ينتظر لبنان الهدنة في غزة لمعرفة ما إذا كانت الأوضاع على جبهته الجنوبية مع إسرائيل ستعود إلى الاستقرار، أو أن إسرائيل ستفصل بين الهدنة في القطاع والنار في لبنان. وعليه بدأت الرهانات على إمكان أن تفتح أي هدنة في غزة أو وقف لإطلاق النار لا تزال مفاوضاته غير ناضجة، إمكان استئناف وساطة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين للسير في مفاوضات توقف التصعيد وتجنب لبنان الحرب، ذلك أنه إذا استمر التصعيد اليومي في ظل الغارات الإسرائيلية المتمادية على القرى وفي العمق اللبناني وعمليات “حزب الله” على ما شهدته الجبهة خلال الأسبوع، قد تنزلق الأمور إلى معارك متغيرة تتخطى قواعد الاشتباك ومفتوحة على كل الاحتمالات.
وعلى الرغم من أن جبهة لبنان باتت مرتبطة بغزة، انطلاقاً من معركة مساندة “حماس” التي قررها “حزب الله”، وتوسع الحرب الإسرائيلية إلى مناطق بعيدة، إلا أن الهدنة في القطاع إذا اكتملت بنودها، قد لا تشمل جبهة لبنان، وهو أمر أعلنه عدد من المسؤولين الإسرائيليين، في مقدمهم وزير الدفاع يوآف غالانت تحت عنوان أن لا وقف للنار من دون عودة المستوطنين إلى منازلهم في شمال إسرائيل. وما يعزز احتمالات استمرار الحرب على جبهة لبنان، رغم إعلان “حزب الله” الالتزام بوقف النار في حال الهدنة في غزة، هو انسداد الأفق بشأن التفاوض لتطبيق القرار 1701 بفعل الشروط المتبادلة، إضافة إلى محاولات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الهروب من أزماته باستمرار الحرب على لبنان حتى مع الهدنة، وأيضاً رفض “حزب الله” لكل المبادرات الدولية التي تتركز على القرارات الدولية.
وما يعزز احتمالات الحرب الإسرائيلية هو التغيّر في مواقف الإدارة الأميركية أو أقله تقديراتها، بعدما كانت ضغطت في السابق على إسرائيل لمنعها من تنفيذ عملية عسكرية ضد “حزب الله” في الجنوب اللبناني، مخافة من أن تنجزف الأمور إلى اشتعال المنطقة، فإذا بشبكة CNN تنقل عن مسؤولين في الإدارة الأميركية والاستخبارات، أنهم يشعرون بالقلق من أن إسرائيل تخطط لغزو برّي في لبنان، قد ينطلق في أواخر الربيع أو بداية الصيف. وتبدو النقطة الأخطر التي يشير إليها مسؤولو الاستخبارات الأميركيون هي أن الغزو الإسرائيلي سيحدث إذا فشلت الجهود الدبلوماسية في دفع “حزب الله” بعيداً عن الحدود الشمالية مع إسرائيل، وهو ما رفضه أصلاً الحزب في ردوده على المبادرات الدولية للحل في الجنوب.
يتطابق الكلام الأميركي الجديد مع تحذيرات دولية عدة ورسائل وصلت إلى لبنان من أن إسرائيل تتهيأ لحرب برية، وفق سيناريو تدميري يترافق مع ضربات جوية تطال مختلف مناطق لبنان، إذ إن الضربات الإسرائيلية الجوية على مناطق في بعلبك شرق لبنان شكلت مقدمة لما يمكن أن تكون عليه الحرب. وفي المقابل، استخدم “حزب الله” صواريخ جديدة في عملياته بينها صاروخ أرض- جو أسقط المسيرة الإسرائيلية المعروفة من نوع هيرمز-450، إلى قصفه قاعدة ميرون في العمق الإسرائيلي. وإذا كان هذا التصعيد يترافق مع مفاوضات الهدنة في غزة إلا أنه مؤشر لما يمكن أن تكون عليه الحرب في لبنان في المرحلة المقبلة.
يلاحظ في هذا السياق تراجع وتيرة العمليات العسكرية الداعمة لغزة في سوريا والعراق باستثناء اليمن، حيث عطل الحوثيون مسار الملاحة في البحر الأحمر، فيما بقيت جبهة لبنان الوحيدة بين الساحات الأخرى لوحدة الجبهات، مشتعلة، ما يطرح تساؤلات عما إذا كانت المواجهة ستستمر وقابلة للتوسع حتى لو هدأت على جبهة غزة، علماً أن الأميركيين عملوا عبر هوكشتاين على فصل جبهة لبنان عن غزة، لكنهم لم ينجحوا في إطلاق المفاوضات بين لبنان وإسرائيل.
لا يزال الأميركيون يمارسون ضغوطاً على إسرائيل لمنعها من شن حرب على لبنان، وهذا واضح في رسائلهم المتعددة للحكومة الإسرائيلية. ولذا تستمر المواجهات تحت سقف مضبوط يتوسع أحياناً ويخفت أحياناً أخرى، وإن كانت الضربات الإسرائيلية تطال العمق اللبناني. لكن ذلك لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، ما لم يحصل تفاهم على آليات تفاوضية لا تزال مقفلة فعلياً، خصوصاً في ما يتعلق بالقرار 1701 الذي يشكل قاعدة للانطلاق نحو معالجة المشكلات الحدودية بين لبنان وإسرائيل. أما في حال التوصل إلى هدنة في غزة وانسحبت على جنوب لبنان، فإنها قد لا تؤدي إلى الاستقرار ما لم تفتح المفاوضات للوصول إلى حل سياسي يبدأ بتطبيق القرار 1701 من الجانبين، ثم معالجة النقاط العالقة وصولاً إلى ترسيم الحدود، علماً أن إسرائيل تطالب بانسحاب قوات “حزب الله” من منطقة الليطاني مع سلاحه، وهو أمر يرفضه الحزب جملة وتفصيلاً.
أمام هذه التحديات يشدد “حزب الله” في المواجهة الحالية على الاستمرار في مساندة غزة، فيما دخل لبنان حالة استنزاف مديدة، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بما ستؤول إليه أوضاع القطاع، مع الهدنة أو باستمرار الحرب الإسرائيلية. وحتى الآن لا أحد يمكنه الجزم بنجاح المفاوضات، خصوصاً بعد المجزرة الأخيرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال، وما دامت إسرائيل تعمل وفق آلية مختلفة وتحدد المسارات بعد تجاوزها للضغوط الأميركية التي لم تصل إلى نتيجة مع استمرار تدفق إمدادات الذخائر للجيش الإسرائيلي، إذ لا أحد يعرف ما ستقوم به قواته، إن كان في رفح أو في الجنوب، ولذا تتكثف الاتصالات والمشاورات على أكثر من خط وتركز على تهدئة جبهة لبنان ومنع توسع المواجهات قبل الوصول إلى الهدنة.
استمرار المواجهات ومعها التصعيد الإسرائيلي الذي وسع دائرة استهدافاته فرضا واقعاً جديداً، ينذر بحرب واسعة، ويضع “حزب الله” أمام خيارات إما الرد الواسع وهو ليس بوارد ذلك لأسباب تتعلق بحسابات داخلية وإقليمية، أو البقاء ضمن قواعد اشتباك منضبطة تفلت أحياناً باستخدام أنواع جديدة من الصواريخ والطائرات المسيرة، أو تنفيذ عمليات نوعية محددة، لكن من دون أن يؤدي ذلك إلى مواجهة مفتوحة. ويعني هذا الوضع في الجنوب أن كل الملفات اللبنانية معلقة إلى حين، لكنه يفرض على “حزب الله” الإجابة عن تساؤلات كثيرة في الداخل اللبناني، خصوصاً ما إذا كان وضع الجبهة سيستمر على هذا المنوال ويزيد من حالة الاستنزاف اللبناني في ظل التصعيد الإسرائيلي المستمر، وأيضاً عما إذا كان الحزب بوارد التفاوض بشأن الوضع في الجنوب بمعزل عما ستؤدي إليه المفاوضات بشأن غزة.
وتطرح تساؤلات أيضاً عما إذا كان “حزب الله” سيرد بقوة على التصعيد الإسرائيلي لخلق توازن في القتال أو ما يسميه توازن الردع من دون أن يؤدي ذلك إلى اشتعال الحرب، خصوصاً أن الحزب كان يحذر ويهدد إن كان عبر أمينه العام حسن نصر الله أو في بياناته بأنه سيرد بقوة على أي عمليات تستهدف العمق اللبناني، وهو ما لم يحصل، لكنه وضع الحزب في مأزق مع تكبده خسائر بين كوادره، والأخطر أنه زاد من حالة الاستنزاف اللبناني، وهو ما سيدفعه إما إلى إعادة صوغ وجهة جديدة لمواجهة الاحتلال، أو يختار التفاوض، وهما خياران لا يبدوان متاحين الآن في سياسة “حزب الله” في ظل استمرار حرب غزة، وهو ما يعني أن إسرائيل فرضت معادلة جديدة في حربها المتغيرة على لبنان، وكرّست قواعد ستكون أساسية في أي تفاوض مقبل بشأن ترسيم الحدود وتطبيق القرار 1701.
الثابت اليوم هو أن الأميركيين الذين يحذرون من حرب وشيكة، باتوا مقتنعين بأن التقدم في مفاوضات الجنوب، لا سيما من خلال مهمة هوكشتاين، يتماهى مع غزة، وإن كانت جرت محاولات أميركية لفصل الجبهتين. وهذه القناعة مستمدة من تقارير تستند إلى ما وصلت إليه المفاوضات غير المباشرة مع الإيرانيين، والتي تبين إصرار طهران على أن يكون لها دور في أي اتفاق في فلسطين، وهو أمر ينسحب على “حزب الله” الذي يرفض التفاوض أو التهدئة قبل وقف النار في غزة، ما يفسر عدم عودة المبعوث الأميركي لاستئناف مهمته بين إسرائيل ولبنان، وانسداد الأفق حيال فتح المسار التفاوضي على جبهة الجنوب.
وعليه باتت كل الاستحقاقات اللبنانية مرتبطة بالوضع في الجنوب، بما في ذلك الرسالة السورية حول ملف الأبراج البريطانية، وهي رسالة احتجاج لم تظهر إلا بعدما طرحها البريطانيون في جنوب لبنان ورفضها “حزب الله”.
الرهان الوحيد لبنانياً الآن هو على التوصل إلى هدنة في غزة، تنسحب تهدئة على جبهة الجنوب، وتفتح الطريق للتفاوض. لكن حتى لو نضجت الهدنة، فإن الخطر يبقى محدقاً بلبنان، إذ لا أحد لديه القدرة على منع الإسرائيليين من تنفيذ تهديداتهم بالحرب أو توسيع نطاق عملياتهم، إلا إذا زادت الضغوط الأميركية المرتبطة أيضاً بأمن إسرائيل ومصالحها، علماً أن مهمة هوكشتاين التي منعت حتى الآن شن هجوم على لبنان، لم تستطع ضبط التصعيد الإسرائيلي بضرب العمق اللبناني، وهو الأمر الذي يهدد بتوسع الحرب أو تفلتها في المنطقة.