لفت انتباهي مؤخرا تقرير للمعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية (تابع لرئاسة الجمهورية) يدق ناقوس الخطر بخصوص هجرة الأطباء والكوادر الصحية من تونس إلى الخارج.
يقول التقرير إن تلك الهجرة من شأنها أن تؤدي إلى “فقدان المهنيين الذين يمثلون العصب الرئيسي لجودة الخدمات الصحية المسداة للمواطنين ودونه لا مفر من حدوث تداعيات خطيرة على النظام الصحي الوطني بأكمله ومن تهديد استدامته”.
الآلاف من الأطباء والكوادر الطبية هجروا وما زالوا يهجرون المؤسسات الاستشفائية التونسية، وذلك أساسا نحو أوروبا. ويقول التقرير على وجه التحديد إن “نسبة الرغبة في الهجرة” تتجاوز 50 في المئة في 20 اختصاصا طبيا وتبلغ 69 في المئة بين أخصائيّي طب الأسرة.
لكن التقرير يجد مسوغا للتفاؤل بخصوص احتمال عودة الكفاءات الطبية المهاجرة إلى بلادها يوما ما. إذ يقول إن الأغلبية تقبل بفكرة العودة لكنها تذكر شرطين هما “تحسن وضع البلاد الاقتصادي والظروف العائلية وضمان تعليم أفضل للأبناء”.
هذان الشرطان يتنزلان في الواقع ضمن جملة من العوامل المتشابكة دفعت وتدفع الكوادر الطبية إلى مغادرة البلاد. البعض من هذه العوامل تشترك فيها الكوادر الطبية مع بقية التونسيين عندما يتعلق الأمر بتدهور الخدمات العامة، ومنها المرافق التربوية.
ولكن هناك عوامل تمس بالقطاع الصحي على وجه التحديد من اكتظاظ في المستشفيات الحكومية (بشكل يتجاوز طاقة الأطباء) وعدم توفر كل مقومات الأمن والسلامة في أماكن العمل وضعف التجهيزات الطبية المتوفرة وسوء الحوكمة في المؤسسات الاستشفائية.
وعلى صعيد ظروفهم المهنية ينشد الأطباء والكوادر الصحية تحسينا لوضعهم المادي وضمانات أكبر على صعيد تدرجهم المهني. وهذا الجانب من المطالب مطروح بشكل حاد بالخصوص من قبل الكوادر “شبه الطبية”، من ممرضين ومساعدي أطباء وأخصائيّي إنعاش وتوليد وتحاليل بيولوجية وتكنولوجيا الكشف بالأشعة وغيرهم.
تواجه هذه الكوادر مشكل قلة مواطن الشغل المتوفرة في القطاع الحكومي، وهي عندما تشتغل تشعر أنها لا تتلقى مكافآت مجزية أو تقديرا كافيا لعملها خاصة في المصحات الخاصة.
لذا ليس من المفاجئ أن يستجيب هؤلاء بسرعة للعروض الواردة عليهم من الدول الأوروبية وخاصة من ألمانيا.
كل هذه الهنات يعرفها معظم الذين أشرفوا على تسيير القطاع الصحي ولكن الجميع تقريبا يعرف أن تطوير هذا القطاع رهين توفر الموازنات اللازمة.
وهذه الموارد المالية لن تتحقق دون انطلاقة اقتصادية تمكّن البلاد من تجاوز حالة الركود التي طال أمدها وألقت بظلالها على كل الأنشطة والقطاعات.
وفي غياب الإمكانيات لن تستطيع الدولة تشغيل مئات الخريجين من المعاهد والمدارس المختصة في المهن الطبية أو تجاوز النقص في التجهيزات في المؤسسات الاستشفائية الحكومية أو مراجعة سلم الأجور.
ولا يمكن للقطاع الخاص أن يعوض عن نقائص القطاع الحكومي إذ إن المصحات والمراكز الاستشفائية الخاصة لم تتطور بشكل يسمح لها بغير التشغيل الهش لخريجي المعاهد المختصة.
تحتاج تونس بكل تأكيد إلى تجاوز أزمتها الاقتصادية الحالية. ولكنها تحتاج أيضا إلى رسم إستراتيجيات مستقبلية مبنية على طموح أكبر لدى الفاعلين السياسيين والاقتصاديين في سعيهم لتجاوز التحديات القائمة والانتقال إلى وضع أفضل. ومثل هذا الطموح له ما يبرره، وذلك اعتبارا للإمكانيات البشرية ومستوى الكفاءات المهنية المتوفرة في المجال الطبي.
لا شيء يمنع أصحاب القرار من أن يضعوا ضمن تصوراتهم محاولة جذب الاستثمارات الوطنية والإقليمية والأجنبية وبناء الشراكات بين القطاعين الحكومي والخاص من أجل إنشاء مراكز طبية متطورة تقدم خدمات متطورة للتونسيين والأجانب.
هذه الاستثمارات يمكن أن تحول تونس إلى منصة استشفائية تستفيد من عجز العديد من المنظومات الصحية الأوروبية عن مواكبة الحاجيات الطبية لمواطنيها وتقديم الرعاية الملائمة للمتقاعدين منهم.
إقرأ أيضا : نزاعات وحروب وإقصاء.. كيف يؤثر غياب النساء على مستقبل السلام بالعالم العربي؟
تستطيع تونس أن تنجح وربما أكثر في ما نجحت فيه بلاد مثل تركيا، وذلك على صعيد تقديم خدمات عصرية بكلفة أقل من أوروبا. وبإمكانها أن تنجح في ذلك خاصة إن كان لأهلها وشركائها وأصدقائها في الخارج الثقة في مؤهلاتها والوعي بمميزاتها. ومن بين هذه المميزات قربها الجغرافي من عواصم أوروبا الغربية وكذلك القواسم الثقافية واللغوية التي تجمعها بمحيطها الإقليمي المباشر إضافة إلى السمعة التي اكتسبتها كوادرها الطبية. نجحت هذه الكوادر في تجربة “السياحة الاستشفائية” منذ بداية تسعينات القرن الماضي، ونجحت في إسداء الخدمات الطبية لبلدان الجوار حتى لما كانت الظروف غير مستقرة.
تختلف ظروف الأطباء والكوادر الصحية التونسية في بلدان الاستقبال. من بينهم من هو مصر على الهجرة والاستقرار في الخارج مهما كانت الاعتبارات. وهؤلاء قد يكونون قطعوا أصلا خط الرجعة.
ولكن كثيرين آخرين اكتشفوا بلا شك أن أوضاعهم المهنية والمادية في أوروبا ليست بالشكل الذي كانوا يطمحون إليه. ويواجه العديد من الأطباء الشبان ظروفا مادية غير مرضية ومعاملة تمييزية لم يكونوا يتوقعونها. ومن هذه الاعتبارات ما يجعلهم يفكرون جديا في العودة إلى بلادهم.
لم يقطع البعض من الأطباء المهاجرين الجسور مع وطنهم سواء بالعمل عن بعد ضمن عدد من المراكز الاستشفائية الخاصة في بلادهم أو بحضور الندوات العلمية في تونس بانتظام.
بالرغم من هذه الجسور تبقى العوائق النفسية قائمة. أولها صعوبة تسليم المهاجر التونسي، حتى إن كان طبيبا ومهما كانت أسباب هجرته، بأنه أمام تجربة لم تنجح. وثانيها يتعلق بعامل الخوف من المستقبل، وقد يكون ذلك هو العائق الأكبر أمام العودة. فلما يشترط الأطباء والكوادر الصحية الاطمئنان على تعليم أبنائهم قبل الرجوع إلى تونس فهم يتساءلون ضمنيا عن مدى قدرة بلادهم على تجاوز مصاعبها الحالية بما يسمح لهم بضمان مستقبلهم ومستقبل أسرهم إذا ما عادوا.
هناك حاجة أيضا إلى حوار شامل بين كل الأطراف المعنية حول وضع القطاع الصحي والعاملين فيه بشكل يحدد واجبات الجميع ويزيح سحب سوء التفاهم. منها ما يتعلق بأسباب الهجرة إلى الخارج والبعض بمسائل أخرى لم تجد لها حلا منذ عقود أيضا مثل عزوف الأطباء والكوادر الصحية عن العمل في المناطق الداخلية من البلاد.
وفي انتظار أن تتبدد تلك الغيوم سوف ينتظر هؤلاء الكوادر من مكان عملهم وإقامتهم بالخارج المؤشرات التي تجعلهم يطمئنون على أن بلادهم قادرة على ضمان الغد الأفضل لكل أبنائها.
معظمهم لا يحتاج إلى تذكير بأن لهم واجبا أخلاقيا تجاه البلاد التي تكفلت بتعليمهم ومازالت تحتاج إلى خدماتهم. وهم يدرون تمام الدراية أن بلادهم مستعدة دوما لضمهم إلى أحضانها متى عادوا حتى يشاركوا في جهود بنائها. ولكن من الأكيد أنهم سوف يبقون في انتظار المؤشرات التي تنعش في نفوسهم مشاعر التفاؤل والأمل.