بعد أسبوع من اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2023، وفي مقال نشره في صحيفة «نيويورك تايمز» لم يجد الكاتب الأمريكي المعروف، توماس فريدمان، مثالا للفظائع اللاحقة التي ستنفذها إسرائيل في القطاع وأهله سوى ما سماه «قواعد حماة» وهو مصطلح نحته لوصف استراتيجية رئيس النظام السوري الراحل حافظ الأسد عندما حاصر جيشه المدينة مانعا أي أحد من الخروج، ثم دك أحياءها ونفذ مجازر جماعية هائلة قتلت قرابة 40 ألف شخص (وفقد قرابة 15 ألف شخص آخرين) ثم جلب الجرافات فسوتها بالتراب، ثم مشى، حسب وصفه، فوق أنقاضها. حصل ذاك طوال شهر شباط/ فبراير من عام 1982.
لم يكن قد مضى على المجزرة السورية سوى قرابة شهرين حتى بدأت إسرائيل اجتياح لبنان، بهدف تدمير منظمة التحرير الفلسطينية، فحاصر جيشها العاصمة بيروت، وأدت الأعمال العسكرية لمقتل قرابة 17 ألف شخص، ثم وبعد حصول اتفاق، بضمانات دولية، خرجت على أساسه منظمة التحرير، وزعيمها حينها، ياسر عرفات، من لبنان، جرى تطبيق «قواعد حماة» على مخيمي صبرا وشاتيلا، اللذين كان أغلب سكانهما من المدنيين الفلسطينيين، فطوقتهما القوات الإسرائيلية، ومنعت خروج أي شخص منهما، ثم سمحت لميليشيات لبنانية بتنفيذ مجزرة جماعية قتل فيها ما يقارب 3500 من الرجال والأطفال والنساء.
قام النظام السوري بتنفيذ مجازر قبل وبعد مجزرة حماة، مؤسسا لحقبة هائلة من الرعب، لكن استخدامها استعيد بعد الثورة الشعبية التي اندلعت ضده عام 2011 وتم تطوير عناصره الأساسية: الحصار والقتل المعمم ثم التدمير الممنهج، فانتقلت من كونها «وظيفة» خاصة بالدولة، إلى استثمارات خاصة يتم تعهيدها لميليشيات محلية وخارجية، ومع اضطراره لاستدعاء قوى أجنبية، تفسّخت الدولة، وتم تقاطعها، وتقاسمها، والتنافس عليها، بين روسيا، التي أمنت الغطاء الجوي لعمليات النظام، وإيران، التي أمنت الجنود على الأرض، وأدى ذلك إلى تدمير منهجي لمدن سورية أخرى، مثل حمص، ودير الزور، وحلب.
اقرأ أيضا| الإبادة الجماعية تجسد مأساة إنسانية متواصلة
أعاد هجوم المعارضة السورية، التي دخلت مدينةحماة (بعد أن تمكنت من تحرير محافظة إدلب ومدينة حلب) شريط الذكريات السوداء الذي كانت المدينة الشهيدة علامة كبرى فيه على ما ينتظر السوريين، ومنطقة المشرق العربي، لو استمر الطغيان، واشتبك هذا الحدث زمنيا، مع المقتلة الفلسطينية الهائلة التي تحولت بعد عملية «طوفان الأقصى» إلى إبادة جماعية وتطهير عرقي على مرأى العالم.
وضعت المواقع المتعارضة لمآلات المنطقة الإسلامية ـ العربية، وبطريقة معقدة وإشكالية ومثيرة للجدل، أمام قضايا واجتهادات نخب ودول واتجاهات سياسية تحاول أن تضع السوريين والفلسطينيين واللبنانيين في مواقع متعاكسة، مما يؤدي إلى أشكال من تكاره الضحايا، وفقدان البوصلة، والغفلة عن الأولويات.
مثّل المشروع الإسرائيلي حلا للمسألة اليهودية الأوروبية لكنه حلّ يحمل بذور عطبه القائمة على طبيعته الدينية والعنصرية، التي تمثّل الحكومة الإسرائيلية الحالية، بنزوعها الإبادي الصريح ضد الفلسطينيين، إيذانا بانتهاء تلك المرحلة التاريخية، وابتداء عصر التوحّش العام في العالم.
يتلاقى هذا المشروع، بالضرورة، مع مشروع الدولة الأسدية، التي حولت الجمهورية السورية إلى ملك خاص لعائلة تتعاطى مع السوريين، وشعوب المنطقة بمنطق الإبادة أيضا (كما رأينا في مجزرة تل الزعتر ومجزرة صبرا وشاتيلا الثانية ضد الفلسطينيين).
ما يطمح له السوريون، والفلسطينيون (كما اللبنانيون) الآن هو وضع السياسة في مواجهة الإبادة، وأمام هذه الضرورة لا يعود هناك معنى لاجتهادات «نخب» تعمل على تكريس كراهية الضحايا، ووضع القضايا السورية والفلسطينية واللبنانية، وآمال شعوبها بوقف الإبادة وعودة السياسة، بمواجهة بعضها البعض.
يأمل السوريون بحل سياسي يعيد اللاجئين ويسمح بالمشاركة السياسية للجميع، ويأمل الفلسطينيون بحل سياسي يوقف الإبادة ويعيد اللاجئين ويسمح للفلسطينيين بتقرير مصيرهم، ويأمل اللبنانيون بحل سياسي يبدأ من بداهة انتخاب رئيس، يوقف الحرب الإسرائيلية على البلاد، ويعيد تنظيم الحياة السياسية التي قادت الاقتصاد اللبناني للدمار، والأجهزة السياسية والعسكرية والأمنية للشلل.