أزمة الأونروا: تقليص التمويل أم تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين؟
ترتكز إسرائيل على قاعدة عدم الاعتراف بمسؤوليتها عن تهجير الشعب الفلسطيني، والتنكر لحقّه في أرض وطنه وعودة اللاجئين منهم إلى مدنهم وقراهم التي هُجروا منها. وتنطلق في مساعيها، استناداً إلى هذه القاعدة.
تهدف هذه الورقة إلى تفسير واقع الأزمة المالية التي تعانيها وكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى “الأونروا”، وانعكاسها على مستوى الخدمات الأساسية التي يتلقاها اللاجئون الفلسطينيون في أقاليم عمليات الأونروا الخمسة، وتتحرى سياسات الدول المانحة وضمنها خفض مساهماتها في دعم ميزانية الوكالة. كما تطرح هذه الورقة تساؤلاً عن دوافع الحملات الأميركية والإسرائيلية على الأونروا، الهادفة إلى تصفيتها كشاهد على مأساة الشعب الفلسطيني ونكبته، وصولاً إلى تصفية قضية اللاجئين، وتستشرف الآفاق والسيناريوهات المحتملة لدور الأونروا ومكانتها في ظل أزماتها الممتدة.
النص الكامل:
تصاعدت الهجمة على الأونروا تزامناً مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ووصلت إلى ذروتها في اتهام إسرائيل لموظفين فلسطينيين في المنظمة الدولية بالمشاركة في الهجوم على مستعمراتها فيما يُطلق عليه “غلاف غزة”، الأمر الذي استتبعه قرار الولايات المتحدة تجميد تمويلها للأونروا، وتبعها في ذلك عدد من الدول الأوروبية، قبل أن يعود بعض تلك الدول عن قرار وقف التمويل بعد فشل إسرائيل في تقديم أي دليل على ادعائها، وتأكيد اللجنة المستقلة التي شكّلتها الأمم المتحدة عدم وجود أي دليل يثبت الادعاء الإسرائيلي. لكن ذلك لم يغير من موقف الإدارة الأميركية الذي دعمه قرار في الكونغرس يجمّد التمويل عاماً كاملاً، أمّا إسرائيلياً، فقد ذهبت الأمور بعيداً عبر تشريع في الكنيست اعتبر الأونروا كياناً معادياً.
تفويض الأونروا ومحددات تمويلها
في أعقاب حرب 1948، تأسست الأونروا بموجب القرار رقم 302 (رابعاً)، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 كانون الأول / ديسمبر 1949، بهدف إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ورعايتهم في أعقاب طردهم وتهجيرهم من مدنهم وقراهم إلى مخيمات اللجوء والشتات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها. وبدأت الأونروا عملياتها في مطلع أيار / مايو 1950، ولم ينصّ القرار على ديمومة لعمل الوكالة، وإنما نصّ على ضرورة إنهاء عمليات الإغاثة “في وقت لا يتجاوز 31 كانون الأول / ديسمبر 1950، إلّا إذا قررت الجمعية العامة غير ذلك في دورتها العادية الخامسة”، أي أن عمل الوكالة موقّت وليس دائماً. ومنذ ذلك التاريخ ومع غياب حل لقضية اللاجئين، عملت الجمعية العامة للأمم المتحدة على تجديد ولاية الأونروا بشكل دوري لمدة 3 أعوام، والتي كان آخرها التمديد لغاية 30 حزيران / يونيو 2026، بتصويت أغلبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.[1]
وبموجب القرار الأُممي، استجابت الأونروا لحاجات اللاجئين في أقاليم عملياتها الخمسة في غزة والأردن ولبنان وسورية والضفة الغربية من خلال خدماتها في مجالات التعليم والصحة والحماية والإغاثة والخدمات الاجتماعية والتمويل الصغير وتحسين المخيمات، وقد حدّدت معدل الإنفاق على دائرة التعليم من ميزانيتها العامة بنسبة 58%، والإنفاق على دائرة البُنية التحتية وتحسين الخدمات بنسبة 4%، وما نسبته 6% للإغاثة والخدمات الاجتماعية، و13% للإسناد، و15% للقطاع الصحي.
وفضلاً عن البرامج الرئيسية، تقدّم الأونروا مساعدات طارئة لمواجهة آثار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة خلال السنوات 2008 / 2009، و2012 و2014، و2021، و2022، و2023، ومواجهة آثار الاقتحامات والحملات العسكرية الإسرائيلية في مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية. غير أن هذه الخدمات تأثرت سلباً بفعل التحول في فلسفة عمل الأونروا، وذلك عندما اعتمدت آلية تقديم مساعداتها إلى اللاجئين الفلسطينيين على أساس “الحاجة” وليس على أساس “الوضع القانوني للاجىء”.
وبهذا المعنى، فإن تفويض الجمعية العامة للأونروا يقتصر على مساعدة اللاجئين الفلسطينيين بالمعنيَين الاجتماعي والإغاثي من دون أن يوفر لها آليات لحماية اللاجئين، أو العمل على ضمان حقهم في العودة إلى ديارهم التي هُجّروا منها في سنة 1948 وما بعدها، وفقاً للفقرة 11 من القرار رقم 194 لسنة 1948. ومثلما أشرنا أعلاه، فإن تفويضها موقت وليس دائماً، وهذا خلافاً للتفويض الممنوح للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التي تأسست كوكالة موقتة في سنة 1951، ثم تقرر أن تكون وكالة دائمة في سنة 2004، وأن تكون ميزانيتها جزءاً من ميزانية الأمم المتحدة.
أمّا ولايتها فهي أساساً الحماية وإعادة اللاجئين إلى ديارهم أو توطينهم في بلد ثالث.[2] غير أن تفويض الأونروا يفتقر إلى آلية ملزمة لتوفير التمويل اللازم لبرامج الوكالة أسوة بسائر الوكالات المتخصصة في الأمم المتحدة، الأمر الذي يجعلها تعتمد على المنح والتبرعات الطوعية المقدمة من مجتمع المانحين الذين تتأثر مساهماتهم بالمتغيرات السياسية الدولية والإقليمية،[3] ومنها ضغوط الدول الكبرى على الأمم المتحدة وهيئاتها، أو توجيه الدعم وتركيزه في أقاليم النزاعات والصراعات حول العالم.
إن التمديد 3 أعوام جديدة حتى سنة 2026، لم يحل أزمة التمويل التي هي أحد أهم التحديات التي تواجهها الأونروا، وهذا ما أكده الإعلان الرسمي لعدد من الدول المانحة بشأن عدم رفع مساهماتها في ميزانية الأونروا لسنة 2023، الأمر الذي عمّق الأزمة المالية، ولا سيما مع ترحيل الأونروا لديون بقيمة 70 مليون دولار من ميزانية سنة 2022.[4]
العجز في الميزانية وحدود استجابات الأونروا
تواجه الأونروا منذ عشرة أعوام، تقليصاً حاداً في المنح والتبرعات الطوعية المالية التي تحصل عليها من الدول المانحة استناداً إلى سياساتها تجاه الوكالة، وقد انعكس هذا التقليص وما خلّفه من عجز في ميزانيتها السنوية على مستوى استجابة الأونروا للخدمات الأساسية المقدمة إلى مجتمع اللاجئين الفلسطينيين، ومستحقات موظفيها والعاملين فيها من الرواتب الشهرية وغيرها.
كما انعكست التقليصات المالية على مستوى إنفاق الأونروا على الخدمات الإدارية والتشغيلية والبرامج والأنشطة الطارئة التي تنفذها في سائر أقاليم عملياتها الخمسة. ولعل أبرز مؤشرات تقليص الدعم للأونروا حصولها في سنة 2023، على 812,3 ملايين دولار فقط من الدعم من أصل 1,6 مليار دولار، وسعيها للحصول على 300 مليون دولار للاستمرار في عملياتها حتى نهاية سنة 2023.[5]
يعرض هذا المحور سياسات الدول المانحة تجاه الأونروا وانعكاسها على مستوى مساهماتها المالية السنوية لخزينة الوكالة، كما يناقش تداعيات تقليص الدعم المالي على استجابة الأونروا ووفائها بالتزاماتها ومسؤولياتها تجاه دعم وإغاثة وتمكين اللاجئين الفلسطينيين، وذلك على النحو التالي:
1 – سياسات الدول المانحة ومساهماتها في ميزانية الأونروا
إن مساهمات الدول المانحة في دعم الأونروا للإنفاق على برامجها هي مساهمات طوعية تفتقر فيها العلاقة بين الطرفين إلى آلية ملزمة، سواء في قيمة المخصصات المالية السنوية ونسبتها، أو في مواعيد توريدها إلى خزينة الأونروا. وشكّلت هذه العلاقة عبئاً إضافياً على وكالة الغوث الدولية، وأثّرت سلباً في قدرتها على تدبر حاجاتها المالية بما يمكّنها من تقديم خدماتها والإنفاق على برامجها العادية والطارئة في مناطق ولايتها.
وتتفاقم معاناة الأونروا بطبيعة الحال كلما لجأت الدول المانحة إلى سياسة توظيف الدعم ورهنه بالاعتبارات السياسية، مثلما جرى أخيراً بعد ادعاء إسرائيل أن موظفين من الوكالة شاركوا في عملية طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بما فيها تدخّل الدول المانحة في الشؤون الداخلية لوكالة الغوث الدولية وأنشطتها، وكلما حوّلت وجهة مساعداتها التنموية والإغاثية إلى دول أُخرى كبديل من دعم الأونروا.
وغني عن البيان أن الولايات المتحدة الأميركية، وهي أكبر المانحين للأونروا، وبفعل انحيازها الكامل إلى إسرائيل، توظّف هيمنتها على النظام الدولي والهيئات الأُممية من أجل إلغاء حق العودة والتنكر لحقوق اللاجئين الفلسطينيين، وذلك بتوطينهم في دول المهاجر والشتات، والقضاء على المؤسسة التي يُعتبر وجودها شهادة على مأساتهم. وقد حاولت في سبيل ذلك استخدام نفوذها وسطوتها لتوجيه الدول المانحة من جهة، والتدخل في شؤون وكالة الغوث الدولية عدة مرات من جهة ثانية، الأمر الذي بدا جلياً خلال الحرب على قطاع غزة، باستجابة الولايات المتحدة فوراً للادعاء الإسرائيلي، مثلما أشرنا أعلاه.
وفق هذه الاعتبارات، شهدت الأعوام العشرة الأخيرة، قبل 7 تشرين الأول / أكتوبر، تراجعاً حاداً في التمويل الدولي لميزانية الأونروا، أظهرته النداءات المتكررة التي أطلقها المسؤولون الأُمميون لإنقاذ الوكالة الأُممية من أزمتها المالية. ويُرجع البعض[6] أسباب هذا التراجع إلى ظاهرة “تململ المانحين”، بسبب الزيادة المستمرة في أعداد اللاجئين؛ والتكاليف ذات الصلة المترتّبة على توسيع خدمات الأونروا؛ وتعطُّل عملية السلام ومسار التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية، وهو ما جعل المانحين يواجهون احتمال تمديد وجود الأونروا إلى أجل غير مسمّى؛ وظهور أزمات جديدة للاجئين من غير الفلسطينيين، وتحديداً أزمتَي اللاجئين العراقيين والسوريين منذ سنتَي 2003 و2012 على التوالي؛ فضلاً عن حالات الطوارىء التي نجمت عن الحرب الإسرائيلية على لبنان في سنة 2006، وما تبعها من نزاعات؛ والاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة طوال هذه الأعوام، والتي ألقت بمزيد من الضغوط على ميزانية الأونروا. وكان لقيام السلطة الفلسطينية في سنة 1994، عقب توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية في 13 أيلول / سبتمبر 1993، انعكاسه أيضاً على تقليص الدعم الدولي للأونروا حين تذرعت الدول المانحة بأن تراجُع تمويلها للوكالة سببه مساهمتها في دعم ميزانية السلطة الفلسطينية منذ ذلك التاريخ.
يتفق هذا الرأي مع ما قاله المفوض العام لـ “الأونروا” فيليب لازاريني، من أن “الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لم يعد على رأس سلّم الأولويات (الدولية)، [كما أن] تضاؤل الاهتمام بأونروا [….] أدى إلى خفض مواردنا، في وقت ازدادت فيه الاحتياجات والتوقعات […. وقد] واجهنا تحديات كثيرة للاستمرار في تقديم خدماتنا، وتفاقم اليأس والضيق في بيئة يغيب عنها أفق سياسي، وتنامى الشعور (لدى الفلسطينيين) بأن المجتمع الدولي يتخلى عنهم. وأي ضعف شعرنا به في أونروا (التمويل) بدا كبرهان إضافي على أن المجتمع الدولي يُدير ظهره لهم، وهذا هو سياق الأزمة التي نواجهها.”[7]
ومن خلال عرضه عمق الأزمة المالية في الأونروا بفعل تقليص الدعم الدولي، بصورة عامة، يكشف لازاريني أن المساهمات العربية انخفضت بشكل كبير، اعتباراً من سنة 2020، أي فترة توقيع اتفاقيات “أبراهام”، مع أن الدول العربية كانت تاريخياً شريكاً مهماً للأونروا، ولا يوجد أي سبب للتخلي عن تلك الشراكة، بل من المهم أن يكونوا مع الأونروا. ويضيف لازاريني: “في عام 2021، سجلنا أقل مساهمة (لدول) عربية على الإطلاق في ميزانية الوكالة، وهذا لا يمر من دون أن يلاحظه الفلسطينيون عموماً، واللاجئون خصوصاً.”[8]
ويبدو أن التراجع في مساهمات الدول العربية لم يقتصر على سنتَي 2020 و2021، فبحسب تصريحات المستشار الإعلامي للأونروا عدنان أبو حسنة، فإن الدعم العربي للأونروا تراجع بنسبة 90%، كما أن مساهمات الدول العربية لم تتجاوز 3% من ميزانية الوكالة، إذ قدمت هذه الدول خلال سنة 2018، ما قيمته 200 مليون دولار، قبل أن يتراجع المبلغ المدفوع ليصل إلى 20 مليون دولار منذ كانون الثاني / يناير 2021.[9]
وتُظهر البيانات الدورية للأونروا قيمة العجز في ميزانيتها، ومنها العجز في ميزانية سنتَي 2019 و2020، والتي وصلت إلى نحو 160 مليون دولار، و233 مليون دولار على التوالي،[10] فضلاً عن العجز المتصاعد في ميزانية الوكالة قبل هذين العامين وبعدهما.
لقد دفعت الأزمة المالية الناجمة عن تقليص مساهمات الدول المانحة، وللأسباب التي ذكرناها آنفاً، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في 2 حزيران / يونيو 2023، خلال كلمة في اجتماع للجنة الجمعية العامة المخصصة لإعلان التبرعات لوكالة الأونروا، والذي عُقد في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، إلى التحذير من أن الأونروا “على وشك الانهيار المالي”، و”أن عدداً من كبار المانحين وأكثرهم موثوقية للأونروا أعلنوا مؤخراً بأنهم قد يخفضون مساهماتهم [….] وهذا أمر مقلق للغاية. الوكالة تعمل بالفعل، بعجز يقارب 75 مليون دولار”،[11] وهذا من شأنه أن يُلحق ضرراً باللاجئين الفلسطينيين.
ومثلت هذه الأوضاع سبباً وجيهاً للنداء الذي أطلقته الأونروا في بداية سنة 2023، لجمع 1,6 مليار دولار أميركي لدعم برامجها في مناطق عملياتها الخمس. وقال المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني في بيان، “إن هذا المبلغ ‘ضروري من أجل الاستجابة للاحتياجات المتزايدة بين لاجئي فلسطين في منطقة يعمّها الاضطراب’.” وأوضح أن “الوكالة تحتاج في عام 2023، إلى 848 مليون دولار للخدمات الأساسية التي تشمل الصحة والتعليم والإغاثة والخدمات الاجتماعية والحماية، في حين سيتم تخصيص 781,6 مليون دولار أُخرى لتمويل عمليات الطوارىء في قطاع غزة والضفة الغربية والأردن وسوريا ولبنان. وتطلب الأونروا الحصول على 311,4 مليون دولار تُخصَّص لقطاع غزة، و32,9 مليون دولار للضفة الغربية، و247,2 مليون دولار لسوريا، و160 مليون دولار للبنان، و28,8 مليون دولار للأردن.”[12]
اقرأ أيضا| دم الطفل الفلسطيني.. كفاح ونضال وصمود
والسؤال هنا هو كيف أثرت الأزمة المالية التي تعانيها الأونروا جرّاء خفض مساهمات الدول المانحة في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين في ذلك الوقت، وما هي انعكاساتها المستقبلية مع غياب ضمانات معالجتها وعدم تفاقمها، وخصوصاً بعد الحملة المحمومة عليها من طرف إسرائيل والولايات المتحدة عقب عملية “طوفان الأقصى”؟
2 – انعكاسات تقليص خدمات الأونروا على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين
لقد بات ملحوظاً تراجع الخدمات المقدمة من الأونروا للاجئين الفلسطينيين في ظل تراجع التمويل الدولي، وخصوصاً مع وقف المساهمة والتمويل الأميركي في سنة 2018، وتكرار الأمر في سنة 2024، والزيادة الطبيعية في أعداد اللاجئين الفلسطينيين وما يترتب عليها من خدمات، علاوة على استمرار العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ دمرت الحرب الإسرائيلية على القطاع بين سنتَي 2023 و2024 نحو 80% من المباني وجميع المستشفيات والبُنى التحتية، فضلاً عن نحو 150,000 ضحية بين شهيد ومفقود وجريح، مع ما يتطلبه ذلك من تخصيص الدعم لعملية إعادة إعمار الأعيان المدنية، ودفع مخصصات مالية للاجئين لإسكان وإغاثة المتضررين من العدوان الإسرائيلي، وجميعها أسباب موضوعية لنشوء أزمة الأونروا المالية واستمرارها.
فمن جهة أولى، أثارت الزيادة الطبيعية في أعداد اللاجئين، والتي من المتوقع أن تصل إلى 8,5 ملايين نسمة بحلول سنة 2030، تساؤلات جدّية بشأن ما إذا كانت الدول المانحة مستعدة لدعم هذه الزيادة، وما إذا كانت الأونروا تمتلك القدرة على الاستمرار في تلبية حاجات هذه الأعداد من اللاجئين، بما فيها ارتفاع الطلب على الأنواع المتنوعة من الرعاية الصحية، وبرامج التشغيل والتدريب، والشؤون الاجتماعية والإغاثة مع تغيرات الطبيعة الديموغرافية وارتفاع متوسط عُمر المواطنين / اللاجئين الفلسطينيين.[13]
ومن جهة ثانية، مثلت الاعتداءات الإسرائيلية على مؤسسات الأونروا تحدياً حقيقياً، قبل الحرب الأخيرة على غزة، وتسببت بإعاقة عمل الطواقم الفنية والحدّ من وصولهم إلى المدارس والمراكز الصحية ومراكز الخدمات والإغاثة الاجتماعية، وبالتالي دفعت إلى تقليص الخدمات المقدمة إلى اللاجئين الفلسطينيين. فقد مارست القوات الحربية الإسرائيلية المحتلة، خلال عدواناتها المتكررة على قطاع غزة، وعملياتها العسكرية المتواصلة في الضفة الغربية، جميع أشكال الاعتداءات على مؤسسات الأونروا والعاملين فيها، ومنها على سبيل المثال: استهداف مقار الوكالة بتدمير المدارس والمراكز الصحية؛ استهداف العاملين في الأونروا في غزة وقتلهم وإصابتهم؛ إخضاع موظفي ومركبات الأونروا للتفتيش على الحواجز الإسرائيلية المنتشرة في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، وإعاقة تنقّلهم بحرية.
ومن جهة ثالثة، أدى استمرار العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة، قبل العدوان الأخير (2023/2024)، إلى تخصيص دعم الأونروا وإعادة توجيهه إلى عملية إعادة إعمار الأعيان المدنية، ودفع مخصصات مالية للاجئين الفلسطينيين المتضررين جرّاء العدوان، وذلك ضمن سياسة الإنفاق على البرامج الطارئة التي تموَّل من ميزانية الأونروا، وذلك على حساب البرامج الرئيسية التي تُنفذها لمصلحة اللاجئين الفلسطينيين. وستكون حاجات إعادة بناء قطاع غزة بعد انتهاء حرب الإبادة الأخيرة فوق إمكانية الأونروا، هذا إذا سُمح لها بأن تتولى إدارة إعادة إعمار القطاع المدمر، وإعادة تأهيل المجتمعات المدنية فيه.
وفي مقابل السياسات الميدانية ضد الأونروا، وتزامناً مع سياسات خفض التمويل الدولي، كانت الوكالة الدولية قد اتخذت قراراُ بتقليص خدماتها للاجئين الفلسطينيين. ففي سنة 2015، أرسل مفوض الأونروا، بيير كوهينبول، مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة شرح فيها مستويات العجز المالي الذي تواجهه الأونروا، والذي كان يبلغ في حينه 101 مليون دولار، وأنه في ضوء هذا العجز، مضطر إلى اتخاذ تدابير تقشفية في بعض الخدمات في مجالات الصحة والتعليم والتشغيل، إذ اعتمدت الأونروا في خطتها الاستراتيجية للفترة 2016 – 2021، تقليص كثير من الخدمات، ومنها: إغلاق مركز التدريب المهني والصناعي، وتحويل الصحة إلى رعاية أولية فقط، واقتصار التحويلات الطبية على الحالات الاجتماعية فقط.[14] وكانت الأونروا قد عملت على: رفع الحد الأقصى لعدد التلاميذ في الفصل الدراسي الواحد في مدارس الأونروا إلى 50، وهو إجراء شكّل تهديداً لنوعية التعليم؛ تقليل عدد الموظفين؛ وقف عمليات التوظيف؛ إنقاص مساهمة الأونروا في نفقات العمليات الطبية الكبيرة؛ وقف مساعدات بدل الإيجار للنازحين؛ تخفيض قيمة المساعدات الغذائية؛ وقف برنامج المنح الدراسية. كما طلبت الأونروا من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تمويل جزء من تكاليف علاجهم، الأمر الذي أوجد أزمة بين الطرفين.[15] وكان لهذه التقليصات انعكاساتها الثقيلة على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في عموم مناطق عمليات الأونروا، وخصوصاً في قطاع غزة، إذ ترافق تقليص خدماتها مع تضخم مستوى الفقر والبطالة بفعل الحصار الإسرائيلي والإغلاق والحدّ من فرص الاستيراد أو التصدير، وجرّاء الانقسام الداخلي بالمعنيين السياسي والجغرافي بين حركتَي “فتح” و”حماس” وبين الضفة الغربية وقطاع غزة، والذي ما زال مستمراً منذ منتصف سنة 2007.
وقد تواصلت خلال الفترة ما قبل العدوان الأخير على غزة، تحذيرات الأونروا بفعل الأزمة المالية وانعكاساتها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين، فعلى هامش مؤتمر التعهدات للأونروا في 2 حزيران / يونيو 2023، قال لازاريني: “لن يكون لدينا أموال أو نقد متاح اعتباراً من أيلول [سبتمبر] للمحافظة على تشغيل مدارسنا ومراكزنا الصحية وغيرها من الخدمات الحيوية”، الأمر الذي ينعكس سلباً على “الخدمات الإنسانية في غزة وسوريا ولبنان والضفة الغربية”، إذ إن أكثر من مليون طالب قد “يُحرموا من المدارس [….] والأمر نفسه ينطبق على الرعاية الصحية لأكثر من مليوني شخص، والأمر ذاته ينطبق على مساعداتنا الإنسانية لأكثر من 1,2 مليون شخص، وهو ذاته ما ينطبق على شبكة الأمان الاجتماعي للأشد فقراً.”[16]
قوبلت سياسة تقليص خدمات الأونروا منذ سنة 2015، بالرفض من اللجان الشعبية للاجئين الفلسطينيين ومن مجتمع اللاجئين، كونها تهدد حقوقهم السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية. وشهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة، في حينه، حركات احتجاج واسعة ضد سياسات تقليص الخدمات والمساعدات الغذائية، ووقف دفع بدل إيجار شهري للذين دُمرت منازلهم بسبب العدوان الإسرائيلي، اتُّهمت فيها الوكالة الدولية بالتآمر على حقوق اللاجئين الفلسطينيين. واتخذت الاحتجاجات عدة مظاهر، منها إغلاق مراكز التوزيع التابعة للأونروا، جرّاء تطبيق نظام “الكابونة الموحدة” الذي يحرم أكثر من 700,000 لاجىء من حقهم في الحصول على الحصة الغذائية، وطالب المحتجون الأونروا بالعودة إلى توزيع المساعدات الغذائية وفق تصنيفات الفقر المدقع والفقر المطلق والكابونة الصفراء “المضاعفة” والكابونة البيضاء باعتباره النظام الأمثل لإنصاف الشريحة الأكثر فقراً، وأولئك المصنّفين تحت خط الفقر المدقع.
حملات بهدف تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين
باتت الخدمات التي تقدمها الأونروا للاجئين الفلسطينيين مهددة بفعل الحملات الإسرائيلية والأميركية ضدها، والتي تستهدف أساساً إنهاء دورها، بداية عبر تجفيف مواردها، أو دمج تفويضها ضمن صلاحيات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR)، ثم محاولة تجريمها خلال الحملة عليها في الحرب الأخيرة على غزة، وذلك في سياق المخططات الأشمل، الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، وفي القلب منها قضية اللاجئين وحق العودة. وهذه المخططات ذات سياقات وأبعاد إقليمية ودولية تتصل باشتراطات “عملية التسوية”.[17]
وتمثلت أساليب التهديد الإسرائيلي – الأميركي في التحريض المتواصل على دور الأونروا ومكانتها ومبرر استمرارها، وفي إجراءات الإدارات الأميركية المتعاقبة وبالاتفاق مع إسرائيل، وحتى وقف مساهمات واشنطن المالية في ميزانية الأونروا، الأمر الذي فاقم أزماتها واضطرها إلى اتخاذ تدابير للإنفاق على القطاعات الأساسية إلى حين التوصل إلى حل يساهم في خروجها من أزماتها المالية. وسنوضّح فيما يلي أصناف بعض هذه الحملات:
1 – الحملات الإسرائيلية على الأونروا
ترتكز إسرائيل على قاعدة عدم الاعتراف بمسؤوليتها عن تهجير الشعب الفلسطيني، والتنكر لحقّه في أرض وطنه وعودة اللاجئين منهم إلى مدنهم وقراهم التي هُجروا منها. وتنطلق في مساعيها، استناداً إلى هذه القاعدة، من تحريض الدول المانحة ضد وكالة الأونروا من أجل نزع الشرعية الدولية عنها ووقف دعمها، تمهيداً لإنهاء دورها وضمان توطين اللاجئين ودمجهم في مناطق اللجوء.
ولم تنفكّ إسرائيل منذ تأسيس الوكالة الدولية، عن ممارسة مختلف الضغوطات عليها، وانتهاك تعهداتها الدولية التي تقضي بتسهيل عملها. ولا تخلو التقارير السنوية المتعاقبة للمفوض العام للأونروا من الإشارة إلى تلك الانتهاكات التي وصلت إلى حدّ قصف مدارسها ومراكزها بحجج وذرائع واهية. وكانت هذه الضغوطات قد طالت النظام التعليمي للأونروا، بهدف تغيير المناهج الدراسية المتّبعة في الضفة الغربية وقطاع غزة.[18]
ومارست الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسة الضغط والتحريض على الأونروا، من طرف جميع المؤسسات والهيئات الإسرائيلية وعلى كل صعيد. وكان وصول دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة (2017 – 2021)، دافعاً قوياً إلى تعزيز سياسة الضغط والتحريض الإسرائيلية، إذ لمس نتنياهو أن الفرصة باتت ملائمة كي يعبّر عن هذه الرغبة بصورة صريحة وعلى نطاق واسع. ففي اجتماع لحكومته السابقة، عُقد في 11 يونيو / حزيران 2017، طالب بتفكيك وكالة الأونروا ودمج مؤسساتها ضمن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وأشار إلى أنه بلّغ السفيرة الأميركية لدى هيئة الأمم المتحدة، نيكي هايلي، بضرورة العمل في هذا الاتجاه.[19]
وشهدت سنة 2018، تصاعداً في حدة الحملة الإسرائيلية على الأونروا، تزامناً مع المواقف التي تبنّتها إدارة الرئيس الأميركي ترامب، والتي صارت تدعو صراحة، بعد اعترافها بمدينة القدس “عاصمة” لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، إلى إنهاء عمل الأونروا. واتخذت، في هذا السياق، قراراً بوقف الدعم المالي الذي كانت تخصصه لها، والذي يُقدّر بنحو 300 مليون دولار سنوياً، تمهيداً لإضعاف مواردها المالية، وهو القرار الذي تراجعت عنه فيما بعد، إلى حد ما، إدارة الرئيس جو بايدن.[20]
وفي هذا السياق، قال المفوض العام [السابق] للأونروا ماتياس شمالي، في 11 مارس / آذار 2018، “أنه سمع اقتراحاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقضي بنقل اللاجئين الفلسطينيين إلى المفوضية السامية للاجئين بالأـمم المتحدة عوضاً عن الأونروا، واصفاً هذه الفكرة ‘بالمجنونة’. وأضاف شمالي أن المفوضية ليس لديها القدرة والإعداد لإدارة 275 مدرسة، و22 مركزاً صحياً لعلاج اللاجئين، مؤكداً أنه إذا تم تحويل قضية اللاجئين إلى المفوضية فإن ذلك سينهي قضيتهم.”[21]
تعدّت سياسة التحريض ضد الأونروا واللاجئين الفلسطينيين عامة، المؤسسة الرسمية في إسرائيل، وامتدت إلى المراكز البحثية والكتّاب والصحافيين وقطاعات واسعة من المنغمسين في قضايا الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وشؤونه، فمثلاً استغل عيدي شفارتس، الباحث في معهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجيا الصهيونية في القدس، الإضراب الذي خاضه نحو 3600 من العاملين في الأونروا في الضفة الغربية في 20 شباط / فبراير 2023، للمطالبة بزيادة رواتبهم وتحسين ظروف معيشتهم، كي يجد في هذا الإضراب فرصة للدعوة إلى إغلاق الأونروا. ففي مقالة نشرها في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، في 9 يونيو/ حزيران 2023، نبّه إلى أن “استمرار وجود الوكالة يشكّل تهديداً للأمن القومي لدولة إسرائيل”، معتبراً أن هذه الوكالة “منظمة تلتزم المطالبة الفلسطينية بعودة اللاجئين، وهي تحظى بدعم دولي وأُممي، لكنها في جوهرها وهيكليتها وأهدافها وعشرات الآلاف من موظفيها – منظمة فلسطينية معادية لإسرائيل. وهي تنجح في إخفاء هويتها السياسية تحت غطاء إنساني يطمس حقيقة أن الفلسطينيين لم يتراجعوا قط عن مطالبتهم بالعودة الكاملة إلى فلسطين والقضاء على السيادة الإسرائيلية في البلد.”
ومع أنه قدّر أن “على إسرائيل ألّا تعارض المساعدة الاقتصادية التي يقدمها المجتمع الدولي للمجتمع الفلسطيني”، لكن عليها أن تصر على أن تكون هذه المساعدة ليس من خلال الأونروا التي يتوجب إغلاقها بالتدريج، وإنما من خلال السلطة الفلسطينية، وأن يبدأ هذا التحوّل “بمنظومة التعليم في الأونروا في الضفة الغربية، [إذ] بدلاً من ذهاب التلامذة الفلسطينيين إلى مدارس الوكالة، ومن أن يقبض المعلمون رواتبهم منها، يجري توجيه هؤلاء التلامذة إلى مدارس السلطة الفلسطينية”، ليخلص شفارتس إلى أن “الإغلاق التدريجي للأونروا سيركّز الانتباه على حقيقة أن الصراع بيننا وبين الفلسطينيين يدور حول جوهر وجود دولة إسرائيل، وليس على الانسحاب من المناطق [المحتلة….] وسيساعد على تماسك المجتمع الإسرائيلي المنقسم إزاء حجم مسؤوليته عن استمرار النزاع”، فضلاً عن أن “إغلاق الأونروا، يمكن أن يثير [في المدى البعيد] أصواتاً داخل المجتمع الفلسطيني تقوّض أسطورة العودة، وتبدأ بالتفكير في علاقات سلمية والعيش إلى جانب دولة إسرائيل، بدلاً من العيش مكانها.”[22]
في مقابل ذلك كله، مارس اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، ولا يزال، أدواراً مؤثرة للتعجيل في وقف المساهمات الأميركية للأونروا، كأداة ضاغطة عليها من أجل إنهاء دورها، سواء في عهد ترامب أو عهد خلفه جو بايدن. وكانت العناوين الدائمة لحملات اللوبي اليهودي أنه لا عودة للاجئين الفلسطينيين، مع طرح خيارات للتوطين، ووضع قيود على عودة اللاجئين، وهي العناوين التي تنسجم تماماً مع مطلب الحكومات الإسرائيلية، ولاسيما حكومة اليمين الحالية الأكثر تطرفاً في إسرائيل، والتي يقودها نتنياهو، بإقامة “الوطن القومي لليهود”، مع استمرار تقويض حل الدولتين والحيلولة بكل السبل دون عودة اللاجئين من شتاتهم الطويل، مثلما تحاول إنتاج حالة شتات جديد لمَن تبقّى على أرض فلسطين التاريخية، وتهجير سكان غزة أو إبادتهم جسدياً، وكذلك تهجير سكان الضفة الغربية بفعل هجماتها وعدوانها العسكري في أنحائها أيضاً.
لقد ذهبت إسرائيل بعيداً في مساعيها لتقويض أي دور للأونروا أملاً بتصفيتها تماماً، فعلى الرغم من تأكيد تقرير “مجموعة المراجعة المستقلة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين (الأونروا)” برئاسة وزيرة خارجية فرنسا السابقة كاترين كولونا، في 22 نيسان / أبريل 2024، زيف ادعاء إسرائيل بمشاركة 12 موظفاً من الوكالة في عملية “طوفان الأقصى”،[23] فإن الكنيست أقرّ في نهاية أيار / مايو “بقراءة أولية مشروع قانون يصنف وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) ‘منظمة إرهابية’. وتم تمرير مشروع القانون الذي قدمته عضو الكنيست بوليا مالينوفسكي، بأغلبية 42 صوتاً مقابل 6 [….] ويسعى إلى إلغاء الحصانات والامتيازات التي يتمتع بها موظفو الأونروا.” وهذا المشروع “إذا تم إقراره في القراءة النهائية، فسيتم تطبيق قانون مكافحة الإرهاب على الأونروا ممّا يؤدي إلى إنهاء جميع العلاقات بين إسرائيل والوكالة، وإغلاق أصولها في الأراضي الإسرائيلية.”[24]
2 – الحملات الأميركية على الأونروا
كانت الولايات المتحدة الأميركية، على مدى عقود، المساهم الأول في ميزانية الأونروا، بنسبة نحو 30%، إذ بلغت مساهمتها 343,900 مليون دولار سنوياً قبل أن تجمّدها في كانون الثاني/يناير 2024 بعد اتهام إسرائيل موظفين في الأونروا بالمشاركة في عملية “طوفان الأقصى”.[25] وهذه ليست المرة الأولى التي تجمّد فيها الولايات المتحدة مساهمتها السنوية في تمويل الأونروا، فقد اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراراً بوقف التمويل الكامل في سنة 2018، واستأنفه بايدن بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأميركية في سنة 2020، وصولاً إلى تجميده في سنة 2024. وعلى امتداد السنين، مرّ الدعم الأميركي للأونروا بمراحل من الارتفاع والانخفاض تمشياً مع الرؤية السياسية الأميركية تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين بصورة عامة.
وترافقت المساهمات المالية الأميركية في ميزانية الأونروا تاريخياً بدعم الولايات المتحدة لمشاريع توطين اللاجئين الفلسطينيين وإعادة دمجهم في الدول العربية، بما يتعارض مع القانون الدولي القاضي بحق عودة كل مواطن / لاجىء إلى موطنه.
ويكفي للتدليل على ذلك أن نعرض فيما يلي عدداً من المشاريع الأميركية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، والتي تؤشر إلى نيات أميركية قديمة ومبيّتة لإنهاء قضية اللاجئين والتنكر لحقّ العودة، ومنها:
– “مشروع ماك غي”[26] لسنة 1949، والذي يرتكز على عودة رُبع تعداد اللاجئين الفلسطينيين إلى بلدهم الأصلي الذي هُجروا منه، وتوطين سائر اللاجئين في الدول العربية والضفة الغربية وقطاع غزة؛
– “مشروع الإنماء الموحد للمصادر المائية في غور الأردن”[27] لسنة 1953، ويقوم على أساس الاستخدام المشترك للموارد المائية بين كل من إسرائيل والأردن، ويساهم في حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين عبر توطينهم في الدول العربية وتوفير عمل لهم عبر استغلال المياه المشتركة وري الأراضي الزراعية واستصلاحها وتوليد الطاقة على أن تتحمل الدول العربية أي تكاليف مالية؛
– “مشروع دالاس”[28] لسنة 1955، ويقوم هذا المشروع على توطين الجزء الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية، وتسهيل هجرة جزء آخر منهم إلى خارج حدود منطقة الشرق الأوسط، وقبول إسرائيل بعودة أعداد محدودة إلى المنطقة التي تسيطر عليها في فلسطين، وتقديم تعويض مادي عن أملاك وأموال اللاجئين الفلسطينيين؛
– “مشروع جونسون للسلام”[29] لسنة 1962، وهو المشروع الذي يمنح كل رب أسرة من اللاجئين الفلسطينيين الحق في الاختيار ما بين العودة إلى موطنه أو البقاء في المجتمع الذي يعيش فيه، مع تلقّيه تعويضاً مادياً عن قيمة أملاكه، مضافاً إليها الفوائد المستحقة عن الفترة الماضية. وأعطى المشروع إسرائيل الحق في رفض عودة أي لاجىء فلسطيني ترى أنه من المحتمل يشكّل خطراً على أمنها.
هذه ليست المشاريع الأميركية الوحيدة، إذ إن مشاريع أُخرى أعقبت حرب حزيران / يونيو 1967، وما تبعها من تعميق للانحياز الأميركي إلى إسرائيل، مثلما انعكس في: “مبادرة جونسون للسلام في الشرق الأوسط” (1967)؛ “مشروع كارتر للسلام في الشرق الأوسط” (1977)؛ “مشروع ريغان للسلام في الشرق الأوسط” (1982)؛ جملة من المشاريع الأميركية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين بعد مؤتمر مدريد في سنة 1991، وتوقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية في سنة 1993.
ومنذ أواخر سنة 2015، انطلقت الحملات الإسرائيلية الأميركية الشرسة والمنسقة على الأونروا في الأمم المتحدة، وهي حملات تشكّك في مبرر وجودها سياسياً وأخلاقياً، بهدف تقويض هذا الوجود. وتتلخص مقولات تلك الحملة في: اتهام الأونروا بأنها تشكّل “عقبة أمام السلام”؛ أنها تعمل على “إدامة الصراع العربي – الإسرائيلي” و”تطبّق معايير مزدوجة عندما لا تعيد توطين اللاجئين الفلسطينيين”؛ أن مجرد تخصيص منظمة من منظمات الأمم المتحدة كي تُعنى بالفلسطينيين دون غيرهم من لاجئي العالم يُعدّ بمثابة “انحياز ممنهج من قبل نظام الأمم المتحدة ضدّ إسرائيل”. وقد طالت الحملة أيضاً مناهج التعليم التي تعتمدها الأونروا، فوصفتها بأنها تعمل على “شيطنة إسرائيل”.[30]
وكانت تلك الحملات قد تصاعدت منذ أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب نيته نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وكذلك منذ صدور قرار الجمعية العامة في ديسمبر / كانون الأول 2017، المناهض لإعلان ترامب، والذي رأى أن الجهود الرامية إلى تغيير وضع القدس “باطلة ولاغية”. وفي تعليقها على القرار، أعلنت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي في 2 كانون الثاني / يناير 2018، أن إدارة الرئيس ترامب “لا تنوي الاستمرار في دعم الأونروا حتى يوافق الفلسطينيون على العودة إلى طاولة المفاوضات.” وفي اليوم التالي (3 كانون الثاني / يناير 2018) غرّد ترامب على تويتر قائلاً: “سنوياً ندفع للفلسطينيين مئات الملايين من الدولارات، ولا نحصل منهم في المقابل على أي تقدير أو احترام. إنهم لا يريدون مباحثات السلام، فلماذا ينبغي علينا أن ندفع لهم كل هذه المبالغ الطائلة في المستقبل؟”[31]
ولم تتوقف الحملات الأميركية ضد الأونروا عند التشكيك في مبرر وجودها، بل تعدّتها إلى جهة التدخل في شؤونها الداخلية، والضغط من أجل أن تُدخل الوكالة “إصلاحات” على بيئة عملها وطبيعته، وهي تسعى من وراء ذلك للتحكم في الدور القانوني والسياسي الذي تؤديه الوكالة لمصلحة اللاجئين. ومن الأمثلة لذلك، “الضغط من أجل إزالة اللاجئين الذين يحملون جنسية البلد المضيف من قوائم الوكالة، والتقيد التام بالتدخلات الإنسانية بعيداً عن إبداء أية مواقف ذات طبيعة سياسية، وإعادة النظر في تقديم الدعم على أساس إنساني لأولئك القادرين على تحمّل النفقات التي تقدمها الوكالة لهم، وحجب الدعم عمّن تصنفهم الولايات المتحدة إرهابيين أو مجرمين، وإعادة النظر في الكتب الدراسية لضمان خلوّها مما أسمته ‘التمييز’.”[32]
لقد مثّل عهد الرئيس دونالد ترامب قمّة في تراجع الدعم الأميركي للأونروا، إذ اتخذت إدارته مجموعة من القرارات بدءاً بوقف دعم الميزانية العامة في سنة 2017، ثم وقف المساعدات الاقتصادية بقيمة 200 مليون دولار عبر إعادة توجيهها إلى مشاريع أُخرى حول العالم، ثم وقف الدعم الموجه إلى الأونروا في آب / أغسطس 2018، وحجب 25 مليون دولار كانت مخصصة لستة مستشفيات فلسطينية في القدس في أيلول / سبتمبر من السنة نفسها (2018)، ووقف الوكالة الأميركية للتنمية الدولية جميع المساعدات المقدمة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة منذ مطلع شباط/فبراير 2019.[33] والأكثر خطورة من ذلك أن “صفقة القرن” طرحت مشروعاً أميركياً لإعادة توطين لاجئي فلسطين واستيعابهم في الدول المضيفة في محاولة لتقويض جهود السعي لتسوية قضيتهم وتلبية حقوقهم أو على الأقل دعمها.[34]
وسعت إدارة جو بايدن لتغيير نمط تعامل البيت الأبيض في هذا الملف، وذلك بعد 3 أعوام من قرار إدارة سلفه وقف تمويل الأونروا، وذلك عبر إبداء نيتها إعادة الدعم إلى الأونروا في رسالة وجهتها نانسي جاكسون، مسؤولة السكان واللاجئين والهجرة في وزارة الخارجية الأميركية، بتاريخ 19 آذار / مارس 2021، إلى المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني، أوضحت فيها “نية إدارة بايدن استئناف الدعم الإنساني الأميركي بشكل كامل”، علاوة على تحديد أشكال التواصل والشراكة، بينما أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في 7 نيسان / أبريل 2021، أن “الولايات المتحدة ستوفر للأونروا حوالي 150 مليون دولار للتوزيع الفوري، وبعد اشتعال هبّة القدس في أيار / مايو 2021، زار بلينكن رام الله، ووعد ‘بحوالي 32 مليون دولار لتلبية نداء الأونروا الإنساني الطارىء’.”[35]
بيد أن تسهيلات إدارة بايدن لم تتجاوز كونها تغييراً أميركياً في تكتيكات التضييق على الأونروا، مثلما اتضح في اتفاق “إطار العمل للتعاون 2021 – 2022” الذي وقّعته الأونروا مع وزارة الخارجية الأميركية في 16 تموز / يوليو 2021، من أجل عودة التمويل الأميركي، وما تضمّنه من شروط تحت مسميات “الحيادية”، و”الموضوعية”، جاء في مقدمها مراقبة جميع مؤسسات الأونروا، من خلال تقديمها تقارير مالية وأمنية ربع سنوية، للاطلاع على كامل تفصيلات عمل الوكالة، مع استثناء بعض الشرائح من اللاجئين من الدعم المقدّم إليهم تحت ذريعة انتمائهم إلى فصائل المقاومة الفلسطينية أو تأييدهم للمقاومة. وهذا فضلاً عن إحكام السيطرة على موظفي الأونروا، من خلال التشديد على ضرورة الحيادية التي تعني من وجهة نظر الولايات المتحدة التخلي عن دعم القضية الفلسطينية، ونبذ المقاومة، كي لا يتعرض الموظف للمحاسبة والفصل من وظيفته.[36]
ورحّب الفلسطينيون في حينه باستئناف الدعم الأميركي للأونروا، لكنهم رفضوا الاشتراطات الجديدة التي وضعتها الإدارة الأميركية، واعتبروها تدخلاً مباشراً في ثني اللاجئين عن المطالبة بحقوقهم المشروعة وفق قرارات الشرعية الدولية. وقال أحمد أبو هولي، مسؤول دائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية: “إن أي اتفاق بين الأونروا والدول المانحة يجب ألّا يتعارض مع قرار تأسيسها رقم 302، أو ينطوي على اشتراطات سياسية من شأنها أن تفتح المجال لتدخلات الدول، وفرض سياستها في عمل ومهمات الأونروا، أو تجعلها مراقباً أمنياً على موظفيها، أو يمسّ تفويضها أو حياديتها واستقلاليتها، أو يمس بتعريف اللاجىء الفلسطيني.”[37]
الآفاق والسيناريوهات المحتملة
تؤشر التحديات والأزمات المالية المتفاقمة منذ سنة 2015، مع ما رافقها من حملات تهديد ممنهجة ضد الأونروا لإلغاء تفويضها وإنهاء دورها والقضاء على قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقّهم في العودة، إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل الوكالة الدولية:
السيناريو الأول: أن تتمكن الأونروا من تجاوز أزمة تمويلها، استناداً إلى خبرتها وقدرتها على مواجهة الأزمات المالية التي تعرضت لها طوال الأعوام الماضية، وذلك من خلال تحركاتها لإقناع الدول المانحة بالوفاء بدعمها وتسديد التزاماتها المالية لفائدة اللاجئين الفلسطينيين، والإنفاق على البرامج الرئيسية والطارئة التي تُقدمها في مناطق عملياتها الخمس، والتي كانت مهددة بفعل تقليص التمويل الدولي، بما في ذلك استجابة الدول المانحة للنداء الذي أطلقته الأونروا في بداية هذه السنة (2023) لجمع 1,6 مليار دولار أميركي. وهذا هو السيناريو الأكثر تفاؤلاً.
السيناريو الثاني: يفترض هذا السيناريو فشل الأونروا في تدبّر أمورها المالية وتعويض العجز في ميزانيتها، وذلك لعدم استطاعتها إقناع الدول المانحة بدعمها، وعدم قدرتها على جلب ممولين جدد، بعد أن تتدخل حسابات السياسة وشؤونها في قضية التمويل، وتصبح الحملات الإسرائيلية الأميركية دافعاً أساسياً إلى إفشال الأونروا، الأمر الذي يعني استمرار الأزمة المالية التي تتأكد بفعلها تحذيرات الوكالة الدولية ومخاوفها من عدم قدرتها على الاستجابة في الإنفاق على برامجها الأساسية والطارئة.
السيناريو الثالث: يفترض هذا السيناريو نجاح الحملات الأميركية الإسرائيلية ضد الأونروا في الضغط من أجل تقليص أو وقف مساهمات الدول المانحة لها كمقدمة لإنهاء دورها وإلغاء تفويضها المحدد بقرار الجمعية العامة رقم 302، ثم دمج الوكالة ضمن صلاحيات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وهذا ما سعت له وأعلنته إسرائيل بصراحة في عدة مرات.
وسيواجَه هذا السيناريو بحقيقة أن الجمعية العامة للأمم المتحدة هي الجهة الوحيدة صاحبة الحقّ في إلغاء القرار 302، وبموقف الأطراف المؤيدة لبقاء الأونروا واستمرارها، وبوعي اللاجئين الفلسطينيين بمخاطر تصفية قضيتهم، وإصرارهم على مواجهة محاولات إنهاء دور الأونروا، والقضاء على قضية اللاجئين. غير أن هذه المواقف لا تعفي الولايات المتحدة وإسرائيل من مواصلة حملاتهما ضد الأونروا من أجل تحقيق هذه الغاية عندما تتوفر ظروف تحققها.