فسرت دوائر سياسية عديدة قرار محكمة الجنايات بمصر قبل أيام برفع أسماء 716 شخصا من قوائم الإرهاب على أنه مقدمة لمصالحة بين النظام المصري وجماعة الإخوان، واستندت هذه الدوائر في هذا التقدير إلى نشر بعض المواقع شبه الرسمية كلاما يفيد بأن القرار صدر بناء على توجيهات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
وهو خطأ ومغالطة ومبالغة، فالمحكمة استجابت لتوصية من النيابة وبعد تحريات أمنية تثبت أن الأسماء التي خرجت من قائمة الكيانات الإرهابية، سواء من الأحياء أو الأموات، وتكمن المغالطة في أن القانون المصري يمنع تدخل أيّ جهة في أحكام القضاء وقراراته، وجاءت المبالغة من رحم إضفاء خصوصية كبيرة للقرار، وإخراجه من دائرة القضاء إلى فضاء السياسة.
تدارك من تسببوا في الخطأ والمغالطة والمبالغة موقفهم، وتيقن من استندوا إلى ذلك أن الأمر خاص بالقضاء وحده، لكن شريحة منهم أصرّت على أن الأمر لا يخلو من مآرب سياسية، مستفيدة من تكهنات أشارت أكثر من مرة الفترة الماضية إلى رغبة الإخوان في عقد مصالحة مع النظام المصري، والذي لم يستجب إلى أيّ منها أو يتفاعل معها إيجابا أو سلبا.
جاء رفع بعض الأشخاص من غُلاة الإخوان والسلفيين من قائمة الإرهاب أخيرا ليعزز التكهنات، ما جعل بورصتها تتزايد في مصر الأيام الماضية، وتوحي بأن هناك خطوة كبيرة سيتم اتخاذها في هذا المسار قريبا، إلا أن أصحابها تناسوا أمرين. الأول: أن القائمة تضم الآلاف من الأسماء المنتمية للجماعة أو المحسوبة عليها أو المتعاطفة معها، والثاني: أن الخروج من القائمة لا يعني سقوط الأحكام الصادرة بحق أيّ منهم، ومنهم الكثير في السجون أو يحاكمون أو هاربون، ما يعني وجود جولات أخرى حاسمة في هذا المسلسل، فالقضية لن تقف عند رفع المئات من الأسماء من قائمة الكيانات الإرهابية، فعدد كبير منهم أعلن تنصله من الجماعة وتخلى عن أفكارها.
كما بدت ردود الفعل التي أحدثتها الخطوة في الخارج مختلفة عن الداخل، والتفسيرات في كليهما متباينة أيضا، فقطاعات حقوقية وسياسية في الخارج تعاملت معها باعتبارها وسيلة لتحسين سجل حقوق الإنسان في مصر، ومقدمة لمصالحة منتظرة مع الإخوان أو خطوة لتهيئة الأجواء الخاصة بذلك، وحاول البعض التضخيم من أهميتها ومنحها دلالة سياسية دقيقة بشأن استعداد السلطة في مصر إلى تقديم تنازلات.
بينما الردود والتفسيرات الداخلية كانت بعيدة عمّا استقر في وجدان الخارج وعقله، ولم يمنح أصحابها حجما مفصليا للخطوة، بل وضعت في سياق محدود يتعلق بمحاولة تخفيف بعض الاحتقانات المجتمعية، ولا تنطوي على معان سياسية تخوّل للإخوان العودة إلى المشهد العام، والانخراط في تفاصيله.
يعلم النظام المصري أن الثأر من الإخوان يتجاوز حدوده المباشرة، فقد رسخت الدولة أركانها بعد سقوط نظام الجماعة قبل أكثر من عشر سنوات، وتمكنت أجهزة الدولة من تثبيت الأمن والاستقرار وقضى جيشها وشرطتها على الإرهاب في البلاد، ولا قيمة سياسية أو وزنا أمنيا للإخوان في الوقت الراهن.
كما أنه جرى تقويض الدور الاجتماعي للإخوان وهناك الكثير من الجهات الحكومية والخاصة تقوم بما يفوق القدرات الأهلية للجماعة، بالتالي فكرة القوة المادية والمعنوية التي تمتعت بها في الشارع تلاشت تماما، ولا توجد تهديدات حقيقية من جانبها، خاصة أن الدول التي وقفت معها وساندتها طوال السنوات الماضية تخلت عنها أو تراجع دعمها لها بعد أن تحولت إلى عبء عليها.
ولم تعد هناك إزعاجات خارجية مربكة للنظام المصري تجبره على مصالحة أو الإقدام على ليونة سياسية، حيث نجح في تقليص أجنحتهم، وفقدت الكثير من قيادات الجماعة قدرتها على التأثير والتجنيد والحشد، ناهيك عمّا يعتمل داخل الجماعة من مشكلات جعلتها مشتتة ومنقسمة بين أجنحة متعددة.
ربما تقتضي البراغماتية السياسية لدى أيّ نظام على القيام بمصالحة ما مع خصومة في لحظة معينة، لكن في حالة مصر المسألة معقدة من زاويتين. الأولى تتعلق بالنظام المصري الذي استمد جزءا من مشروعيته من العداء للإخوان وتجفيف منابعهم، وتبنى منذ البداية خطابا حادا إقصائيا لا يوفر هامشا للحركة أمام الجماعة، وتعلم أجهزة الدولة بواطن الإخوان وقدرتهم على إظهار غير ما يبطنون.
وتقف تجربتا الرئيسين السابقين جمال عبدالناصر وأنور السادات شاهدتين على غدر الجماعة بهما بعد مهادنة، وهو ما يدركه جيدا الرئيس السيسي، والذي لا يريد منح الإخوان فرصة للمناورة، أو انتظار اللحظة التي يمكن أن يكرروا غدرهم فيها.
إقرأ أيضا : هل صواريخ بايدن عقبة أمام ترمب؟
أما الزاوية الثانية فهي تتعلق بشريحة كبيرة من المصريين، والتي قد تعاني بشدة من مرارات الأزمة الاقتصادية وتوابعها الاجتماعية، لكنها لا ترى في الإخوان بديلا أو يمكن منحهم فرصة ثانية، فقد سقطوا بامتياز في تجربتهم السابقة في الحكم، ولم يعد هناك من يراهنون عليهم في مصر، وعلى العكس يرون أن المصالحة معهم عودة إلى الوراء، وانتكاسة تفوق معاناتهم من مشكلات تسببت فيها تصورات السلطة الحالية.
تمثل هذه النقطة كابحا للنظام المصري لاستبعاد التفكير في الانفتاح على الجماعة، وهي أداة أيضا في يده عندما يدار نقاش مع أيّ جهة خارجية تحتفظ بتعاطف سياسي مع الإخوان، فغالبية المواطنين يمانعون العودة إلى سيناريو المصالحة مع الجماعة، حيث فقدت مصداقيتها بصورة لا تترك مساحة للرجعة مع المصريين قبل نظامهم.
ولذلك من راهنوا على أن خروج المئات من قوائم الكيانات الإرهابية سوف يخسرون رهانهم قريبا، لأن هناك حلقات كبيرة معقدة، وألغازا سياسية لم يتم تفكيكها، وقضايا معلقة في حاجة إلى تسويات ناجعة، فهناك أعداد كبيرة من قيادات الإخوان في السجون، وكل ما قيل عن قيام شباب الجماعة بإجراء مراجعات تحمل توبة سياسية غير دقيقة، أو قد تكون حدثت من قبلهم، لكن السلطة لا تعتد بها ولم تعلن موافقتها عليها.
وهذه واحدة من المحددات التي تجهض خطاب المصالحة، ومن يروّجون له يعتقدون أنه بإمكانهم الضغط على القاهرة لإحراجها أو محاولة جس نبضها ووضع الشارع المصري على محك جديد يقيس مدى تقبله ورفضه لتسوية سياسية مع الإخوان، غير أن النتيجة التي يخلص إليها المراقب بعد قرار محكمة الجنايات أن مجال المصالحة بين الإخوان والنظام المصري موصد، والطريق لا زال طويلا، فهذه معركة ممتدة يحتاج وقفها إلى أدوات مبتكرة واستعدادات سياسية ليحدث اختراق كبير يسمح بتغيير المعادلة التي تعايشت معها أطراف عديدة في السنوات الماضية.