تفجيرات أنقرة والأسئلة المفتوحة
جاءت هذه العملية الإرهابية ربما سعيًا لوقف أية تحركات للطيف السياسي بالدولة التركية لإنجاز مصالحة تاريخية مع الأحزاب الكردية، وعرقلة محاولات الحكومة فتح قنوات للحوار مع تشكيلات حزب العمال الكردي
رغم أن الهجوم الإرهابي الذي استهدف مقر شركة صناعة الطيران والفضاء التركية “توساش” في أنقرة مؤخرًا كان مفاجئًا للجميع، إلا أننا لكي نفهم أبعاد ما جرى لابد أن نسترجع عددًا من سياقات الأحداث والتطورات، بل والتصريحات التي واكبته سواء في الإقليم أو الداخل التركي.
جاءت هذه العملية الإرهابية ربما سعيًا لوقف أية تحركات للطيف السياسي بالدولة التركية لإنجاز مصالحة تاريخية مع الأحزاب الكردية، وعرقلة محاولات الحكومة فتح قنوات للحوار مع تشكيلات حزب العمال الكردي
بوادر تقارب ومصالحة
ففي أول تعليق لها على الهجوم الإرهابي المسلح على المنشأة المساهمة لصناعة الطائرات التركية في أنقرة، أفادت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية بأن العملية جاءت بعد يوم واحد من إعلان دولت بهتشلي، أحد أقرب الحلفاء السياسيين للرئيس التركي أردوغان، خلال خطاب متلفز أمام البرلمان التركي، أنه بالإمكان إطلاق سراح عبدالله أوجلان رئيس حزب العمال الكردستاني إذا أعلن إنهاء تمرد جماعته ضد الدولة التركية، في إشارة من رئيس حزب الحركة القومية المفاجئ إلى إمكانية إعادة إحياء محادثات السلام المتوقفة منذ فترة طويلة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني.
اقرأ أيضا.. من وراء الهجوم الإرهابي على تركيا؟
ولم يكن هذا التصريح المهم وليد اللحظة، فقد سبقته مؤشرات أخرى تمثل أهمها في قيام السيد بهتشلي بمصافحة أعضاء حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب داخل البرلمان، وهو الحزب المتهم بصلاته بحزب الشعوب الديمقراطي الذي تم حله؛ بسبب ارتباطاته المشبوهة بحزب العمال الكردستاني، وتمت تلك المصافحة في مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
تلا هاتين الخطوتين تحركاتٌ من قبل رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل، الذي زار الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش في محبسه في سجن أدرنة.
ثم خرج رئيس حزب الشعب الجمهوري بعد تلك الزيارة معلقًا بالقول: “كما أنهى الأتراك والأكراد الاحتلال وأنشؤوا جمهورية قبل 100 عام، فإن النهاية ستكون رائعة مرة أخرى، وسنصلح أخطاء القرن الأول ونضمن السلام الاجتماعي”.
وبالتالي، فقد جاءت هذه العملية الإرهابية ربما سعيًا لوقف أية تحركات للطيف السياسي بالدولة التركية لإنجاز مصالحة تاريخية مع الأحزاب الكردية، وعرقلة محاولات الحكومة فتح قنوات للحوار مع تشكيلات حزب العمال الكردي، بما فيها المتهمة بحمل السلاح في وجه الدولة، وذلك لحملها على نبذ الإرهاب والعنف.
جاءت الضربة الكبرى لجماعة غولن عبر محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت عام 2016، والتي اتهم فيها فتح الله غولن وأنصاره في المؤسسة العسكرية بالتخطيط لها – بدعم مخابراتي خارجي – الأمر الذي استتبعه اعتقالات واسعة النطاق
وفاة غولن ودور جماعته من بعده
ومن ضمن السياقات الداخلية، جاءت وفاة فتح الله غولن زعيم جماعة “الخدمة” المقيم في ولاية بنسلفانيا الأميركية، والمتهم بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، لتطرح العديد من التساؤلات عن مصير الحركة، لكن دعونا أولًا كي نلقي نظرة قريبة على هذه الحركة.
فلا يستطيع أحد أن ينكر أن هذه الجماعة، كان لها بالفعل دور كبير في الحياة السياسية والاقتصادية في تركيا، في أعقاب وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في 2002، حيث ظهر على السطح التحالف بين الحزب الحاكم وجماعة “الخدمة” بزعامة فتح الله غولن.
ونظرًا لتغلغل الجماعة في المجتمع التركي آنذاك من خلال مؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية والمدارس والجامعات، اعتبرت من أهم الركائز التي أستند إليها الحزب في تدعيم سلطته في مواجهة المعارضة العلمانية المتغلغلة أيضًا سواء داخل المجتمع أو الجيش.
أدى ذلك إلى ترسيخ الدور الذي قامت به تلك الجماعة وتم إفساح المجال لها للتغلغل في الأجهزة الأمنية والبيروقراطية التركية بما فيها الشرطة والقضاء، وذلك لموازنة النفوذ العلماني في تلك المؤسسات، وتمخض ذلك عن دور كبير للجماعة في إحباط محاولات حل حزب العدالة والتنمية عام 2008 بعدما أثير حوله من اتهامات بتجاوز الخطوط الحمراء لمبادئ العلمانية.
هل سيظل لخلايا الجماعة في البيروقراطية التركية أية فعالية تحفز داعميها الخارجيين على مواصلة التعويل عليها في الضغط على الحكومة التركية؟
بيدَ أن هذا التحالف لم يدم بعد ذلك طويلًا، حيث فوجئت حكومة حزب العدالة والتنمية بوقوف عناصر في القضاء تابعين لجماعة فتح الله غولن وراء اتهامات بالفساد بهدف تشويه سمعة وزراء الحكومة تمهيدًا لإسقاطها وإنهاء حكم الحزب، مما دفع الأخير إلى المبادرة بإقالة جميع قادة شرطة إسطنبول وأنقرة وتعيين آخرين مكانهم.
كما عينت الحكومة محققين ملحقين إلى جانب مدعي عام الجمهورية في إسطنبول وأنقرة لاعتقادها أنهم كانوا موالين لغولن.
ثم جاءت الضربة الكبرى لهذه الجماعة عبر محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت عام 2016، والتي اتهم فيها فتح الله غولن وأنصاره في المؤسسة العسكرية بالتخطيط لها – بدعم مخابراتي خارجي – الأمر الذي استتبعه اعتقالات واسعة النطاق بعد فشل محاولة الانقلاب، وشملت عناصر وضباطًا تابعين لتنظيم “الخدمة” بلغت نسبتهم ما يقرب من 20% من عدد أفراد القوات المسلحة التركية.
تطرح هذه الاتهامات بالتغلغل في الدولة التركية العميقة من جهة، وما رشح من خلال الصور والفيديوهات عن شبهة تراخٍ أمني مكن المهاجمين من التسلل إلى مقر الشركة، والمفترض أنه شديد التأمين، من جهة أخرى، أسئلة عن علاقة الجماعة بهذا الهجوم خاصة بعد أن أثيرت العديد من التساؤلات فور وفاة غولن عن مستقبل الجماعة ودورها في التأثير على الداخل التركي؟ ومن هو خليفة غولن؟ وما هو مستقبل الإمبراطورية الاقتصادية التي أدارها؟ وهل سيظل لخلايا الجماعة في البيروقراطية التركية أية فعالية تحفز داعميها الخارجيين على مواصلة التعويل عليها في الضغط على الحكومة التركية؟
لهذه الأسباب ربما رأت الجماعة أنه من الضروري أن تبعث برسالة قوية مفادها أنها قادرة وباقية ومؤثرة في المشهد التركي.
الحرب على غزة والهجمات البحرية الحوثية أشعلتا المخاوف الأمنية بشأن الشحن التجاري عبر البحر الأحمر، مما عزز من أهمية طريق التنمية التركي على حساب الممر الاقتصادي المذكور
الدور المتصاعد لتركيا في العراق وسوريا
اطلعت على سلسلة من الأبحاث نشرها معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تتناول مساعي تركيا للعب دور في تثبيت الحكومات المركزية في سوريا والعراق، خاصة بعد الانسحاب الأميركي.
يرى كاتب هذا البحث السيد سونير جابتاي مدير البرنامج التركي في معهد واشنطن أن إستراتيجية أنقرة في العراق تتلخص في موازنة الوجود الإيراني والممثل في مليشياتها العسكرية هناك، وذلك من خلال طرح نموذج بديل على الحكومة المركزية في بغداد قائم على أساس المكاسب الاقتصادية المشتركة بين البلدين، وهو النموذج المفضل لواشنطن والمرجح أن تدعمه.
وفي هذا السياق، وضعت أنقرة تصورًا لطريق التنمية، وهو مشروع يتكون من شبكة طرق وسكة حديدية تمتد عبر العراق وتركيا تربط الأسواق الآسيوية في الهند والأوروبية عبر المحيط الهندي والبحر المتوسط.
بيدَ أن هذا المشروع يتعارض مع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، وهو الطريق الذي كانت قد اقترحته الولايات المتحدة وروّجت له إسرائيل والذي يمتد من الهند عبر شبه الجزيرة العربية وإسرائيل إلى أوروبا.
لكن الحرب على غزة والهجمات البحرية الحوثية أشعلتا المخاوف الأمنية بشأن الشحن التجاري عبر البحر الأحمر، مما عزز من أهمية طريق التنمية التركي على حساب الممر الاقتصادي المذكور، خاصة مع توافر تمويل خليجي لدعم المشروع، ولذلك يتوقع صانعو السياسة الأتراك إمكانية افتتاح طريق التنمية في أوائل عام 2027.
ويري الكاتب أنه يجب على واشنطن أن تلقي بكل ثقلها لدعم هذا المشروع إذا كانت ترغب في معادلة النفوذ الذي تمارسه إيران على السلطة في بغداد، خاصة إذا انسحبت الولايات المتحدة كليًا أو جزئيًا من العراق.
الدولة التركية تواجه تحديات ربما جاءت عملية أنقرة الإرهابية لتشير إلى شدتها، وإلى رغبة أطراف ما في عرقلة توجه أنقرة نحو ضمان استقرار الإقليم من جهة، وسلامة أمنها القومي من جهة أخرى
أما بالنسبة للإستراتيجية التركية في سوريا، فإن السيد جابتاي يرى أن أكبر مخاوف أنقرة تتمثل في انسحاب أميركي من شمال سوريا على غرار الانسحاب غير المنظم من أفغانستان، مما قد يخلق فراغًا أمنيًا يؤدي من ناحية إلى موجات من هجرة اللاجئين السوريين مرة أخرى إلى تركيا، ومن ناحية أخرى يشجع عناصر هيئة تحرير الشام المتحالفة مع تنظيم القاعدة في شمال غرب سوريا للقيام بهجمات إرهابية سواء في الداخل التركي، أو ضد قواتها في الشمال السوري.
وإذا جئنا إلى الشمال الشرقي من سوريا، فإن الإستراتيجية التركية تقوم على أساس دعم الأسد في السيطرة مرة أخرى على المناطق التي تتحكم فيها وحدات حماية الشعب الكردية، وقوامها قوات سوريا الديمقراطية، وذلك لقطع الطريق على التواصل بين تلك القوات في سوريا، وعناصر حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.
وفي سبيل ذلك تسعى لإقناع النظام السوري بمنح بعض صلاحيات الحكم الذاتي لعناصر المعارضة السورية غير المسلحة، بما في ذلك بعض المنظمات الكردية غير المنضوية تحت مظلة قوات حماية الشعب.
مما سبق يتضح أن الإستراتيجية التركية في سوريا والعراق تقوم بشكل عام على أساس دعم السلطة المركزية في كل من بغداد ودمشق لبسط السيطرة الأمنية على كامل أراضي الدولتين من خلال تقديم حزم اقتصادية وأمنية بغرض ملء الفراغ الإستراتيجي الذي قد يتسبب فيه الانسحاب الأميركي المتوقع.
ترى تركيا أن وجود حكومات مركزية قوية ضرورة أمنية؛ لأنها هي فقط القادرة على أن تحمي حدودها الجنوبية من العناصر الإرهابية والمليشيات المسلحة التي من المحتمل في أي وقت أن تكون أداة تهدد الأمن القومي التركي إذا توسع الصراع في الشرق الأوسط.
وعلى ذلك، يتضح أن الدولة التركية تواجه تحديات ربما جاءت عملية أنقرة الإرهابية لتشير إلى شدتها، وإلى رغبة أطراف ما في عرقلة توجه أنقرة نحو ضمان استقرار الإقليم من جهة، وسلامة أمنها القومي من جهة أخرى.