- السيد الرئيس فلاديمير بوتين
في عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة، تسعى الدول إلى إعادة تعريف أدوارها في النظام الدولي الجديد، وقد أثبتت روسيا قدرتها على تقديم رؤية بديلة للنظام العالمي القائم على الهيمنة النيوليبرالية، التي سيطرت لعقود على التوازنات السياسية والاقتصادية العالمية، إلا أن الدور الذي تختاره روسيا اليوم سيكون حاسمًا ليس فقط لمصيرها، بل أيضًا لمستقبل الشعوب التي تطمح إلى بديل عادل ومستدام للنظام الذي يعاني من القمع والظلم.
روسيا في قلب التحديات العالمية
لقد برزت روسيا كقوة عالمية قادرة على تحدي الهيمنة الغربية، خصوصًا بعد العمليات العسكرية في أوكرانيا، وكذلك من خلال محاولاتها تقديم نفسها كبديل للهيمنة الأميركية عبر تقوية العلاقات مع مجموعة “بريكس” وتعزيز التعاون مع دول الجنوب العالمي. هذه السياسات تمنح روسيا فرصة عظيمة لإعادة بناء النظام العالمي وفق مبادئ العدالة والتعددية، بعيدًا عن هيمنة القوى الكبرى التي لطالما سيطرت على مقدرات الشعوب.
إلا أن سياسات موسكو في الشرق الأوسط، وخاصة دعمها لنظام بشار الأسد في سوريا، قد تمثل تحديًا لهذا التوجه وتناقضًا مع الرؤية التي تتبناها روسيا كقوة عالمية، تسعى لتحقيق العدالة والمساواة في العلاقات الدولية.
روسيا بين المبادئ والمصالح
السيد الرئيس، من المعروف أن السياسات الدولية تحكمها المصالح الاستراتيجية، لكن هناك خطوط حمراء أخلاقية يجب ألا تُتجاوز. إن دعم نظام مثل نظام بشار الأسد، الذي تورط في جرائم ضد الإنسانية واستخدم الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، لا يقتصر على كونه خطأ أخلاقيًّا فادحًا، بل يشكل أيضًا تهديدًا لصورة روسيا كقوة بديلة تسعى إلى العدالة والمساواة في النظام الدولي.
الشعوب العربية، تتطلع إلى روسيا كقوة داعمة للمظلومين، وملاذ لآمالهم في التحرر من الأنظمة القمعية. ولكن دعم روسيا لنظام الأسد يضعها في موقف معارض لهذه الطموحات، ويعرض مصداقيتها للخطر في نظر شعوب المنطقة التي عانت طويلًا من حكم الطغاة.
القوة الناعمة والدور الروسي في دعم القضايا العادلة
منذ بداية الألفية الثانية، نجحت روسيا في تعزيز قوتها الناعمة على المستوى الدولي، متجاوزةً الهيمنة الأميركية التي لطالما فرضت نفسها من خلال معايير غير عادلة أو مستقرة، تتسم بالانحياز للمصالح الغربية. روسيا، من خلال مواقفها المستقلة والمتوازنة، أظهرت للعالم كيف يمكن لقوة كبرى أن تمارس دورًا محوريًّا بعيدًا عن معايير الهيمنة العسكرية التي تفرضها القوى الغربية.
ما يميز روسيا هو قدرتها على إعادة تحديد حدود قوتها الناعمة في السياسة الدولية، من خلال الدعم السياسي والإنساني لشعوب الجنوب والعالم الثالث؛ فبجانب موقفها الراسخ في دعم فلسطين وقضيتها العادلة، استطاعت أن تنقض على ساحة الهيمنة الغربية، وأن تطرح نفسها كبديل حقيقي للنيوليبرالية، التي تعتبر مصدراً رئيسيًّا لانتهاك حقوق الشعوب وتدمير استقلالها. روسيا، في دعمها لفلسطين، تضع نفسها في مواجهة القوى التي تصر على تجزئة القضية الفلسطينية، ودعم النظام الإسرائيلي في انتهاكاته المستمرة ضد الشعب الفلسطيني.
فلسطين: رمز الصمود والعدالة
القضية الفلسطينية تبقى أحد أكبر التحديات في الساحة الدولية، وهي تمثل معركة إنسانية بامتياز. من الواضح أن دعم روسيا التاريخي لفلسطين يعكس التزامًا بالقيم الإنسانية بعيدًا عن السياسة المحكومة بالأجندات الغربية. لم يكن دعم روسيا لفلسطين مجرد تصريحات دبلوماسية، بل كان جزءًا من موقف استراتيجي أوسع يعبر عن التزام بالقانون الدولي ومبادئ العدالة.
إن روسيا، التي تتبنى مواقف مستقلة في السياسة العالمية، تعتبر القضية الفلسطينية جزءًا لا يتجزأ من حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها. وفي هذا السياق، نرى أنه على روسيا أن تستمر في هذا النهج، وأن تدعم بشكل أكبر المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني في وجه القمع والعدوان المستمر.. في ظل هذه الأزمة العالمية، من المهم أن تظل روسيا مناصرة لفلسطين ولحقوق الشعوب الأخرى مثل الشعب السوري في المنطقة.
الولايات المتحدة وتراجع الصورة المنافقة
لقد أنفق الغرب والولايات المتحدة مليارات الدولارات على مدى عقود لترسيخ صورة ذهنية على أن أميركا والغرب هما واحة الديمقراطية والعدل؛ إلا أن هذه الصورة المنافقة تحطمت خلال الأشهر الـ14 الأخيرة، منذ عملية “طوفان الأقصى”، وما تبعها من إبادة جماعية ومجازر ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في قطاع غزة. خلال هذه الفترة، استطاعت روسيا في شهور معدودة أن تكتسب مكانة كبيرة في وجدان وقلوب العرب، من خلال وقوفها الصريح مع الحق والعدل في فلسطين.
دروس من دول “بريكس”
مجموعة “بريكس”، التي تمثل التعددية العالمية وتحدي احتكار القوى الغربية، تقدم نموذجًا يُحتذى به؛ فدول مثل البرازيل وجنوب إفريقيا عملت على تعزيز التعاون مع الشعوب بدلاً من التحالف مع الأنظمة الاستبدادية. روسيا، باعتبارها جزءًا من هذه المجموعة، يمكنها الاستفادة من هذه التجارب، والمضي قدمًا نحو تعزيز مكانتها كحليف حقيقي للشعوب المظلومة في الشرق الأوسط وخارجه، وليس كداعم لأنظمة قمعية.
إقرأ أيضا : فريق ترامب يتأهب للسيطرة على مؤسسات الدولة العميقة
روسيا كقوة ناعمة
لقد أثبتت روسيا بالفعل قدرتها على منافسة القوى الناعمة الأميركية، سواء من خلال التعاون العسكري والاقتصادي مع دول عدة، أو من خلال مبادراتها في مجالات الغذاء والثقافة والتعليم والاكتفاء الذاتي في العديد من الصناعات والقطاعات الحيوية. لكن هذه القوة الناعمة لن تكون فعّالة إذا لم تكن مدعومة بسياسات تعكس القيم الإنسانية للعدالة والحرية. إن دعم روسيا للشعوب بدلاً من الحكومات الفاسدة والطغاة يعزز من مكانتها كقوة ناعمة أخلاقية، قادرة على قيادة العالم نحو نظام دولي جديد يتسم بالتعددية والعدالة.
مستقبل الشرق الأوسط ودور روسيا
السيد الرئيس، إن الشرق الأوسط هو قلب الصراع العالمي، والميدان الذي يواجه تحديات جسامًا وفرصًا عظيمة. الشعوب العربية، التي طالما عانت من الهيمنة الغربية، تطمح إلى رؤية روسيا كحليف يُعلي من شأن هذه الشعوب، ويقف إلى جانبها في نضالها من أجل الحرية والكرامة، ولكن ذلك يتطلب من روسيا اتخاذ مواقف صادقة ومستقلة، تدعم حقوق الإنسان، وتعزز استقرار المنطقة من خلال الوقوف إلى جانب شعوبها، وليس إلى جانب الأنظمة الاستبدادية.
رسالة إلى روسيا المستقبلية
السيد الرئيس.. التاريخ يُكتب اليوم، والاختيارات التي تتخذها روسيا الآن ستحدد موقعها في النظام العالمي لعقود قادمة. يمكن لروسيا أن تكون قوة تقود العالم نحو نظام أكثر عدالة وإنسانية، أو أن تختار أن تكون قوة أخرى تسعى فقط وراء المصالح قصيرة الأجل.
إن الأمل معقود على روسيا أن تتخذ قرارات تتماشى مع القيم العالمية للعدالة والإنسانية، وأن تنحاز للشعوب المظلومة بدلاً من الطغاة والأنظمة القمعية. وإن تحقيق العدالة في المنطقة والعالم يتطلب من روسيا أن تبقى وفية للمبادئ التي قامت عليها في بداية عهدها الجديد: الانحياز للحق، والعدالة، والشعوب المظلومة.
مع أطيب التمنيات..