في ظلّ تصاعد العمليات العسكرية المستمرّة بين لبنان وإسرائيل، تزداد مأساة النزوح مع سعي الآلاف من اللبنانيين للفرار من مناطق الخطر بحثًا عن ملاذ آمن.
وفقًا لآخر إحصاءات رسمية، يُقدّر عدد النازحين اللبنانيين حاليًا بنحو مليون و400 ألف نازح، بينهم قرابة 350 ألف طفل، ما يشير إلى كارثة إنسانية تتفاقم يومًا بعد يوم.
وتكشف البيانات أيضًا أنّ 190 ألفًا من هؤلاء النازحين يعيشون في مراكز إيواء جماعية، بينما تبيت أعداد أخرى في العراء، مفترشة الطرقات والساحات العامة، وسط أوضاع معيشية صعبة وغير مستقرة.
في هذا السياق، استجابت بعض المحال التجارية والجهات الإنسانية ففتحت أبوابها لاستقبال النازحين واستضافتهم، إلا أنّ غضبًا واسعًا انتشر بين الناشطين الحقوقيين تجاه ما وصفوه برفض بعض دور العبادة من مساجد وكنائس فتح أبوابها أمام المحتاجين، موجهين للمسؤولين عنها اتهامات بالتقاعس عن تقديم يد العون للنازحين في وقت حرج يمر به لبنان.
رحلة البحث عن مأوى
تروي ليان قيس، شابة لبنانية من قرية الهبارية في جنوب لبنان، تفاصيل معاناتها مع النزوح قائلة: “أنا من قضاء حاصبيا، ومنذ نحو أسبوع، تلقّت قريتنا تحذيرًا من الجيش الإسرائيلي بقصفها، فهربنا مسرعين إلى قرية في محافظة البقاع، وهناك وجدنا أهل القرية يستقبلوننا بكرم وتقديم الطعام لنا، كنا مرهقين للغاية”.
اقرأ أيضا.. خبراء: قرار إسرائيل حظر «الأونروا» انقلاب على المجتمع الدولي والشرعية الأممية
وأوضحت ليان، في حديث مع ««جسور بوست»»، أنها حاولت اللجوء إلى المسجد في القرية، لكنّ الظروف لم تسمح بذلك، قائلة: “لم نتمكن من النوم فيه، لم يكن هناك أي تجهيزات من فراش وأغطية، فاضطررنا للمغادرة لاحقًا إلى مدرسة افتتحتها الدولة وأقمنا فيها، نحن نشعر بالأمان هنا، لكننا نكرر الدعاء ليلًا ونهارًا للعودة إلى بيوتنا؛ فليس هناك أمان إلا فيها”.
أما عبد السلام عقيل، شاب من سكان الضاحية الجنوبية لبيروت، فيروي رحلته نحو الأمان: “مع بدء القصف على الضاحية، اضطررنا لترك المنزل والتوجه نحو العاصمة، حيث استأجرنا منزلًا في منطقة برج حمود”.
وقال لـ«جسور بوست»: في طريقنا، رأيت الناس يجلسون على أدراج مسجد محمد الأمين وسط البلد، ولم أرَ أي مسجد أو كنيسة تفتح أبوابها أمام النازحين، ربما هناك دور عبادة فتحت أبوابها، لكني شخصيًا لم أسمع بذلك”.
جدل حول فتح دور العبادة
بخصوص الانتقادات حول عدم فتح دور العبادة أمام النازحين، أوضح المدير العام للأوقاف الإسلامية في لبنان، الشيخ محمد الأروادي، أن “الجامع ليس فندقًا أو مركزًا للإيواء، إنه مكان مقدّس مخصص للصلاة والطهارة، ولا يمكن معرفة أو ضبط هوية كل من يدخله”.
وأضاف الأروادي في تصريحات لـ«جسور بوست»: “ليس من واجبنا توفير مراكز إيواء، فتلك مسؤولية الدولة”.
المساجد قامت بواجبها
واتفق مفتي حاصبيا ومرجعيون، القاضي الشيخ حسن إسماعيل دلي، مع كلام الشيخ الأروادي، موضحا أن عدم فتح مسجد محمد الأمين سببه أنه “لم يوجد عند إدارته الكادر البشري اللازم للاهتمام بالنازحين، فالنازح يلزمه أمور كثيرة من تجهيز الفرش والأغطية والمنظفات واللوازم الضرورية للإنسان وهذا غير متوفر، وهذا يعرض المسجد إلى أمور تعود سلبا على النازح قبل المسجد، إضافة إلى أن النازح يلزمه الطعام والشراب”.
وأضاف المفتي دلي في حديث مع «جسور بوست»، إن “تسليط المشكلة على مسجد محمد الأمين ليس بمحله”، مشيرا إلى أن “مساحته الكبيرة ويلزمه ما لا يقل عن 250 شخصاً لتنظيم الأمور فيه”.
وشدد على أن “الدولة هي المعنية بالدرجة الأولى وعليها تأمين الأماكن التي يحتاج إليها النازح لحفظ كرامته وانسانيته ولدى الدولة أماكن كثيرة كان عليها المسارعة إلى حل مشكلة النازحين لا لتوجيه النقد والهجوم على إدارة المسجد”، مضيفا “تم فتح قاعات مساجد كثيرة كما الكنائس، وليس صحيحا أن المساجد أغلقت أبوابها بوجه النازحين وإن كان لمسجد محمد الأمين حيثيات إدارية ولوجستية”.
وتابع: “قاعة مساجد حاصبيا ومرجعيون ومرج الزهور فتحت أبوابها لأهلنا النازحين في الأيام الأولى للنزوح والاهتمام كان على مستوى الحدث وكان التعاون مع بلديات هذه المدن لذلك علينا ان نبتعد عن توجيه السهام يمنة ويسرة في وقت نحن بحاجة إلى أن نداوي جراح النزوح والاهتمام بأبناء وطننا لما يحتاجون إليه من مأكل وملبس وأدوية، وتم نقل الأسر النازحة إلى بيوت في وقت لاحق حفاظا على خصوصيتهم”.
أديرة فتحت قلبها
في بعلبك لم يجد الناس الأمان من القصف سوى في دير سيدة المعونات حيث وجدوا كل الترحيب، حيث قال المحامي والناشط أنطون ألوف: “نقوم، في الدير، بإيواء نحو 100 من النازحين معظمهم نساء وأطفال ومسنين، نزح معظم هؤلاء من قرى مقنة والشراونة ومدينة بعلبك وبساتينها حيث ينامون في غرف بالطابق الأرضي للدير، ونعمل على تأمين المنامة لهم والفرش والأغطية ووجبات الطعام”.
وتابع في حديث مع «جسور بوست»: “نعاني من ضعف الإنارة ونقص البطاريات الكافية لتشغيل الطاقة الشمسية، وأيضا ليس لدينا القدرة على تأمين المأكل أكثر من مرة في النهار، كما لم يعد بمقدورنا زيادة عدد المستضافين، فقد بلغنا قدرتنا القصوى”، مضيفا “تواصلت معنا بلدية بعلبك وبعض الجمعيات المحلية والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين ووعدنا بإقامة عدد من الحمامات، والتمويل حاليا ذاتي بما تيسر”.
إيواء تحت النار
في بلدة رميش الجنوبية، فتح دير سيدة البشارة لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الناس، وفي هذا الإطار كشف ابن بلدة رميش، غابي الحاج، أن الدير يستقبل “نحو 120 نازحاً من عين ابل، نصفهم يقطنون في غرف الدير حيث يوجد في كل غرفة سرير وحمّام، في حين أن النصف الآخر يقطن في غرف المدرسة التابعة للدير”.
وأضاف الحاج، في حديث مع «جسور بوست»، أن “هناك نحو 75 عائلة من عين ابل يسكنون مع أهالي رميش في البيوت، بالإضافة إلى 20 عائلة من قرية يارون”، مؤكدا أن “أهالي بلدة رميش يشاركون النازحين بكل شيء، البيوت مفتوحة للجميع وكل شيء لدينا نتقاسمه معهم”.
وفي وقت يشير الحاج إلى أن الطعام والماء مؤمنان للنازحين من قبل الدير، كشف عن أن “بلدية رميش نجحت بتأمين كميات من المساعدات من المنظمات الدولية (مثل شيلد، واليونيسف، وغيرها)، موضحا أن “هناك تواصل قائم مع الجهات الحكومية مثل وزارة الشؤون في محاولة لتأمين مساعدات أخرى”.
وقال الحاج، إن البلدة تعاني من مشكلة أساسية فيقول “ليس لدينا مستشفى قريب، ونطالب بتجهيز المستشفى الميداني الذي بدأت بلدية رميش بتجهيزه بالتعاون مع أهالي القرية، ولكن ينقصه مواد طبية”.
وبينما يؤكد أن القرية لم تتعرض حتى الآن لأي تهديدات اسرائيلية بالإخلاء على غرار ما حصل في مناطق لبنانية عدة، كشف الحاج أن “الوضع الأمني خطر جداً، خاصة أن القصف المتبادل يتساقط على أطراف البلدة، في وقت سقطت عدة صواريخ داخل البلدة”.
دور العبادة هي بيوت الله
بدوره، قال رئيس جمعية سعادة السماء، الأب مجدي علاوي، إن “الكنائس والأديرة مفتوحة لكل النازحين.. فدار العبادة هو بيت الله الذي يسكن فيه أبناؤه”، موضحا أن الجمعية “استطاعت توفير أماكن لهم، بحيث لم يكن هناك حاجة لفتح الكنائس”.
وأضاف الأب علاوي، في حديث مع «جسور بوست»: “هناك مطاعم ومقاهٍ وأماكن تابعة للجمعية تم تحويلها إلى مراكز إيواء النازحين، كما أن كل المطاعم التابعة لها في عدة مناطق مثل طرابلس وشكا وبرج حمود والنبعة فتحت أبوابها لإطعام النازحين”.
وتابع: “نُؤَمِن للذين يقيمون في مؤسساتنا حصصا غذائية ومواد تنظيف، وفي منطقة المعيصرة جهزنا مطبخا في مدرسة، وكذلك فعلنا في مدرستي جبيل وجونية حيث قدمنا فرنا يعد الخبز، ونفس الأمر لمدرسة شكا الرسمية، ولدينا أيضا فرن متنقل يجول بين المدارس لتوفير الطعام للنازحين، كما ننظم نشاطات ترفيهية للأطفال حيث نكون”.
وأوضح أن الجمعية لم تحصل على تمويل من أي وزارة أو سفارة، وإنما من أصدقاء للجمعية ومن ناشطين فيها فقط، مطالبا بتأمين مادة المازوت للتدفئة وكذلك لتشغيل مولدات الكهرباء، كون أن كلفة الكهرباء الحكومية مرتفعة.
واختتم الأب علاوي، حديثه قائلا: “أنا أنام على كرسي وغطائي سترتي مثلي كمثل الناس”.
يذكر أن الحرب المستمرة في لبنان منذ 8 أكتوبر 2023 تسببت في مقتل ما لا يقل عن 2600 شخص وجرح أكثر من 12 ألفا آخرين.
خطوات حكومية ودولية
ووفق تقرير نشره مؤخرا رئيس لجنة الطوارئ الوزارية، الوزير ناصر ياسين، فإنه “تم فتح 1114 مركزاً لاستقبال النازحين، منها 935 مركزاً وصلت للحد الأقصى من قدرتها الاستيعابية، حيث تستمر حركة النزوح ووصل العدد الإجمالي للنازحين إلى 189298 نازحاً (43616 عائلة) في مراكز الإيواء حيث سجلت النسبة الأعلى للنازحين في محافظة جبل لبنان وبيروت ولكن المقدّر أن النازحين هو أعلى بكثير”.
وذكر التقرير أن “كل الأجهزة الامنية تقوم بحفظ الأمن والمساهمة في مساعدة النازحين وتوزيع المواد الغذائية والمحروقات وحماية مراكز الإيواء ومنع عمليات الاحتكار ومراقبة الأسعار ومراقبة ضبط الحدود، كما أن لجنة الطوارئ الحكومية تتولى استلام المساعدات الدولية وتوزيعها على النازحين ضمن آلية واضحة وشفافة عبر المحافظات”.
وبحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن نحو خمس الشعب اللبناني نزح حتى الآن، بسبب الحرب الحالية، وأن الملاجئ التي أقامتها الحكومة اللبنانية باتت الآن مكتظة.
وأوضحت الأمم المتحدة أن العاملين الإنسانيين التابعين لها “يواصلون تنسيق المساعدات لمساعدة الحكومة اللبنانية، وقد تم فتح ما يقرب من 500 مأوى لنحو 80 ألف نازح، بما في ذلك 300 مدرسة”.
وأشارت إلى أنها تنسق مع “شركائها بشكل وثيق مع الحكومة اللبنانية لدعم جهود الاستجابة، ويشمل ذلك مواءمة توزيع المساعدات، وإجراء تقييمات مشتركة، وتحديد الاحتياجات العاجلة للسكان المتضررين”.