منذ تأسيس الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت تيارات فكرية وسياسية متنوعة داخلها. من بين هذه التيارات، برزت “الصهيونية التنقيحية” أو “التعديلية” كواحدة من الأكثر تأثيراً، والتي قادها زئيف فلاديمير جابوتنسكي، الصهيوني الأوكراني المتطرف.
في أوائل القرن العشرين، وضع جابوتنسكي رؤيته العنصرية في كتابه “الجدار الحديدي”، الذي لم يقتصر على الدعوة لتأسيس دولة إسرائيلية على أرض فلسطين، بل أسس لسياسة أمنية صارمة تقوم على فكرة إحاطة الكيان الإسرائيلي بـ”جدار حديدي”، مادي ومعنوي من القتل والاغتيال والإبادة لإرهاب السكان الأصليين، وتهجير الناجين منهم، وإخضاع العرب عموماً، وخصوصاً في دول الطوق.
بنى جابوتنسكي رؤيته هذه على مجموعة من الأفكار، منها اعترافه بأنَّ فلسطين ليست أرضاً لليهود، وأنه لو كان فلسطينياً لقام بمثل ما يقوم به الفلسطينيون في الدفاع عن أرضهم، لأنه لا يوجد شعب على مدار التاريخ سلَّم أرضه هكذا لمحتل دون دفاع أو مقاومة. ومن هنا أتت دعوته لإقامة “جدار حديدي” في إسرائيل يقوم على فكرة قتل رغبة المقاومة لدى أصحاب الأرض، قبل قتل المقاومين أنفسهم، وذلك من خلال التنكيل بالشعب وإرهابه وهزيمته نفسياً، باعتبارها الطريقة الوحيدة الممكنة لاستيطان اليهود في الأراضي الفلسطينية وفق رؤيته.
وبالتالي فقد اعتقد بأنَّ الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوافق بموجبها العرب على دولة يهودية في فلسطين هي القوة والتفوق العسكري الذي يسحقهم ويذعنهم، ويكون ذلك حسب رؤيته عن طريق الضرب بالقوة المفرطة على نحو يجعل فعل المقاومة في الثقافة العربية عبثياً وغير ممكن.
هذه الرؤية التي مضى عليها 100 عام، والتي لا تزال تؤثر في تصرفات الحكومات الإسرائيلية منذ عام 1948 حتى وقتنا الراهن، يمكن أن تقدم إطاراً مهماً لفهم سياسة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة، تجاه ما يحصل في غزة ولبنان والمنطقة.
إصرار نتنياهو على استخدام القوة الساحقة في حربه المدمرة على قطاع غزة بعد “طوفان الأقصى”، التي أتبعها بهجمات على عدد من مدن شمال الضفة الغربية ومخيماتها، وكذلك لبنان، لا يمكن فهم أسبابه إلا كمحاولة لتطبيق “الجابوتنسكية” القائمة على فكرة “الجدار الحديدي”. فهذه الفكرة لطالما شكّلت إلهاماً لنتنياهو منذ وصوله إلى السلطة عام 1996، لذلك دائماً ما كان يكرر في خطاباته ذكر جابوتنسكي، ويقدّمه على أنّه ملهمه ومرشده الروحي.
فهو يعتقد، في تجسيد حرفي لأفكار جابوتنسكي، أنّ قوة إسرائيل تنبع من “جدار حديدي”، بقوة عسكرية ساحقة تضمن البقاء للدولة اليهودية، وتجبر العرب على قبولها. ومن يتتبع سياسات نتنياهو وأعماله، منذ عقدين من الزمن، يدرك مدى تأثير الجابوتنسكية في سلوك نتنياهو وسياساته. ففي عهده شهدت إسرائيل، وما تزال، نزوعاً جنونياً في استخدام القوة الساحقة والتدمير، كما شهدت تكثيف الاستيطان ورفض التنازل عن أي شبر من الأراضي في الضفة الغربية التي يراها أرضاً يهودية، إلى جانب قتله اتفاقيات أوسلو، ورفضه مبدأ رابين – بيرس “الأرض مقابل السلام”.
خطة إسرائيل الجديدة: إخلاء وتدمير شمال غزة
وبدلاً من ذلك رفع شعار “السلام مقابل السلام”، وركّز على سياسة التطبيع مع الدول العربية، التي يمكن وضعها كجزء من الاستراتيجية الكبرى التي سعى جابوتنسكي لتأسيسها بتأكيد عزلة الفلسطينيين من خلال تشكيل جبهة بين إسرائيل وبعض الدول العربية “المعتدلة” تتجاوز إقامة علاقات دبلوماسية إلى تعاون في مجالات عسكرية وتكنولوجية واقتصادية، لتكوين قوة ساحقة لليهود، وترسيخ عقيدة أحقيتهم بأرض فلسطين.
وعليه، فإن ما يقوم به نتنياهو اليوم من حرب إبادة في فلسطين ولبنان، والقصف العشوائي على الأحياء السكنية والتدمير الكامل للبنية التحتية، والإصرار على ما يسميه بـ”النصر المطلق”، وما قد يترتب عليه من عملية تطهير عرقي، خصوصاً في قطاع غزة، يؤكّد أنّ الهدف الحقيقي لنتنياهو ورموز اليمين المتطرّف في حكومته يتجاوز الأهداف التكتيكية المعلنة، مثل القضاء على حماس والإفراج عن الأسرى في غزة، ووقف جبهة إسناد حزب الله لحماس، إلى هدف استراتيجي، يأتي جزءاً من دينامية الإبادة الجماعية لإعادة فرض “الجدار الحديدي”، الذي كسره “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
لذلك يدفع نتنياهو كثيراً نحو الإبقاء على احتلال قطاع غزة، وربّما إخلاء شماله من السكان وتحويله إلى منطقة عازلة، والعودة إلى الاستيطان في غوش قطيف ومناطق أخرى، إلى جانب دفعه لتكرار احتلال جنوب لبنان والعودة إلى الحزام الأمني، لاستعادة الردع، وإرهاب الخصوم، وإجبارهم على الخضوع التام للسياسية الصهيونية، وعدم الجرأة على مجرد التفكير بمقاومة هذه السياسات.
ختاماً يمكن القول إنّ ما يفعله اليوم نتنياهو في غزة ولبنان ليس نتاجاً للارتجال ولا اختراعاً وليد اللحظة، وإنّما تطبيقاً عملياً للجابوتنسكية، سواء من ناحية اعتماد سياستي الأرض المحروقة وتكسير العظام وسيلة وحيدة لتحقيق الأمن لإسرائيل، أو من ناحية تكثيف الاستيطان ورفض التنازل عن أي شبر من الأراضي في الضفة الغربية التي يراها أرضاً يهودية. لذلك فإن كل ما أقدم عليه ويقدّم عليه نتنياهو ومجموعة العنصريين المتطرفين من أحزاب الصهيونية الدينية في حكومته محكوم برؤية هذا الصهيوني المتطرف لردع العرب بالقتل فالقتل ثم القتل.