير مصيره بنفسه بمنأى عن أيّ شكل من أشكال التدخل الخارجي“.
والرسالة هنا واضحة، وهي تشير إلى أن تونس لا يهمها من يحكم، وإنما يهمها أن تظل سوريا دولة موحدة، في تطويق واضح للموقف السابق، الذي يمكن أن يفهم على أنه انحياز لطرف على حساب آخر. يمكن أن يقول البعض إن الموقف الأول سليم، وإن تونس تقف ضد المجاميع الإسلامية التي هاجمت دمشق وأطاحت بالأسد، وإن الأمر لا يستدعي أي تمويه أو مناورة، وهذا موقفها وموقف نخبها منذ بدء احتجاجات 2011.
والأمر هنا لا يتعلق بموقف بالنخب، بل بموقف تونس كدولة لها تقاليد ومصالح وحضور دبلوماسي في مؤسسات العمل العربي المشترك. ومثلما أنها ترفض تدخل أيّ جهة في شؤونها الداخلية، فهي ترفض أن تمارس عكس ما تطالب به، ولا تريد أن تكرر خطأ ما جرى في الموقف التونسي السابق من ليبيا. ولاحظنا أنه منذ 25 يوليو 2021، نجح قيس سعيد في تهدئة العلاقات مع ليبيا وتصويب أخطاء السابقين الذين قسموا موقف الدولة بين من يدعم غرب ليبيا ومن يدعم شرقها، مع أن مصلح تونس مع ليبيا كدولة، وهي لا تدعم التقسيم والتفتيت مثلما هو الأمر بالنسبة إلى سوريا.
في ليبيا، كما في سوريا، لتونس مصالح وجالية وتعامل تجاري واقتصادي. ولا يمكن لدبلوماسيتها أن تقفز على هذا الواقع لتسجيل موقف حتى لو كان معبرا عن طيف واسع من النخب. والبيان الثاني لوزارة الخارجية لا يصوب فقط البيان الذي قبله بل يصوب موقف الذين حكموا بعد 2011، والذين قطعوا العلاقات مع سوريا باسم الحديث عن دعم الثورة اعتمادا على أوهام شخصية لبعض قادة المرحلة.
وتحتاج تونس إلى علاقة مع المرحلة الجديدة في سوريا من أجل الاستمرار في تفكيك ملف المقاتلين الذين شاركوا في الحرب الأهلية، وهي مهمة من الواضح أنها لم تتم بالرغم من إعادة العلاقات مع نظام الرئيس الأسد. ومن الواضح وجود تعقيدات كثيرة تحتاج إلى الوقت لحلها وإغلاق ملف له تداعيات أمنية وسياسية في تونس.
لقد أعاد الرئيس سعيد تصويب الخطأ السابق بالحث على العودة إلى ثوابت الدبلوماسية التونسية، وكذلك بالتأكيد على أن دور هذه الدبلوماسية هو “الإحاطة بالتونسيين بالخارج وإسداء الخدمات لهم في أحسن الظروف وفي أقصر الآجال.” وهذا يعني أن على الدبلوماسية التونسية أن تقيس تحركها ومواقفها ضمن ضوابط المصلحة الوطنية وتقاليد الدبلوماسية التونسية.
إقرأ أيضا : سقوط الأسد.. من كسب ومن خسر؟
وهذه زاوية نظر مهمة بالنسبة إلى تونس، فالدبلوماسية، دورها أن تعبّر عن توجهات أو مقاربة عامة وتسجيل مواقف مبدئية تدافع عن البلد وقيادته السياسية، لكنه ليس الدور الوحيد، وعليها أن توسع مجال تحركها ليشمل خدمة الجاليات، والخدمة هنا لا تقف عند موضوع الوثائق الإدارية، فهي تعني حسن الاستقبال والاستماع إلى المشاغل والمشاكل، وتشجيع الجالية على توطيد علاقتها بتونس من خلال تكثيف الزيارات وإقامة المشاريع الاستثمارية، والأهم هو بناء علاقة ثقة معها لتصويب الصورة السيئة التي تشكلت منذ سنوات عن تونس وأمنها واستقراها وتعمد البعض الخلط بين الدولة/البلد والاختلاف السياسي مع السلطة.
من المهم أن تخرج السفارات والقنصليات التونسية من دائرة العمل الإداري الروتيني القائم على أداء الوظيفة إلى بناء علاقة حوار وتواصل مع التونسيين بالخارج وربطهم ببلدهم، وكشف المزايا التي توفرها لهم تونس. وهذا أمر هم، ويدخل في صلب توجهات الدولة وأولوياتها لإشراكهم في التنمية.
ويعول المسؤولون التونسيون على تواصل وتيرة نمو التحويلات المالية للمهاجرين، والتي باتت تشكل عنصرا مهما يسهم في تنمية الاقتصاد خاصة وأنها استطاعت التفوق على صناعة السياحة خلال السنوات القليلة الماضية في ظل تراكم المشكلات. وبقيمة 2.7 مليار دولار بلغت تحويلات التونسيين لعام 2023 إلى بلادهم. وتعتبر هذه الأموال أحد موارد النقد الأجنبي للبلاد، كما أنها تساعد الأسر في دعم قدرتها الشرائية وسط أوضاع معيشية صعبة.
وبالإضافة إلى الاهتمام بموضوع الجالية والخروج به من الروتين الإداري وربطها بالوطن الأم بشكل آمن على مختلف الواجهات، تحتاج الدبلوماسية التونسية إلى خطة إعلامية لمخاطبة الخارج. فهناك قضايا لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهلها، أو انتظار أن يتحدث فيها الرئيس سعيد، وضرورة التحرك للرد والتوضيح بشأن التساؤلات التي تهم الموقف من المهاجرين والعلاقة مع أوروبا، وخاصة التلبيسات التي ارتبطت بموقف تونس من الأفارقة.
فهل تقدر السفارات على إقامة مؤتمرات صحفية أو طلب لقاء وسائل الإعلام الخارجية للحوار معها حول تلك القضايا وتوضيح موقف تونس؟ وهو ما يطرح سؤالا آخر عن نوعية الدبلوماسي هل أنه يجب أن يكون تكنوقراط ينفذ ما يطلب منه ولا يتعدي مربع العلاقات الدولية كما قرأها في الكتب، أم بخلفية سياسية تؤهله للحديث عن مختلف الملفات وتقديم موقف البلاد، أو التسويق لمزاياها الاقتصادية والسياحية. الدبلوماسية ليس وظيفة، هي دور مصغر ومكثف يعبر عن توجه دولة ومصالحها.