أصدرت «هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير الفلسطيني» قبل يومين بيانا جاء فيه، أن وحدات القمع التابعة لإدارة سجون الاحتلال نفذت جريمة اعتداء جسدي جديدة بحق الأسير القائد مروان البرغوثي ومجموعة من رفاقه المعزولين في زنازين سجن «مجيدو».
ووفقا لما جاء في البيان، فقد تعرّض مروان البرغوثي، في التاسع من سبتمبر الماضي، لعملية ضرب مبرح استهدفت الجزء العلوي من جسده، خاصة في منطقتي الرأس والصدر، ما أدّى إلى حدوث نزيف في أذنه اليمنى وجرح بذراعه، ولأوجاع شديدة في أضلاعه وظهره وتركه دون علاج.
اعتقل مروان البرغوثي عام 2002 وأدين في المحكمة المركزية في تل أبيب، بتهمة تأسيسه وقيادته لتنظيم «كتائب شهداء الأقصى»، وكونه مسؤولا عن عدد من العمليات العسكرية التي نفذتها عناصر الكتائب ضد أهداف إسرائيلية إبّان فترة الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى؛ وحكمت المحكمة عليه بالسجن الفعلي لفترة خمس مؤبدات وأربعين عاما.
لم يعترف مروان البرغوثي بشرعية المحكمة الإسرائيلية، ولا بحقها في محاكمته، مؤكدا أنها أداة من أدوات الاحتلال، الذي يعتبر هو جريمة بعرف المواثيق والقوانين الدولية، ويجب محاكمته؛ فأعلن مقاطعته لإجراءات المحكمة، ورفضه أن يكون ممثلا أمامها من قبل أي محامي دفاع.
عانى مروان البرغوثي في أسره، مثله مثل سائر قيادات الفصائل الفلسطينية والأسرى المحتجزين في سجون الاحتلال، من عمليات اعتداءات وتنكيل متكررة؛ بيد أننا لا نستطيع التعامل مع ما جرى معه هذه المرة، وفي السنتين الأخيرتين، كحدث «طبيعي» يندرج ضمن نطاق معادلات «المقاومة والقمع»، التي كنّا نشهدها خلال مسيرة الحركة الأسيرة وكفاحاتها في مواجهة سياسات القمع وتجارب السجان الإسرائيلي ومخططاته الفاشلة، لاحتواء الحركة وتقويض كيانيّتها وإلغاء ما كانت ترمز إليه، كرافد رئيسي في معركة التحرر ومقاومة الاحتلال؛ وفشله كذلك في تعطيل دورها البارز في تكثيف معنى المشاركة الوطنية في المعاناة الجماعية، وأساسية وحدة الكفاح بكرامة وبإصرار.
أصابت جميع الجهات التي تطرقت ببياناتها لعملية الاعتداء، حين وصفت ما جرى مع مروان كمحاولة لتصفيته وحمّلت إسرائيل كامل المسؤولية عن سلامته وحياته وسلامة جميع الأسرى؛ ومطالبة جميع المؤسسات الدولية لتأخذ دورها في حماية الأسرى.
من سوء حظ الحركة الأسيرة، إن جاز التعبير، أن تبقى معاناة الأسرى اليومية في سجون الاحتلال، بعيدة عن صدارة الأحداث، ومتابعتها إعلاميا في ظل أهوال مشاهد القتل الوحشية الجارية في غزة وداخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أقول من سوء حظ الحركة الأسيرة، لأن ما تمارسه السلطات الإسرائيلية، لاسيّما بعد السابع من أكتوبر 2023، يثبت أن أقطاب الحكومة الاسرائيلية يعتبرون ساحات السجون جزءا من ساحة المعركة الواحدة ضد العدو الفلسطيني، ويتصرفون مع الأسرى كجنود يجب هزيمتهم أو القضاء عليهم. وهذا ما حذرت منه وشددت عليه جميع المؤسسات الحقوقية، وبيان اللجنة المركزية لحركة فتح، وبيان صادر على لسان الرئيس محمود عباس كانت قد نقلته مؤخرا وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا»، جاء فيه بأن رئيس دولة فلسطين «حيّا الصمود الأسطوري لأسرانا الأبطال في معتقلات الاحتلال الإسرائيلي، وعلى رأسهم الأسير القائد مروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لفتح والقادة الأسرى، مدينا بشدة ما يتعرضون له من تنكيل وحشي».
وشدد الرئيس «على أن ما يتعرض له أسرانا البواسل يأتي في سياق الحرب الشاملة التي يتعرض لها شعبنا في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس».
هذا الكلام صحيح، وهو يعكس حقيقة الخطر الذي يتعرض له الأسرى كما أظهرت أيضا الشهادات التي رصدتها المنظمات الحقوقية والمعلومات، حول حرمان الأسرى من حقوقهم الأساسية، وإخضاعهم لسياسة تجويع متعمّدة ومنعهم من تلقي العلاجات والرعاية الطبية، وإطلاق حملات التعذيب والإذلال شبه اليومية التي راح ضحيتها في السجون أربعون شهيدا منذ السابع من أكتوبر.
لقد استغل المسؤولون عن مصلحة السجون حادثة السابع من أكتوبر وتداعيات الحرب التي فجرتها إسرائيل في المنطقة، وكثّفوا ممارساتهم التنكيلية، وفق استراتيجية لم تعد تحسب حساب وقوع الضحايا بين صفوف الأسرى. يخطئ كل من يعتقد أن هذه الاستراتيجية هي وليدة السابع من أكتوبر، أو هي مجرد ردة فعل انتقامية عابرة؛ فنحن، العاملين في مجال الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين، استشعرنا كيف تخطط حكومات اليمين المتعاقبة منذ أكثر من عقد لإحداث انقلاب جذري كان يستهدف تقويضا كاملا لشروط حياة الأسرى ونقض أحكام «الوضع القائم» داخل السجون.
اقرأ أيضا| التحالف العالمي لحل الدولتين لإقامة «الفلسطينية»
كانت نقطة التحول الاولى عندما أعلن وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان في شهر يونيو 2018 عن إقامة لجنة خاصة لدراسة أوضاع الأسرى الفلسطينيين، مهمتها أن توصي بالسبل الكفيلة بتشديد ظروف أسرهم، وحصرها عند الحد الأدنى. لم يخفِ أردان هدف حكومته الأساسي، فأعلن حينها أنه «يجب أن يعلم كل من يخطط لتنفيذ عملية إرهابية بدوافع دينية أو قومية، أنه سيدفع حياته ثمنا لذلك، أو أن يتعفن لسنوات طوال داخل السجن».
أي باختصار: الاستسلام أو الموت أو التعفن في الزنازين الباردة والمظلمة. كانت تلك بداية إعلان السلطات الإسرائيلية حربا ضروسا على الأسرى، أدّت مباشرة إلى إلغاء جميع مواد «الكود» المتعارف عليها منذ عقود طويلة، في مسعى لسحق الروح الفلسطينية الحرّة ونزعة الأسير الثابتة للتحدي والصمود.
لن تتسع هذه العجالة لسرد جميع محطات درب الآلام التي يسير على جمرها الأسرى في السنوات الأخيرة؛ لكنني سأتوقف عند عتبة شهر مايو عام 2023 يوم استشهد الشيخ خضر عدنان في عيادة سجن الرملة وهو مضرب عن الطعام. إنها محطة فارقة في تاريخ المواجهة بين إرادة المقاوم الفلسطيني المتماهي حتى آخر أنفاسه مع قناعاته النضالية وقيَمه الإنسانية والعقائدية، وإصراره على تجسيد فهمه لمغزى الحياة وتحقيق حريته المطلقة في مواجهة وكلاء الشر المطلق.
أتوقف عند هذه المحطة لأنها كشفت لي حقيقة أن السلطات الإسرائيلية تخلت عمليا عن واحدة من فرضيات العمل الأساسية، التي مكنتنا من حل عدد من الصراعات والإشكالات بين الأسرى وإدارات السجون؛ خاصة في حالات الأسرى المضربين عن الطعام. كانت القاعدة الموجّهة المتفاهم عليها تفترض أن السلطات الاسرائيلية، الأمنية والسياسية الرسمية، لا ترغب ولا تتعمد أن يصل الصدام إلى حالة من العناد قد تؤدّي إلى وفاة الأسير المضرب؛ وكذلك كان الافتراض يقضي أن الأسير لا يُضرب راغبا أو مختارا موته، لأن هؤلاء الأسرى يضربون كأحرار ليحيوا.. ولكن بكرامة.
لقد نجحنا وفق تلك المعادلات بمتابعة جميع حالات الأسرى المضربين، ووصلنا إلى النهايات السليمة، ومن بينها كانت قضية الشيخ خضر، الذي خاض هذه التجربة مرات عديدة وخرج منها سالما منتصرا.
ساهم ذلك «الكود» وما أتاحه من حدود ممكنة في تفكيك الأزمات، إلى أن قررت إسرائيل الجديدة نسفه وإلغاء ضوابط «الوضع القائم» فتركت لشرّها المطلق أن يتحدى إرادة الفلسطيني وكرامته وتمسكه بروحه الحرة، حتى وقعت الواقعة واختار الخضر أن يخوض المعركة للنهاية فاستشهد على محطة رافضا ما كان مكتوبا عليها «إمّا أن تستسلموا أو تموتوا أو تتعفنوا في الزنازين المظلمة»؛ وسطّر بموته أحد مشاهد الصراع اللافتة والحزينة على دروب الدم الفلسطيني المغتصب.
قالوا إن الاعتداء على الأسير مروان البرغوثي هو محاولة لتصفيته، وهذا طبعا احتمال وارد؛ فالفلسطينيون يقفون اليوم على محطات جديدة وإزاء مواجهة قاسية تستدعي من الجميع، خاصة أبناء الحركة الأسيرة، التأهب والاستعداد لمواجهتها.
عناوين المرحلة المقبلة واضحة ولا لبس فيها؛ فالأسرى، مثل جميع الفلسطينيين، «يربّون الإرادة والأمل» ويتحدون إسقاطات العهد اليهودي القديم/ الجديد وتعاليم أرباب هذه الحرب، وهي الحرب المنفلتة على إيقاعات مزاميرهم القديمة/ الجديدة، حيث الشر فيها مطلق وروح الأسير الفلسطيني الحر تواجه العبث والمستحيل؛ وحيث الزمن يتراكض أمامنا على دروب الدم ومحطاتها الفلسطينية الثابتة: محطة الكرامة ومحطة الحرية ومحطة الحياة.