فلسطين ليست الهدف الوحيد لإسرائيل
تستغل الحكومة الإسرائيلية التداعيات الدراماتيكية في الأراضي المحتلة، لمحاولة فرض أحد خيارين على الفلسطينيين: أن يرضوا ببنتوستنات عرقية في بعض أراضي الضفة الغربية وغزة، من دون حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، ومن دون سيادة فلسطينية على القدس.
إذا كانت إسرائيل تحطم، اليوم، بعنفها الدموي دويلة على أراضي67، فلماذا نفترض أنها ستقبل بدولة ديمقراطية علمانية، تنهي وجودها دولة يهودية؟
ولكن، هل قبولها ضروري أصلا، أم أن من الممكن تجاوزه، أي العمل من الداخل على نفي السمة الكولونيالية الصهيونية عن الدولة، مثلما هزمت جماهير جنوب إفريقيا الأبارتايد نظاما ومفهوما؟
وبسؤال مغاير: لماذا مازال بعضنا يتعامل مع شعار “دولتان لشعبين”، وكأنه أُنزل من سابع سماء، ليجيب عن أسئلة المرحلة، ولينجينا من ويل الشعارات “المثالية”، البعيدة كل البعد عن ”الواقع”؟ ثم ألم يكن في تجربة السنوات الماضية، بعد اتفاقيات أوسلو وتكثيف الجهود الاستيطانية، وسياسة إسرائيل المعلنة بشأن الفصل الديموغرافي، وعنف الحرب الحالية، ما يشير إلى آخر المستوطنات البيضاء، على حماية نقائها عن طريق نظام الأبارتايد الذي عرفته وجربته أنظمة كولونيالية في أماكن أخرى من العالم؟
كانت التطورات التي شهدتها القضية الفلسطينية، في الفترة بين توقيع اتفاق أوسلو في أيلول/سبتمبر1993 وانعقاد مفاوضات كامب ديفيد، قد أظهرت المطبات الكبرى التي تعترض فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، في حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 إلى جانب دولة إسرائيل، وخصوصا في ضوء إصرار حكام إسرائيل على إبقاء القدس موصدة، والحفاظ على المستوطنات اليهودية، ورفض الانسحاب من أجزاء واسعة من الضفة الغربية.
فلسطين موحدة
وأمام هذا الواقع الجديد، بدأت تبرز بين صفوف باحثين ومفكرين عرب وفلسطينيين فكرة مفادها بأن الحفاظ على فلسطين موحدة، في حدودها الانتدابية، قد يكون المنطلق الأمثل للتوصل إلى حل نهائي لهذا الصراع، وراحت تظهر بخصوص الشكل الدستوري الذي يمكن أن تتخذه فلسطين الموحدة هذه، اجتهادات متباينة، تراوحت بين العودة إلى فكرة قيام دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين، أو دولة ثنائية القومية، وفكرة قبول الفلسطينيين بأن يكونوا مواطنين، يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة في دولة إسرائيل التي يتوجب عليها أن تتخلى عن طابعها اليهودي.
في غمرة هذه الاجتهادات، تناسى الجميع أن الغبن التاريخي الذي لحق الشعب الفلسطيني لا ينحصر في إسقاطات الاحتلال الإسرائيلي بعد العام 1967، بل هو، أساسا، في نكبة عام 1948، فقيام دولة إسرائيل، في حد ذاته، مركب أساسي من الغبن التاريخي المستدام، أما جوهرها دولة يهودية ودولة اليهود، فيزيد من هذا الغبن. ولا مقومات داخل المجتمع الإسرائيلي لأي تراجع عن هذا الجوهر: فاليسار الإسرائيلي استفاد من المركب الكولونيالي لإسرائيل ومن طابعها اليهودي، كما استفاد اليمين، وكلاهما استغل امتيازات اليهودي التي وفرتها له الدولة على حساب الثروة المادية والروحية الفردية والجماعية للشعب الفلسطيني، ويتمسك اليسار كما اليمين، بهذه الامتيازات. وهذا أساس مادي قوي للإجماع الصهيوني شبه المطلق. ماذا يعني هذا؟
إنه يعني أن المشروع الصهيوني تعامل مع الجوهر، وهو السيطرة على المكان، بكل خيراته وموارده، وتفريغه من طابعه ومن سكانه، وتهويد معالمه، والنظر إلى الشعب الفلسطيني مجزأ تماما. وهذا الجوهر يرفض الاعتراف بمسؤوليته عن إيجاد قضية اللاجئين وتهجيرهم، ويعمل جاهدا على نسف أي إمكانية لعودتهم، من خلال السيطرة على أملاكهم الفردية والجماعية وخصخصتها وتهويدها.
وهذا الجوهر يرى في الفلسطينيين داخل مناطق 48 خطرا أمنيا وديموغرافيا على الدولة اليهودية، وهو نفسه يرى ضرورة استمرار السيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة بأدوات عسكرية احتلالية.
وتجهد إسرائيل في منع الشعب الفلسطيني من التعامل مع ذاته كشعب، بما يعنيه ذلك من الربط بين قضاياه على الرغم من حالة التجزئة القسرية. وهذا ما بينته جليا اتفاقيات أوسلو التي خلقت وضعا يبدو فيه وكأن هناك ثلاث قضايا فلسطينية متصادمة في المصالح والأولويات، وهذا فرق جوهري بين السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية التي مثلت، إلى حد كبير، الشعب الفلسطيني بمجموعه.
ووفق التعامل التجزيئي، أصبح الانتصار الإسرائيلي والهزيمة العربية عام 1967، لا الغبن التاريخي، هما نقطة البداية ومنطلق أي حل.
اقرأ أيضا| الحرب العسكرية والحرب النفسية في الصراع الفلسطيني
واليوم، تستغل الحكومة الإسرائيلية التداعيات الدراماتيكية في الأراضي المحتلة، لمحاولة فرض أحد خيارين على الفلسطينيين: أن يرضوا ببنتوستنات عرقية في بعض أراضي الضفة الغربية وغزة، من دون حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، ومن دون سيادة فلسطينية على القدس، أو أن يخضعوا للتطهير العرقي، أو لنكبة جديدة، توعد بها أكثر من مسؤول إسرائيلي. ولم يعد هذا الخيار الأخير ضربا من الديماغوجية الصهيونية المتطرفة، بل تسلل، وبقوة، إلى التيار العام، إذ بات يطرحه أكاديميون وصحافيون وكتاب، وراحت أصوات متصاعدة من الحزبين الرئيسيين (العمل والليكود) تدرس بعض الأشكال “المقبولة” لهذا التطهير.
في العقود الثلاثة الأخيرة، كان شعار”دولتان لشعبين” يُعد تعبيرا عن الواقعية والحكمة السياسية في آن واحد، أما، الآن، فلا بد من التفكير بجدية ونزاهة في ما إذا كان ذلك الشعار لا يزال صحيحا. بل لابد من التفكير في ما إذا كان شعار”دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين التاريخية”، وهو شعار يطرح حلا إنسانيا وأخلاقيا للصراع، قد بات أكثر واقعية، كحل لهذا الصراع؟
أردت القول إن إسرائيل ترفض تبديل طبيعتها اليهودية العرقية التفوقية، أو تبديل سياساتها العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني، وتعتبر هذا الرفض دفاعا عن مبادئ إسرائيل ”الديمقراطية” وعن شعب يهودي توقف اضطهاده التاريخي، لمجرد دخول الصهيونية على الخط! ومن هنا، التفوقية اليهودية هي ما يجعل قضية إسرائيل، بوصف هذه الدولة يهودية، بدلا من أن تكون إسرائيلية، أمرا بالغ التقديس.
لا يمكن تبديله، لأن ذلك سيكون شأنا غير عملي، وأن التزام هذه النزعة هو ما يجعل من عودة اللاجئين الفلسطينيين “خطرا ديموغرافيا”، يهدد الغالبية اليهودية في إسرائيل (غالبية باتت كذلك، تحديدا، لأن الفلسطينيين الذين يسعون، اليوم، إلى العودة إلى أراضيهم وبيوتهم، قد سبق أن طُردوا منها أصلا)، وإن ذلك الالتزام هو الذي يواصل شرعنة معاملة الفلسطينيين داخل حدود 1948 مواطنين من الدرجة الثالثة. وهو الذي يشرع استمرار الاحتلال صمام أمان أمام التهديدات الموجهة إلى إسرائيل، دولة عرقية تمييزية يهودية.
ولكن، مؤسف حقا أن إسرائيل حظيت، في نهاية السبعينيات، باعتراف من مصر بحقها المزعوم في أن تكون دولة يهودية عنصرية، وفي أوائل التسعينيات من الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ذاتها.
وفي فبراير/شباط 2002، حظيت إسرائيل باستعداد العالم العربي أجمع، المجتمع في قمته المنعقدة في بيروت، بالاعتراف بها شريطة أن تنسحب من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967. ما العمل؟
ما يلفت النظر تاريخيا أن الشعب الفلسطيني لم يكن في أي فترة سيد نفسه قدر ما هو في الجولة الحالية من الصراع مع إسرائيل، وليس مصادفة أن أيا من الحلول المطروحة، اليوم، أو في الماضي، لم يكن حلا بادر إليه الشعب الفلسطيني. فاقتراح الدولتين اقتراح دولي، وما سبقه من اقتراحات لم يكن بمبادرة وإرادة فلسطينية، وما أُقترح في أوسلو كان إسرائيليا منبثقا من تضعضع بنية منظمة التحرير الفلسطينية، ونهاية مرحلة دولية قائمة على أساس نظام القطبين.
المقاومة ضرورة حياتية
ومن هنا، ما نشهده، اليوم من تحول هو نضال الشعب الفلسطيني لكي يكون سيد نفسه، من حيث رفضه الأمر الواقع، ومحاولته إيجاد توازن أمني مع إسرائيل، على الرغم من الفارق الهائل في القدرة العسكرية بين الطرفين، مستحدثا أدوات لهذا التوازن، بما فيها، العمليات الاستشهادية. ويأتي ذلك، بعد أن جرب الشعب الفلسطيني مسارات عديدة، لم تؤد إلى الاستقلال ولا السيادة، ولا إحقاق حقوقه الجوهرية، ولو بالحد الأدنى المطروح دوليا، وهو حل الدولتين. وما دام المجتمع الدولي لا يوفر الحماية للشعب الفلسطيني.
ستبقى هذه المقاومة ضرورة حياتية، لا سيما وأن المراد الصهيوني لا يعرف ”الوسط”، ولا التعايش، بل هو”البديل” لهويتنا الحضارية بمضمونها القومي، أي أن جوهر المعركة مع “إسرائيل” هو النصر الكامل أو الهزيمة الكاملة: الوجود أو الانقراض لأحد الطرفين. أما الأرض والاقتصاد و…و…فهي تفاصيل ونتائج المقدمات.