لا يتغير المشهد السياسي الليبي إلا بصِدام أو صدمة.. تاريخياً السلطة في ليبيا تُنتزع بالقوة الخشنة تحت مسميات مختلفة.. وإن كانت الوسيلة ناعمة في صورة حوار وتوافق وتقاسم أو ما شابه.. هذه هي المعطية التاريخية المستخلصة من تجربة ليبيا السياسية الحديثة.
محطات التغيير السياسي الرئيسية الحديثة في ليبيا تبقى شاهداً على هذا القول.. فأول حكومة استهلت مرحلة فبراير تشكلت بعد حرب 2011 الضروس.. وحكومة 2015 نتجت عقب حرب 2014 الغبية.. وآخرها حكومة الوحدة الوطنية التي كانت وليدة لحرب 2019 المفصلية.. إنها (خوارزمية) سياسية ليبية بامتياز.. (ثالوث) من حاءات متلازمة ومترابطة (حرب وحوار وحكومة).. حرب تقود إلى حكومة.. والحكومة تمهد لحرب.. تتخللهم حوارات صورية.
لا وجود أو معنى لمفردة التعددية في قاموس الذهنية الليبية.. الأحادية هي المحرك لبواطن الفكر والسلوك والفعل للنخبة السياسية.. هناك هامش ضيق لفكرة الحوار والقبول بالآخر والشراكة.. حالة متوحشة ومستديمة من الأنانية والتوحد وانعدام الثقة.. ولذا حينما يتعاطى الليبي السياسة ينبذ الحوار الفاعل.. وينجذب أوتوماتيكيا للعنف المادي أو اللفظي عندما يكون أمام حالة تنافسية أو متعددة الرؤى والاتجاهات.
هذا هو السبب الجوهري لتردي الوضع السياسي المأزوم في ليبيا.. الوصول للسلطة والقبض على زمامها يبرر كل وسيلة تُتخذ.. من يصل إلى كرسي السلطة يلتحم به.. ثم يختلق المبررات لذلك الالتحام.. حتى ينتهي الأمر لصِدام.. ولذا لا يشكل السلوك السياسي لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة (استثناء) من منطق السياسة الليبية.. فالطريق لتجديد الحكم من (طريق السكة) ثمنه حرب.
مشكلة النخبة السياسية الليبية في العموم تكمن في الافتقار للضوابط الوطنية.. وتضارب الرغبات الخاصة والمصالح الوطنية.. والإطار الأخلاقي الذي يضع ذلك السياسي نفسه خلاله.. والبُعد الأسوأ والكارثي و(الحصري) للنخبة السياسية المسيطرة هو التضحية بكل الأعراف السياسية والقيم المجتمعية والوطنية والدوس عليها وتقديمها قرابين للحلفاء والشركاء أو الأعداء.. و(كلهم سواء).. مقابل التشبث بالمكاسب ومنع أي تغيير سياسي أو حالة تداولية.. لا توجد حدود لضبط وإدارة التنافس السياسي.. فمع غياب أدبيات ومرجعيات سياسية رصينة.. يشترك الإسلاموي والعقائدي والقومي والثورجي والليبرالي.. والخالي من كل ما سبق.. في اتباع (التبرير) كمنهج أصيل للممارسة السياسية.. حتى يُخيل إليك أن النظرية (الميكافيلية) موطنها ليبيا.
ولذا تكونت لدى مجلس النواب والدولة عقيدة سياسية (تبريرية) منحرفة مفادها أن حل الغرفتين التشسريعيتين أو إنهائهما دستورياً أو شعبياً يعني نهاية الدولة وضياع الأمة الليبية وعودتها للمربع (الدكتاتوري) بزعمهم.. ولا يفرُق السلوك السياسي (اللعوب) للمجلس الرئاسي عن نظرائه من النخبة السياسية في البرلمان ومجلس الدولة باختلاق المبررات (المُنَمقة) للخلود في قاعدة أبوستة البحرية وتقمص دور قائد المصالحة الوطنية برغم أن القِوى (الخشنة) صاحبة القول الفصل في العاصمة (الوادعة) وتراب غرب ليبيا رفعت عنه الحرج السياسي والغطاء الوطني.
إن أشد الأخطار التي تهدد وجود وتماسك كيان الدولة الليبية المتصدع هي أولاً التدخلات الأجنبية المخزية (عسكرياً وسياسياً وإقتصادياً ومالياً وديموغرافياً) التي تصادر استقلالية وحرية القرار الوطني.. وثانياً انقسام المؤسسات الحكومية الأمنية والاقتصادية والسيادية وعودة نموذج العاصمتين (طرابلس وبنغازي) وما يتبعه من انقسام جغرافي تظهر معالمه صريحة عند الكيلومتر الخمسين غرب سرت وعند المنتصف ما بين القريات والشويرف.. حيث أعمال (التشوينات) العسكرية لمشروع انشطار الدولة انطلقت.
لذلك فالسلوك (التبريري) للنخبة السياسية المسيطرة يصيب في مقتل كل الجهود والآمال والتطلعات للقوى الوطنية في تنظيف البلد من (خازوق) التدخلات الأجنبية التدميرية في جسد الدولة الليبية.. ومحاولات توحيد مؤسسات الدولة كأساس لإنطلاق مشروع إعادة بناء الدولة.. فلا ضير أن تٌهدم الدولة لتبقى السلطة.. وأن تُرابض القوى العسكرية الأجنبية داخل حرمة الوطن للحماية من أبناء الوطن على الضفة الأخرى.. وأن يُقدم المواطن الليبي المُسن (المريمي) قرباناً للمخابرات الأميركية مقابل غض النظر عن انتهاء ولاية الحكومة.. وأن تغازل وزيرة الخارجية نظيرها من كيان قتلة الفلسطينيين لكسب مزيد من الوقت في السلطة.. وأن يتراشق البرلمان ومجلس الدولة بمقترحات القوانين الانتخابية والطعون وفوبيا (سيف الإسلام) والعسكر ومزدوجو الجنسية من أجل التلاعب بالوقت والتمسك بمزايا السلطة على حساب تفويت الاستحقاق الانتخابي.. وليذهب الوطن وبقايا شعبه للجحيم.. وأن.. وأن.. وأن.
هذا المنهج (التبريري) السلبي المتجذر لساسة ليبيا يمثل أكبر خطر على وحدة ليبيا وسيادتها واستقلالها واستقرارها واستمرار حالة الصراع المفتوح الأجل.. وهو الذي وأد آخر محاولات الحفاظ على ليبيا (الموحدة) وإجراء تغيير سياسي (سلمي) بتنظيم الانتخابات البرلمانية والرئاسية ليلة (كريسمس) 2021.. سلوك نخبوي سياسي متناقض.. ظاهره رغبة في إجراء الانتخابات وباطنه عمل كل ما يعيق ذلك.. ضجيج يتعالى ويخبو حول شرعية لجنة 6+6 ومخرجاتها.. ورغبة رئيس مجلس النواب (عقيلة صالح) واصطدامها مع رغبات رئيس مجلس الدولة (محمد تكالة) حول مواصفات الرئيس الليبي المنتظر.
تعلم الأطراف السياسية الرئيسية ومن ورائها محلياً وإقليمياً ودولياً أن إجراء الإنتخابات الوطنية بدون (نسخة) حكومة جديدة يعد ضرباً من المستحيل.. قياساً على مبدأ تعارض المصالح.. و(القاضي هو الخصم).. وأن تكوين حكومة جديدة يستلزم (افتكاك) السلطة من حكومة (الدبيبة) بالقوة عملاً بالأسلوب السياسي (الليبي) لتداول السلطة.. وتعلم هذه الأطراف أيضاً أن طقوس البعثة الأممية وتراتيل المبعوث الأممي (باتيلي) سليل أعرق الديمقراطيات الأفريقية لفك طلاسم الانسداد السياسي عبر الحوار لم تعد مفهوهه ومسموعة.. حيث أصوات التكبير في (الوطية) وقرب قاعدة (القرضابية) والجفرة تعلو.
الحرب تصنع السلام في كثير المواضع واللحظات التاريخية للصراع الإنساني الأزلي.. أما في الحالة الليبية فالحرب سبيل لتمويل العملية السياسية وإحداث تغيير سياسي.. ومداها وضراوتها ستكون على قدر الحكومة القادمة.. إما حرب مباغتة وخاطفة وحكومة تكنوقراط مصغرة.. أو حرب ضروس تعيد رسم خارطة ليبيا.. حبيسة (ثلاثية) الحوار والحكومة والحرب.