هل تحاول أميركا جرّ الصين إلى صراع عسكري مع محيطها؟
في ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في منطقة جنوبي شرقي آسيا، تصاعدت المخاوف بشأن نشر الولايات المتحدة نظام صواريخ متوسطة المدى في شمالي الفلبين، وهو الأمر الذي أثار قلقًا كبيرًا لدى الصين
في 20 أغسطس/ آب الماضي، وقع تصادم جديد بين سفينة تابعة لخفر السواحل الصيني وأخرى لنظيره الفلبيني، ما أدى إلى إلحاق ضرر بين السفينتين، في موجة جديدة من التصعيد بين البلدين ببحر الصين الجنوبي.
الحدث هذا قد يكون عرضيًّا عند البعض، لا سيما أن تصادم السفن شيء طبيعي في منطقة تشهد سلسلة من التوترات على أكثر من صعيد. ولكن أن يحدث بين سفينة فلبينية وأخرى صينية، فهذا ما يثير الشكوك وتوقع أن الحدث مفتعل نتيجة الخلاف المستجدّ بين البلدين على وقع حادثة الصواريخ الفلبينية.
هذا وكان وزير الخارجية الصيني وانغ يي قد حذر الفلبين من نشر الصواريخ الأميركية متوسطة المدى، خلال اجتماع وزراء خارجية الآسيان في عاصمة لاوس، في يوليو/ تموز الماضي، قائلًا: “إن مثل هذه الخطوة قد تغذي التوترات الإقليمية وتشغل سباق تسلح”. في حين أكد وزير الخارجية الفلبيني “إنريكي مانالو” أن: “هذا الانتشار مؤقت وغير موجه ضدّ أي دول معينة”.
اقرأ أيضا.. ترامب أم هاريس؟ الصين تبحث عن أفضل “السيّئيْن”
في أغسطس/ آب من عام 1962، شرعت حكومتا كوبا والاتحاد السوفياتي في بناء قواعد سرية لعدد من الصواريخ النووية متوسطة المدى في كوبا، تعطي إمكانية ضرب معظم أراضي الولايات المتحدة
في ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في منطقة جنوبي شرقي آسيا، تصاعدت المخاوف بشأن نشر الولايات المتحدة نظام صواريخ متوسطة المدى في شمالي الفلبين، وهو الأمر الذي أثار قلقًا كبيرًا لدى الصين، التي أعربت عن مخاوفها من أن هذا التطور العسكري قد يزعزع المنطقة، خاصة في ظل الصراع المتزايد حول بحر الصين الجنوبي.
كأن التاريخ يعيد كتابة نفسه في أزماته، وكأن الولايات المتحدة تتعمد اتباع معايير مزدوجة أمام أحداث متشابهة تتكرر معها؛ فواشنطن هي التي صنعت أزمة صواريخ كوبا في أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 1962، إبان الحرب الباردة، بعد اعتراضها على نشر موسكو صواريخها في كوبا، وأميركا هي نفسها اليوم التي تنشر صواريخها في الفلبين على الحدود مع الصين، التي تعيش معها حربًا باردة، فهل سيدفع هذا بكين كي تقوم بردّة فعل واشنطن في أزمة كوبا وتلوّح بحرب نووية واسعة؟ أم ستنهي أزمتها بالطريقة التي أنهت بها واشنطن غيرها بالطرق الدبلوماسية؟
بالعودة إلى أزمة الصواريخ الكوبية، أو الأزمة في الكاريبي بحسب التسمية الروسية، والتي تدخل ضمن المواجهة ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي المتحالف مع كوبا في خضم أحداث الحرب الباردة، ففي أغسطس/ آب من عام 1962، وفي أعقاب عدة عمليات فاشلة للولايات المتحدة لإسقاط النظام الكوبي (غزو خليج الخنازير وعملية النمس)، شرعت حكومتا كوبا والاتحاد السوفياتي في بناء قواعد سرية لعدد من الصواريخ النووية متوسطة المدى (IRBMs) و(MRBMs) في كوبا، تعطي إمكانية ضرب معظم أراضي الولايات المتحدة.
انتهت هذه الأزمة في العام نفسه، عندما توصل كل من الرئيس الأميركي جون كينيدي وأمين عام الأمم المتحدة يو ثانت إلى اتفاق مع السوفيات، لإزالة قواعد الصواريخ الكوبية، شريطة أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا.
يعيش العالم “خربطات” في طريقة إدارته، لا سيما بعدما وصل طريق الحرير إلى أميركا الجنوبية، بعد الاتفاق التعاوني الذي أعلنه رئيسا البرازيل والصين، فتم إنزال الأميركي عن الشجرة بعدما باتت مصالحه تشهد تهديدات في العالم
انتهت أزمة كوبا بعد أيام من اشتعالها، إلا أنّ الحرب الباردة بين القطبيين الشيوعي والليبرالي لم تنتهِ إلا بسقوط الاتحاد السوفياتي مطلع عام 1991، حيث أعلنت الليبرالية انتصارها في العالم. وأخذتها نشوة الانتصار هذه إلى أن يطرح أحد الكتاب الليبراليين المتطرفين، وهو الكاتب الأميركي فرانسيس فوكوياما، نظرية “نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية”، التي تحدث فيها عن أن العالم يسير على خطى الليبرالية.
مسار من الصراع أٌعيد تشكيله مع استيقاظ التنين النائم، الذي لطالما حذّر الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت من إيقاظه!. أوقظ مع إدارة الرئيس الأميركي السابق والمرشح الحالي للانتخابات الأميركية دونالد ترامب عن الحزب الجمهوري، بعدما سعت إدارته إلى فرض سلسلة من العقوبات على “هواوي”، كبرى الشركات العملاقة الصينية في مجالات الاتصالات، وذلك بهدف فرملة صعودها ومنعها من المنافسة أمام شركات الاتصالات الأميركية والغربية، لا سيما بعد الحديث عن تمكّن هذه الشركة من الدخول إلى الجيل الخامس على الصعيد التكنولوجي.
لم تكتفِ السياسة الأميركية بإيقاظ التنين الصيني، بل حاولت إدارة الرئيس الحالي جو بايدن إدارة الصراع في شرق أوروبا، فأيقظت الدب الروسي، ودفعت بموسكو وتحت شعار حماية أمنها القومي للدخول إلى الأراضي الأوكرانية (حليفة واشنطن)، لفرض منطقة عازلة لإبعاد خطر صواريخ حلف الناتو عن أراضيها.
يعيش العالم “خربطات” في طريقة إدارته، لا سيما بعدما وصل طريق الحرير إلى أميركا الجنوبية، بعد الاتفاق التعاوني الذي أعلنه رئيسا البرازيل والصين، فتم إنزال الأميركي عن الشجرة بعدما باتت مصالحه تشهد تهديدات في العالم، مع الإصرار الدولي على إعادة هيكلة النظام القائم.
سيناريو نشر الصواريخ في الخاصرة الرخوة للولايات المتحدة، حققت موسكو من خلاله مكاسب آنية، دفعت بواشنطن لسحب صواريخها ذات الرؤوس النووية المنتشرة في قواعدها العسكرية في تركيا
الذي ينظر إلى تطورات الأحداث الحالية يرى أن الإدارة الأميركية الحالية تعمد إلى استغلال النقاط الساخنة في العالم لإشعالها؛ فهي تسعى إلى تطبيق سياسة “الاحتواء” بحق القوى الصاعدة، على قاعدة قانون “ثيوسيديدوس” اليوناني، بهدف إزاحة كافة المخاطر التي تهدد نفوذ القوة الفارضة المتمثلة اليوم في الولايات المتحدة.
لهذا حددت واشنطن أن الصين تشكل الخطر الأبرز على أميركا، معتبرة أنها تعمل على تحويل مركز الثقل العالمي الاقتصادي من نيويورك إلى شنغهاي. وهذا ما دفع بها لدعم شبه جزيرة تايوان التي تطالب بالانفصال والاستقلالية عن الصين، وشكلت قوة “كواد” الإقليمية للوقوف في وجه المدّ الصيني في منطقة المحيطين.
ولأجل هذه الغاية استضاف بايدن في منزله الخاص في ولاية ديلاوير، السبت 21 سبتمبر/ أيلول الماضي، قمة تضم نظراءه من اليابان وأستراليا والهند للبحث في موضوع النفوذ الصيني.
على الطريقة السوفياتية تعمل الولايات المتحدة في سياساتها تجاه الصين، مستندة إلى سيناريوهات إشعال التوترات في مناطق عديدة من العالم. فسيناريو نشر الصواريخ في الخاصرة الرخوة للولايات المتحدة، حققت موسكو من خلاله مكاسب آنية، دفعت بواشنطن لسحب صواريخها ذات الرؤوس النووية المنتشرة في قواعدها العسكري في تركيا. لهذا أعادت واشنطن السيناريو، ولكنها هذه المرة هي التي تنشر صواريخها لتهديد أمن الصين.
أهناك مناورة أميركية لأخذ الصين إلى صراع عسكري مع محيطها، أم هناك تلاشٍ لقوة باتت تحتاج لاستنساخ سيناريو سابق لتعيد شيئًا من هيبتها التي تشظّت؟