غلق مكتب حماس لا يعني غياب أذرعها في الدوحة
من المعلوم أن قطر عندما نسجت علاقتها مع هذا التيار بألوانه المختلفة تلقت ضوءا أخضر من الولايات المتحدة، وهو ما اعترف به مسؤولون كبار في الدوحة، حيث أشاروا إلى أن فتح مكتب لحماس تم بالاتفاق مع واشنطن، وبالتالي فغلق المكتب أيضا من الضروري أن يتم بالاتفاق معها.
تردد أن قطر أبلغت حركة حماس بغلق مكتبها في الدوحة. ليست تلك هي المشكلة، لأن المهمة التي قامت بها الدولة الخليجية الصغيرة استنفدت أغراضها، مع مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي له تحفظات على المتاجرة القطرية بملف الإسلام السياسي عموما.
كما أن المصادر التي تحدثت عن غلق المكتب، وقرأ على لسانها مذيع الجزيرة جمال ريان خبرا بهذا المعنى نقلا عن رويترز، تؤكد أن هناك قرارا أميريا صدر، لأن القناة لن تجرؤ على إذاعة معلومة بهذا الحجم ما لم تكن قد تلقت تعليمات فوقية، تدعم ما جرى الحديث عنه منذ بضعة أشهر حول غلق المكتب وتداعياته، ويومها تضاربت التقديرات حول بقاء قادة حماس ورحيلهم، فترامب لم يكن مؤكدا نجاحه وقتها.
تبدو القضية أكبر من غلق المكتب السياسي كوسيلة لتنسيق الاتصال بين حماس وإسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما من الدول، فلدى الحركة أذرع أخرى متغلغلة في مؤسسات قطرية مختلفة، إعلامية واقتصادية واجتماعية ورياضية، لم يأت أحد في الدوحة على ذكر مصيرها، في حين أن تأثيرها لا يقل أهمية عن المكتب السياسي، والذي يعد واجهة لأدوات تعمل بسهولة، وتوصل وجهة نظر حماس إلى الجمهور.
وإذا لم تقم قطر بتجفيف منابع هذا التغلغل ستظل العلاقة معها بلا تغيير كبير، وكل ما ينالها هو عدم تسليط الضوء على قيادات الحركة وعناصرها، وتبقى السياسات والتصرفات والممارسات على حالها، الأمر الذي تتكشف تجلياته من خلال السياسة التحريرية لشبكة الجزيرة. وعلى رأي أحد الأصدقاء إذا لم يختف اللواء فايز الدويري وتحليلاته العسكرية المتعاطفة مع حماس، ويتوقف اللاعب السابق محمد أبوتريكة ورفاقه عن الظهور في “بي إن سبورت” لن أقتنع بوجود تغيّر قطري نحو حماس.
ينطوي التركيز على غلق المكتب السياسي على إشارة بأن الدوحة مستعدة لإجراء تحول في توجهاتها الخارجية، بما لا يؤدي إلى صدام مع الولايات المتحدة، فبعد تجربة دونالد ترامب في فترة الرئاسة السابقة تيقنت قطر أن الخلاف مع إدارته مرة أخرى سوف يكون مكلفا، حيث ينوي منح ملف قطاع غزة وحماس والقضية الفلسطينية برمتها أولوية لن تكون نتائجها في صالح الدوحة.
ورأت أهمية في استباق هذه المسألة الآن، كي لا يبدو تغيير موقفها من حماس جاء نتيجة ممارسة ضغوط مباشرة من إدارة ترامب، مستفيدة من معلومات أميركية راجت حول الغلق أخيرا، كأنها تهيئة للخطوة الحقيقية.
تعلم قطر أن الاستثمار في ورقة حماس وجماعات الإسلام السياسي لم يعد مجديا منذ سنوات، وفقد بريقه في منظومتها، وأن توظيف الحركات والفصائل كأداة من أدوات السياسة الخارجية انتهى مفعوله بعد تدهور أوضاع هذا التيار في كل من مصر وتونس وليبيا والمغرب، ودول أخرى مثل تركيا اضطرت للاحتفاظ بمسافة عنه.
اقرأ أيضا| قطر وحماس.. ماذا بعد الفراق؟
وزادت إشكاليات الطيف الواسع من الإسلاميين عقب حرب غزة، وتوافق دول غربية عدة، ومعها إسرائيل، على حتمية اجتثاث حماس من القطاع، ومن ثم تلاشي الدور الذي كانت تلعبه الدوحة في مجال الوساطة لعقد صفقة الأسرى بين الحركة وإسرائيل، والدعم المالي لحماس، وتدريجيا يمكن أن يتراجع الدعم الإعلامي، لأنه لن يكون من المقبول سياسيا استمرار الازدواجية القطرية في الفترة المقبلة.
يحتاج تقليص دور أذرع حماس وقتا لهندسته بالشكل الذي لا يظهر الدوحة في صورة من تخلت عن كل شعاراتها مرة واحدة، فتفقد ما تبقى من مصداقية لدى المقتنعين بسياساتها، والذين يصرون على دفعها نحو عدم تغييرها.
ناهيك عن التراكم الذي حدث خلال السنوات الماضية وأدى إلى وجود عناصر الإخوان وحماس والمتعاطفين معهما في دولاب الدولة القطرية، وتكوين ما يشبه اللوبي الذي يحتاج اقتلاعه إلى بعض الوقت كي لا يضر بالدولة ذاتها، حيث أقامت الدوحة جزءا كبيرا من حساباتها على العلاقة مع الإسلاميين، وتشعبت وجنت منها مكاسب سياسية.
لكن هذه المكاسب قد تنقلب إلى خسائر، ما لم تقم قطر بالنأي عنهم أو تجميدهم إذا وجدت لذلك طريقة مناسبة، لأنها لن تستطيع قطع العلاقة معهم من دون أن تجد بديلا، بعد أن بُني جزء كبير من السياسة الخارجية القطرية عبر الرهان على الإخوان وحماس وطالبان، وكل من دار في فلكهم، ما يستوجب تخزين هؤلاء ووضعهم على الرف مؤقتا، أو استبدالهم بأوراق أخرى.
من المعلوم أن قطر عندما نسجت علاقتها مع هذا التيار بألوانه المختلفة تلقت ضوءا أخضر من الولايات المتحدة، وهو ما اعترف به مسؤولون كبار في الدوحة، حيث أشاروا إلى أن فتح مكتب لحماس تم بالاتفاق مع واشنطن، وبالتالي فغلق المكتب أيضا من الضروري أن يتم بالاتفاق معها، لكن المشكلة أن الفترة الطويلة التي اعتمد فيها دور قطر على هذه الحركة ورفاقها قد تحدث خللا في السياسة الخارجية لاحقا، ولن تتمكن الدوحة من الاحتفاظ بمسافة مستقلة عن دول الخليج أو تقبل التحول إلى تابعة.
ومن هنا تطفو إشكالية أخرى ستواجه القيادة القطرية التي ستجد نفسها في أكبر تحدّ يواجهه الأمير تميم بن حمد آل ثاني منذ توليه دفة السلطة خلفا لوالده، لأن الهامش الذي كان متوافرا في فترة ترامب السابقة اعتمد بشكل أساسي على إيران وتركيا، والآن ضربته أو سوف تضربه رياح التغيير، فطهران وأنقرة أكبر ما يهمهما عدم وضع مقصلة الجمهوريين على رقبتيهما.
تعيش قطر مرحلة دقيقة من التحول الإستراتيجي، لأن الحسابات التي بُنيت على واقع جامد في المنطقة بدأت تشهد تغيرات، وعلى الدوحة أن تستعد للتأقلم مع اليوم التالي لوقف الحرب على غزة، والذي سيكون مختلفا بالنسبة إلى دول كثيرة في المنطقة عمّا سبقها، وفي مقدمتها قطر، ما يعني أن غلق مكتب حماس حقيقة وليس مناورة هذه المرة، وأن ثمة تقييما تقوم به الدوحة يتجاوز حدود الوساطة، ويصل إلى مستوى طبيعة الدور والآليات التي سيعتمد عليها بعد غياب حماس وانتهاء مرحلتها في الأجندة القطرية، ما يقود إلى عملية مراجعة كبيرة، يتحدد من خلال ملامحها الصف الذي تقف فيه الدوحة.
ربما تكون قطر نجحت في التوصل إلى صيغة جيدة من المصالحة مع دول خليجية ومصر قبل سنوات، قد تخدمها في إعادة تدوير سياستها، لأن السنوات الماضية شهدت هدوءا، ظهرت معالمه في تخفيف حدة المتاجرة بورقة الإسلاميين وعدم الإضرار بمصالح بعض الدول، ما يعني أن الدوحة تملك قاعدة يمكن أن تساعدها إذا قررت إعادة رسم سياستها بعد غياب حماس وشقيقاتها، ويتوقف هذا الأمر على التوجهات الإستراتيجية التي يقررها الديوان الأميري بالتفاهم مع شركائه الأساسيين.