سياسة الاغتيالات الإسرائيلية: منطق العصابات في خدمة الدولة
توسعت جغرافيا الاغتيالات الإسرائيلية فوصلت إلى عواصم بعيدة مثل، روما وباريس وأوسلو، وتصاعدت وقاحة العمليات في كثافة تنفيذها وتوظيفها لأدوات عسكرية عملياتية مثل، اغتيال خليل الوزير في تونس 1988، لتصبح عمليات الاغتيال الإسرائيلية عسكريةً في المرتبة الأولى.
لم تتوسع أي جهة أو منظمة أو دولة في سياسة الاغتيالات مثل (إسرائيل)، وكانت من البدايات الأولى التي ارتبطت بتوظيف الاغتيال كأحد الأدوات الرئيسية لما أصبح يعرف بنظريتها الأمنية، استهداف الدبلوماسي الهولندي اليهودي يعقوب دي هان الذي انقلب على المشروع الصهيوني صبيحة يوم 30 يونيو 1924 في القدس، وواصلت العصابات الصهيونية عمليات الاغتيال ضد سياسيين بريطانيين كانوا قد اتخذوا مواقف معارضة لسلوكيات الحركة الصهيونية مثل اللورد موين الذي أردته رصاصات عصابة شتيرن في القاهرة في نوفمبر 1944.
بعد تأسيس دولة إسرائيل أصبح الموساد الجهاز المتخصص في تنفيذ عمليات الاغتيال لمصلحة (إسرائيل)، ومن عملياته المبكرة التخلص من المشرف الألماني لمشروع الصواريخ المصرية هاينز كروغ في 1962، ومع انطلاق الثورة الفلسطينية أصبحت الاغتيالات، وجبة رئيسية توضع على مكتب القيادة السياسية في إسرائيل، ليتم استهداف قيادات مهمة في تنظيمات فلسطينية مختلفة مثل، غسان كنفاني 1972، ووائل زعيتر ومحمود الهمشري في العام نفسه، في البداية استُهدفت مجموعة من المثقفين الفلسطينيين الذين كانوا يمتلكون الكاريزما لتمثيل القضية الفلسطينية، وفتح قنوات التواصل الضرورية مع الجانب الغربي.
توسعت جغرافيا الاغتيالات الإسرائيلية فوصلت إلى عواصم بعيدة مثل، روما وباريس وأوسلو، وتصاعدت وقاحة العمليات في كثافة تنفيذها وتوظيفها لأدوات عسكرية عملياتية مثل، اغتيال خليل الوزير في تونس 1988، لتصبح عمليات الاغتيال الإسرائيلية عسكريةً في المرتبة الأولى، وتغادر الصورة التقليدية للاغتيال بوجود منفذين مسلحين في الميدان، وفي الحرب الأخيرة أخذت إسرائيل تتوسع في الاغتيال بصورة منهجية، وتخرج للاعتراف بجرائمها بصورة واضحة، وتعتبرها جزءا من استراتيجيتها من غير مواربة، فأتى اغتيال صالح العاروري في يناير 2024 ليدشن حملة مسعورة وظفت خلالها الطائرات والصواريخ في أدوات الاستهداف، وتتابع عمليات الاغتيال مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية ويأتي اغتياله في طهران، ويُستهدف حسن نصر الله أمين عام حزب الله، في الضاحية الجنوبية، وأخيرا، ومن غير استهداف مسبق، تضيف إسرائيل يحيى السنوار إلى قائمتها الطويلة.
هذا ما نعرفه، ففي حالات كثيرة دارت أحاديث عن اغتيالات خفية وناعمة استهدفت شخصيات بوزن ياسر عرفات، وجمال عبد الناصر، فما الذي تستهدفه إسرائيل من عمليات الاغتيال، التي يمكن وصفها بغير المشرفة، والمتناقضة بصورة كبيرة مع التقديرات الثقافية والسياسية للعديد من الشعوب، التي ترى في الاغتيال إحدى الأدوات غير الشريفة للمواجهة، بل تعرف إلى حد بعيد، أن الاستهداف بالاغتيال يسهم في وجود حالة من التبني لأفكار الشخصية التي تعرضت للاغتيال، فيمنحها في الثقافة المقابلة، صفة الشهادة التي تجعله يتحول إلى قوة رمزية تؤثر في صياغة البنى الفكرية للأجيال القادمة.
لماذا تتوسع إسرائيل في سياسة الاغتيال في هذه الحالة؟ ولماذا تتجاهل الأثر النفسي الذي يحدثه الاغتيال على المدى البعيد، وتغذي بيئة الانتقام بتصرفاتها العنجهية؟ لا تبدو إسرائيل مهتمة بزيادة حالة الاحتقان، ولا تغذية التناقضات القائمة، فهذه حالة تشكل رابط المجتمع الإسرائيلي، وتشعره بأن التهديد هو الذي يدفعه إلى التراص والتماسك، ولكن ذلك لا يفسر المسألة بصورة كاملة، ولا يبرر الإفراط في الاغتيال، ودخوله في تفاصيل بنيوية داخل المنظمات التي تستهدفها الاغتيالات.
الغاية الرئيسية التي تعرفها إسرائيل هي إشكالية عربية عميقة، تتمثل في فهمها لأهمية الدور الشخصي للفاعل السياسي، نتيجة تغييب الممارسة الديمقراطية داخل البنية السياسية العربية، سواء كانت على مستوى الدولة أو التنظيم المسلح، وعدم قدرة العرب على بناء حالة من التراكم، أو النقل السريع للملفات وإعادة تفعليها بصورة متصلة، لتبدأ حالة من الارتباك ترتبط بتغييب الشخصية التي تعرضت للاغتيال، ويتضح ذلك من خلال اغتيالات ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في روما وباريس، وائل زعيتر ومحمود همشري، لأن الملفات التي كانا يعملان عليها بقيت مرتبطة بياسر عرفات شخصيا.
ولم تكن موضوعا يتصل بالبنية الكاملة للمنظمة، وبذلك حدثت انقطاعات مهمة في مرحلة حساسة من التواصل، مع أن العمليتين ألحقتا بحملة انتقامية نفذتها إسرائيل بعد عملية أولمبياد ميونيخ 1972. لم تتخلص إسرائيل إلى اليوم من عقلية العصابات، التي ما زالت تظهر من وراء كل البنى الديمقراطية والتنظيمية القائمة، وتطل برأسها لتفرض منطقها بين وقت وآخر، ولكن العصابات ومافيوية الدولة تقوم على درجة عالية من التنظيم، ومن القدرة على العودة من جديد لصياغة الأهداف قصيرة المدى داخل الخطط الواسعة وطويلة المدى، وفي المقابل، تعمل أي عملية اغتيال أو تحييد.
كما أخذت إسرائيل والولايات المتحدة تعتمدها كتسمية مضللة وخبيثة على إحداث خلخلة واسعة، لأن تغيب القيادات أو الشخصيات المحورية في الاتصال والتنسيق يشيع درجة واسعة من الفوضى، ويستلزم وقتا طويلا من أجل استعادة الوتيرة نفسها التي سبقت عملية الاغتيال، وربما تحدث إزاحة في الرؤية المرتبطة بوجود الشخص نفسه، بوصفه نسخة مصغرة عن فكرة القائد الضرورة التي تشيع في الأنظمة العربية، بوصفها قائمة على الفكرة نفسها وترجمتها الواسعة الممتدة في أي عمل تنظيمي عربي.
تدرك (إسرائيل) هذه العيوب في التنظيمات العربية، ولذلك تسرف في عمليات الاغتيال، وفي مجمل المواجهة يمكن القول إن دمقرطة العمل السياسي على جميع مستوياته وفي شتى أطيافه، ضرورة عربية من أجل مواجهة بعيدة المدى، أما التذرع بالمسألة الأمنية، فالاغتيالات نفسها تكشف مدى هشاشة هذه الفرضية، فالقرار الأوسع والقدرة على بناء تنظيمات عميقة ومتعددة المستويات، مسألة مهمة في مواجهة مفتوحة مع نظام وحشي في إسرائيل، لا يقف على الحد الأدنى من الممارسة الأخلاقية أو المحترمة، وفقا لأي مفاهيم سياسية أو إنسانية. نظام يشكل الشر جزءا أصيلا من روحه وتركيبته.
أما التفاخر بمقولة (إذا سيدٌ منا خلا قام سيد)، فهذه واحدة من الضلالات، لأن المواجهة لا تقوم على سادة تفترض ضمنيا وجود العبيد في مكان ما من المعادلة، كما أن السيد في حال وضعه في إطار القيادة الحديثة يعتبر استثمارا طويلا ومكلفا، ويجب عدم التعامل مع تغيبه بهذه اللهجة من الاستخفاف، والواقع، أن الأمور لا تمشي بهذه الطريقة، فالسيد دائما يرحل ومعه أسرار كثيرة وملفات كبيرة معلقة وغير ناجزة.