الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرات اعتقال بحق كل من بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت والقائد في حركة حماس محمد ضيف بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. وقال ممثل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن قرار المحكمة الجنائية الدولية ملزم لكل الدول الأعضاء في المحكمة والاتحاد الأوروبي. وصرحت وزارة الخارجية الفرنسية بأن “رد الفعل الفرنسي على أمر المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي سيكون متوافقا مع مبادئ المحكمة.” وأضافت “يجب تطبيق العدالة الدولية في كل المواقف. نعتبر المحكمة الجنائية الدولية ضامنة للاستقرار الدولي ويجب ضمان عملها بطريقة مستقلة.”
في غمرة هذه السياق، يجب التذكير بما قاله رئيس الوزراء الأيرلندي أيضا سيمون هاريس، إن مذكرات الاعتقال “خطوة مهمة وخطيرة. فأيرلندا تحترم دور المحكمة الجنائية الدولية. ويجب على أي شخص في وضع يسمح له بمساعدتها في أداء عملها الحيوي أن يفعل ذلك الآن على وجه السرعة.” وفي تصريح آخر، أعلنت كولومبيا على لسان رئيسها أنه في حال وطأت قدما نتنياهو أو وزير دفاعه السابق أرض كولومبيا، سوف يتم اعتقالهما.
على النقيض من هذا، أعلن رئيس الوزراء المجري، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، أنه سيدعو نظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى بودابست في تحد لمذكرة المحكمة.
في الوسع العودة خطوة إلى الوراء، وهذا التشخيص الكلاسيكي للحالة الأوروبية – الإسرائيلية التي يجب أن نذكر بها، تلك الخصوصية الاستثنائية القائمة على متانة العلاقات بين مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل وأوروبا. فلا شك أن لأوروبا دورا كبيرا في إنشاء إسرائيل منذ أكثر من 76 عاما، كان الدافع وقتها هو التخلص من الكم اليهودي في أوروبا، والعمل على تفكيك المنظومة العربية برمتها، فضلا عن تلاقي المصالح بين الصهيونية والأوروبيين في الإبقاء على العرب غير موحدين، وعودة اليهود إلى أرض الميعاد حسب زعم الحركة الصهيونية.
غير أن المفارقة الكبرى تجلت في تأييد الأغلبية العظمى في أوروبا لدعم قيام دولة فلسطينية بجانب إسرائيل. بدأ وقتها التحول السياسي الداعم لإنصاف الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. ورغم اضمحلال الدور الأوروبي هذه الأيام وتراجعه بعد الحرب العالمية الثانية، وبعدما أنعش جورج ميشال الدول الأوروبية من خلال دعم موازناتها بمليارات الدولارات من أجل أن تقف أوروبا في وجه المد الشيوعي، وقتها اشترت أميركا الذمم الأوروبية وخاب قرار القارة العجوز التي شاخت بعد الحرب. بعد ذلك، لم تترك أوروبا إسرائيل حتى في ظل الحرب الأخيرة على غزة، ومدت ألمانيا وإيطاليا وفرنسا يدها لإسرائيل وأمدتها بالسلاح والرجال لمناصرتها ودعمها لتبقى واقفة.
اقرأ أيضا| اعتقال نتنياهو بين الخيال والواقع
قرار الاتحاد الأوروبي بمجمله ينادي بحل الدولتين لكن شرط عدم وجود حماس بشكلها الحالي الرافض للاعتراف بإسرائيل كدولة لها حق الوجود. لكن هذا النهج لم توافق عليه إسرائيل على الإطلاق، فهي تريد أن تحقق ما تريده من خلال بسط النفوذ في الضفة الغربية والقدس وغزة، وأن تبقى الضفة الغربية مقطوعة الأوصال من خلال شق الطرق الالتفافية، ومصادرة الأراضي لبناء المستوطنات. هذا الإجراء رفضته المجموعة الأوروبية وما زالت. إذن العالم اليوم مقسم على نفسه، منهم من يريد حلا عادلا للقضية الفلسطينية، والولايات المتحدة التي لا تريد تسوية القضية الفلسطينية حسب قرارات الأمم المتحدة نزولا عند رغبة إسرائيل التي تقف بكل قوتها في وجه تمرير خطة حل الدولتين.
وإذا صح الافتراض، لا أحد يخمن مدى قدرة الأوروبيين على التأثير على إسرائيل للجلوس مع الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات لكي يتوصل الطرفان إلى حل ينهي النزاع الدائر بينهما منذ عشرات العقود. لهذا تبقى الأمور في دائرة مغلقة تراوح مكانها. أمر مفهوم تماما أن تكون الولايات المتحدة وإسرائيل ضمن أصوات الرفض، وما دامت الولايات المتحدة تستخدم حق الفيتو لصالح إسرائيل، فعدم وجود توازن دولي اليوم من شأنه أن يبقي على تعنت إسرائيل لتمنع تنفيذ قرار حل الدولتين.
نحن اليوم وسط الضعف الذي تضطلع بقسط منه أوروبا في مواجهة تحديات العصر الكبرى المتمثلة في الصين الصاعدة كسرعة البرق، وروسيا التي تحاول بكل قوتها أن تعيد مجدها المندثر، والهند التي تطرق أبواب الصعود إلى القمة. وبما أن الاتحاد الأوروبي واجه صعوبات كبيرة في الموافقة على أي نوع من السياسات بشأن قضية فلسطين بعد سنة 2016، فقد ضعفت قوته المعيارية أيضا بشكل كبير.
وهذا يعني أن الاتحاد الأوروبي الذي قاد على امتداد عقود التحولات في سياسات المجتمع الدولي بشأن قضية فلسطين، لم يعد لديه الكثير ليقوله في نطاق المناقشات التي تدور بشأن قضية فلسطين، سواء في ما يتعلق بالمساواة في الحقوق للجميع في إسرائيل – فلسطين، وحل الدولة الواحدة المطروح ضمن عدة سيناريوهات، أو في مسائل الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. لهذا ردت فرنسا على اعتراف جيرانها إسبانيا وأيرلندا والنرويج بالدولة الفلسطينية، بأنه ليس الوقت المناسب للاعتراف بفلسطين، حيث إن الظروف ليست مهيأة حتى الآن لإحداث تأثير حقيقي على تنفيذ حل الدولتين بين فلسطين وإسرائيل.
قصارى القول، التاريخ من جانبه لن يطمس تقلبات السياسة الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية، مدا وجزرا، ولكن مدى ثبوت بعض الدول الأوروبية على تطبيق قرارات المحكمة الدولية يكشفه الزمن.
في النهاية، نتنياهو بعد صدور قرار باعتقاله هو ووزير دفاعه في وضع صعب. وليس أقل مغزى، أو بالأحرى لعله في طليعة الدلالات، دور ترامب المخلص لنتنياهو من محنته. فترامب الذي لا يعترف بالمؤسسات الدولية وعلى رأسها مؤسسات الأمم المتحدة، يشير جل المراقبون إلى أنه سيعيد الأمور إلى مجاريها متجاوزا قرارات الأمم المتحدة، وسوف يكون له تأثير قوي على أغلبية الدول التي أيدت قرار المحكمة الدولية.
إذا أوروبا المتأرجحة لا يعول عليها في ظل القطب الواحد صاحب التأثير السياسي في العالم بلا منازع.