في 8 فبراير/ شباط، هاجم مستوطنون إسرائيليون رعاة فلسطينيين كانوا يرعون قطعانهم في تجمع سدة الثعلة، بالقرب من الخليل في الضفة الغربية المحتلة، فطردوا الفلسطينيين من المرعى واستخدموا طائرات بدون طيار لإخافة مواشيهم. ونتيجة لذلك، عانى الرعاة من خسائر فادحة، حيث تعرّض العديد من حيواناتهم المرعَبة للإجهاض والإملاص في ذروة فترة الحمل.
ولم تكن هذه الحادثة فريدةً من نوعها، بل هي جزء مما يصفه المدافعون عن حقوق الإنسان بـ “الحرب الاقتصادية التي يشنّها المستوطنون والتي يكون مآلها التهجير”.
وما حدث في سدة الثعلة ليس سوى واحد من 561 حادثة لهجمات المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، والتي سجلها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الفترة ما بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، و20 فبراير/شباط 2024.
وقد أودت تلك الحوادث بمقتل ما لا يقلّ عن ثمانية فلسطينيين، وإصابة 111 آخرين، بحسب قاعدة بيانات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، كما أدّت موجات العنف المتكرّرة التي ينفّذها المستوطنون، بدعم من الجيش – في كثير من الأحيان- إلى تهجير 1208 فلسطينيين، من بينهم 586 طفلًا، من 198 أُسرة.
وبينما تميلُ المنظمات الإنسانية ومنظمات حقوق الإنسان إلى تسجيل أعمال العنف هذه كحوادث منفصلة، فإن هذه الحوادث، هي في الواقع، أعمال وحشية ينتهجها المستوطنون المتطرفون ضد السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة بالتوازي مع أعمال الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة.
وبدعم من قوات الأمن الإسرائيلية وبمساعدة وتحريض من الحكومة، يعدّ عنف المستوطنين جزءًا أساسيًا من سياسة الدولة الإسرائيلية، وخُطتها للتطهير العرقي للأراضي الفلسطينية المحتلة؛ من أجل السيادة الكاملة عليها، وتمكين التوسع الاستيطاني، على الرغم من أن المستوطنات غير قانونية بموجب القانون الدولي.
المشروع الاستيطاني غير قانوني في مجمله
المستوطنات هي مجموعة من المستعمرات الحضرية التي ترعاها الدولة (أو تتسامح معها إلى حد كبير، في حالة البؤر الاستيطانية و”المزارع” غير الرسمية)، والتي تم بناؤُها للإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة ومرتفعات الجولان.
والحقيقة أنّ جميع المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية بموجب القانون الدولي؛ لأنها تنتهك المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي صادقت عليها إسرائيل، وعلاوة على ذلك، غالبًا ما تُستخدم خطط التوسع الاستيطاني كوسيلة لتعزيز ضم إسرائيل الفعلي للأراضي الفلسطينية المحتلة، في انتهاك لحظر غزو الأراضي بالقوّة المنصوص عليه في المادة 2 (4) من ميثاق الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من وضوح القانون الدولي في هذا الشأن، والذي يدعمه قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لعام 2016 الذي لم تستخدم الولايات المتحدة حق النقض ضده، فقد وفرت إسرائيل الظروف السياسية والحوافز الاقتصادية، فضلًا عن دعم البنية التحتية، لنمو 279 مستوطنة في الضفة الغربية، التي أصبح نحو 700 ألف مستوطن يقطنونها فعلًا.
وتمتد المستوطنات إلى ما هو أبعد من المناطق الحضرية المسوَّرة؛ أي إلى المناطق الريفية المحيطة، حيث تعيش الأسر الفلسطينية الضعيفة في خوف دائم من الهجمات ضد منازلهم، وقطعانهم التي يعتمدون عليها لكسب رزقهم، وفي حياتهم بشكل عام.
وفي بعض المجتمعات الفلسطينية الـ 16 التي تم نقلها قسرًا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مثل خربة زنوتا في تلال جنوب الخليل، قام المستوطنون بالفعل بتسييج الأراضي، وسيطروا عليها فعليًا لاستخدامهم الخاص، ومنعوا المجتمعات الفلسطينية من العودة.
عنف
وقد اتضح الآن أن المواقف السياسية للمستوطنين المتطرفين، والتي تكمن في قلبها الرغبة في تخليص الضفة الغربية المحتلة من الفلسطينيين، أصبحت جزءًا من السياسة الإسرائيلية السائدة.
وبعد حوادث عنف المستوطنين البارزة، تبنَّى المسؤولون الحكوميون مثل هذه الأعمال، وأعربوا عن دعمهم لها، بل وقام وزراء الحكومة بتحريض المستوطنين علنًا على ارتكاب أعمال عنف ضد الفلسطينيين. ففي العام الماضي، على سبيل المثال، دعا وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى محو بلدة حوارة الفلسطينيّة من الخريطة.
ولا يتمتّع المستوطنون بالدعم السياسيّ فحسب، بل بالدعم العسكريّ أيضًا، ففي العقدَين الماضيين، توسّع انتشار قوات الأمن الإسرائيلية في الضفة الغربية للمساعدة في “تأمين” المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية. وبالإضافة إلى ذلك، قام الجيش الإسرائيلي بإنشاء وتدريب وتسليح ما يسمى “وحدات الدفاع الإقليمي” المكونة من المستوطنين.
وعلى مدى سنوات، هاجم المستوطنون المسلحون الفلسطينيين تحت حماية قوات الأمن الإسرائيلية وبمشاركة منها.
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تم نشر العديد من وحدات الجيش على جبهة غزة، مما أعطى وحدات الدفاع التابعة محليًا للمستوطنين دورًا أكثر بروزًا في فرض السيطرة على الأراضي المحتلة، وقد أصبح الخط الفاصل بين قوات الأمن والمستوطنين المسلحين غير واضح بشكل متزايد، خاصة في ظل القانون، وخاصة تحت قيادة وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، الذي أمر في الأشهر الأخيرة، بتوزيع آلاف الأسلحة النارية، وغيرها من المعدات القتالية، على المستوطنين.
وعلى الرغم من أن عنف المستوطنين في فلسطين المحتلة يرتكبه مواطنون عاديون، فإنه لا يمكن فهمه إلا على أنه عنف دولة، فالقانون الدولي المعمول به – بما في ذلك المواد المتعلقة بمسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دوليًا – يؤكد على أن مجموعة من السلوكيات التي ترتكبها جهات غير حكومية، مثل المستوطنين الإسرائيليين المسلحين، يمكن أن تُنسب إلى الدولة.
وقد وصفت منظمة حقوق الإنسان البارزة “بتسيلم” عنف المستوطنين بأنه شكل من أشكال عنف الدولة، والذي يمكن لإسرائيل من خلاله أن “تحصل على أمرين في آن واحد”: فبوسعها أن تزعم أن هذا العنف يرتكبه أفراد عاديون – عدد قليل من “التفاحات الفاسدة” بين المستوطنين – وأن تنكر، في ذات الوقت، الدور الذي تلعبه قواتها الأمنية، في حين تستفيد من العواقب المترتبة على ذلك؛ أي طرد الفلسطينيين من أراضيهم.
التخلي عن واجب الحماية
وبموجب القانون الدولي، فإن إسرائيل، باعتبارها القوة المحتلة، ملزمة بحماية السكان الفلسطينيين. ومع ذلك، فإن عنف المستوطنين يحدث بشكل علني، وفي تجاهلٍ تامٍ قوانينَ الحرب وحقوقَ الإنسان.
إن حقيقة أن قوات الأمن الإسرائيلية رافقت المستوطنين ووفرت لهم الحماية خلال عملياتهم العنيفة، هي مؤشر واضح على أنها تتجاهل بشكل متعمد المسؤولياتِ القانونيةَ تجاه السكان الواقعين تحت الاحتلال.
إن عدم المساءلة عن عنف المستوطنين في المحاكم الإسرائيلية – العسكرية أو المدنية – يدل على أن السلطات الإسرائيلية غير راغبة في وضع حد للإفلات من العقاب. ففي عام 2013، أفادت بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة بأنّ “هويات المستوطنين المسؤولين عن أعمال العنف والترهيب معروفة لدى السلطات الإسرائيلية، ومع ذلك فإن هذه الأفعال مستمرّة مع الإفلات من العقاب”.
وكشفت دراسة حديثة أجرتها منظمة غير حكومية لحقوق الإنسان أن الشرطة الإسرائيلية أغلقت بين عامَي 2005 و2023، حوالي 93.7 بالمائة من ملفات التحقيق المتعلّقة بالإسرائيليين الذين ألحقوا الضرر بالفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربية المحتلة. ومنذ أن تولّت الحكومة الحالية مهامّها في ديسمبر/كانون الأوّل 2022، اختار 57.5% من الفلسطينيين ضحايا الجرائم الإسرائيلية عدم تقديم شكوى بسبب انعدام الثقة في النظام.
لقد تبنّت الدولة الإسرائيلية عنف المستوطنين كأداة لتسريع وتيرة تهجير الفلسطينيين. وبمجرد تطهير أجزاء رئيسية من فلسطين المحتلة من المجتمعات الفلسطينية الأصلية، عندها يمكن للمشروع الاستيطاني أن يستمر بلا هوادة ودون معارضة، ويمكن أن يتم الضمّ أيضًا.
ونظرًا إلى أن الأنشطة الاستيطانية تشكل انتهاكًا معترفًا به للقانون الدولي، فلا يمكن للمجتمع الدولي أن يذعن لعنف المستوطنين الذي يدفع الفلسطينيين إلى ترك أراضيهم لتسهيل التوسع الاستيطاني.
وهناك تحقيقات معلقة حول الوضع في فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية. وقد أكد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان أن مكتبه يعمل على تسريع التحقيقات فيما يتعلق بعنف المستوطنين، مشددًا على أن “إسرائيل تتحمل مسؤولية أساسية كقوة احتلال” للتحقيق في هذه الجرائم ومحاكمتها ومنع تكرارها وضمان العدالة”.
ومن وجهة نظرنا، قد يكون لتحقيقات المحكمة الجنائية الدولية آثار رادعة فقط إذا أدرجت دور السلطات الإسرائيلية في تمكين هذا العنف، ولكن أيضًا عدم شرعية المستوطنات، ولا شكّ أن “ترحيل المدنيين” من قبل سلطة الاحتلال هو في الواقع إحدى جرائم الحرب المزعومة الأكثر توثيقًا في إسرائيل.
ونجد أيضًا أن العقوبات الأخيرة ضد المستوطنين العنيفين الأفراد التي فرضتها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا ودول أخرى قصيرة النظر. ومن خلال استهداف الأفراد، وليس الدولة، تستمر القوى الغربية في منح إسرائيل حرية التصرف عندما يتعلق الأمر بانتهاك حقوق المدنيين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي.
وبدلًا من ذلك، يجب على المجتمع الدولي أن ينسب بوضوح ودون تردد عنف المستوطنين إلى الدولة الإسرائيلية، وأن يحاسب مسؤوليها في المحافل الدولية المناسبة؛ لعدم اتخاذهم إجراءات حاسمة لمنعه ووقفه وعكس آثاره.