غزة

غزة جبهة قتال ثانوية… لماذا؟

اندفاع نتنياهو نحو جبهة الشمال جاء بعد إدراكه وقادته العسكريين عدم إمكانية القضاء على المقاومة، بعد تلك المدة والمراحل من الحرب، واستخدام كل أصناف الأسلحة والأساليب الحربية، وكل أنواع الإبادة، وجاء أيضاً على خلفية اعتقاده بأنه يمكنه تحقيق أهداف حربه الفاشية على غزة.

في خطوة أثارت زوبعة من التساؤلات في الداخل الإسرائيلي، خاصةً في صفوف القيادات الأمنية والعسكرية التي تعارض فتح معركة الشمال؛ قرّرت قيادة الجيش الإسرائيلي اعتبار غزة جبهة قتال ثانوية، وتوجيه الثقل العسكري إلى الجبهة الشمالية لأول مرة منذ بدء عملية طوفان الأقصى، ورأى الكثير من المراقبين والمحلّلين السياسيين أن هذا القرار يحمل في طياته الكثير من التطورات الخطيرة على لبنان أبرزها، إعادة نسخة غزة بكل تفاصيلها من جرائم الإبادة والتهجير القسري، والقصف الممنهج للأحياء المدنية والمربعات السكنية، وتدمير البنى التحتية تحت ذريعة وجود رجال المقاومة وصواريخها ومخازن أسلحتها وعتادها في هذه المناطق، ولعل هذا يتماهى مع تصريحات قادة الكيان المتكررة «بإعادة لبنان إلى العصر الحجري».

في قراءة متأنية لمفردات هذا القرار، نجد أنه يعبر عن الفشل العسكري والأمني الذريع في قطاع غزة، بعد مضي عام كامل على استخدام كل أنواع وصنوف الأسلحة الأمريكية وغيرها، في تدمير القطاع وجعله مكاناً غير صالح للحياة، وإبادة أهله وتهجير من بقي حياً منهم، إضافة إلى أنه محاولةٌ من نتنياهو للتغطية على الإخفاق الاستراتيجي في تحقيق أهداف حربه النازية، وذلك بالهروب إلى الأمام إلى جبهة الشمال، لاسيما لما تعرّض له جيش الاحتلال وآلياته ودباباته من كمائن المقاومة في الآونة الأخيرة، وما حدث ولا زال يجري في مخيم جباليا الذي عاد إليه للمرة الثالثة، وما حصل آنفاً في الشجاعية وحي الزيتون وبيت لاهيا وبيت حانون ورفح وخان يونس وغيرها، هو خير دليل على هذا الإخفاق المتكرر. لقد بات واضحاً أنه بعدما مُنيَ نتنياهو بفشلٍ تلو آخر «يفشل ويعيد»، لجأ إلى جبهة الشمال، لعله يظفر بصورة نصرٍ حرمته منها المقاومة الباسلة والصامدة، في أنحاء غزة، وظناً منه أنها ستكون جبهة سهلة.

من ناحية أخرى يأتي هذا القرار بعد صدور أصواتٍ عديدةٍ داخل القيادات الأمنية والعسكرية وضباط الاحتياط، ومن قبل مسؤولين سياسيين وعسكريين سابقين، تطالب بإيقاف هذه «الحرب العبثية، التي تزهق أرواح الإسرائيليين»، ولم تحقق سوى تدمير المدن والأحياء السكنية وقتل المدنيين، ترافقت هذه الأصوات مع إدراك هؤلاء القادة للروح المعنوية المتدنية، والأمراض النفسية التي يعاني منها جنود الاحتلال، نتيجة ضربات المقاومة المؤلمة والمفاجئة، ومع استمرار قصف الصواريخ التي كان آخرها قصف قلب تل أبيب.

وما رفض نحو 130 عسكرياً الالتحاق بالجيش إلا تأكيد لهذه الحقيقة. أما العامل الأهم في صدور قرار كهذا، يكمن في تأثير قدرة فصائل المقاومة على تغيير تكتيكاتها وأساليب قتالها وأدواتها، وتكيّفها مع الظروف المحيطة وطبيعة الأرض، ما مكّنها من إيقاع المزيد من الخسائر بالأرواح والمعدات، عبر الانتقال إلى حرب استنزافٍ أنهكت قوات الاحتلال. بناءً على تلك المعطيات خشي القادة الصهاينة من إضاعة ما تم إنجازه حتى الآن بوصفه «إنجازات استراتيجية» وليست تكتيكية فحسب.

إن اندفاع نتنياهو نحو جبهة الشمال جاء بعد إدراكه وقادته العسكريين عدم إمكانية القضاء على المقاومة، بعد تلك المدة والمراحل من الحرب، واستخدام كل أصناف الأسلحة والأساليب الحربية، وكل أنواع الإبادة، وجاء أيضاً على خلفية اعتقاده بأنه يمكنه تحقيق أهداف حربه الفاشية على غزة عبر أساليب أخرى ـ كما جرّب ذلك من قبل – مثل الحصار وإغلاق المعابر، ومنع المساعدات، وفصل شمال غزة عن جنوبها، والإمعان في سياسة التجويع والتعطيش، ونشر الأمراض والأوبئة، وبالتالي دفع السكان إلى التهجير القسري.

وفي الوقت ذاته، يعتقد نتنياهو أن ذلك أقل كلفة من وجود هذه الأعداد الكبيرة من الفرق والألوية العسكرية، وبقائها تحت ضربات المقاومة، وهذا من شأنه أن يخفف من حالة الاحتقان والغضب من سياساته في الداخل الإسرائيلي. من جانبٍ آخر، يسعى نتنياهو إلى صرف الأنظار عن جرائمه في غزة بعد العزلة العالمية الكبيرة التي تعاني منها دولة الكيان، إضافة إلى إرضاء الإدارة الأمريكية بتخفيض مجازر الإبادة ضد الغزاويين عشية الانتخابات الأمريكية المنتظرة، لتمكين الديمقراطيين من كسب أصوات معارضي هذه الحرب.

اقرأ أيضا| عام دمار غزة.. ماذا نحن فاعلون؟

إن اعتبار غزة جبهة قتال ثانوية، سيمكن قوات الاحتلال من التفرغ لحزب الله «الذراع الإيرانية الأقوى» لإكمال الإجهاز عليه بعد سلسلة الاغتيالات والضربات الأخيرة التي وُجّهت إليه، وفرض شروط واملاءات دولة الكيان، بالشراكة مع البيت الأبيض والإليزيه، وبعض العرب، بهدف إضعاف دور حزب الله وتأثيره في المشهد السياسي اللبناني، خاصةً ما يتعلق منها بمنصب رئيس الجمهورية، والقرار 1701، ونزع سلاح المقاومة.

وفي السياق ذاته، هي محاولة من نتنياهو للخروج من وحل غزة ورمالها بأقل الخسائر، قبل أن تبتلع مستقبله السياسي، وتنهي حياته السياسية من المشهد الإسرائيلي؛ من دون أن يعني ذلك التخلّي التام عن دور قواته الغازية هناك، بل الإبقاء على عمليات القصف الجوي والمدفعي، واستخدام المسيّرات، والقيام بعمليات محدودة جراحية كالاغتيالات وعمليات الكوماندوز والقوات الخاصة، لاسيما أنه لم تعد هناك أهداف لتدميرها وقد دُمر كل شيء.

ويضاف هنا أيضاً، عامل النقص الحاد في الذخيرة والعتاد والجنود في صفوف الجيش الإسرائيلي، وحاجة القادة العسكريين لتفادي هذا النقص على الجبهة الشمالية، خاصةً بعد الفشل المتكرر بإحراز تقدمٍ بري يُذكر، وعدم قدرتهم على تقدير الموقف العسكري هناك، وسقوط ادعاءات وتبجحات المسؤولين الإسرائيليين بالقضاء على قدرات المقاومة وبنيتها التنظيمية والعسكرية، تماماً مثلما سقطت ادعاءاتهم في جبهة قطاع غزة، حيث لا تزال المقاومة بعنفوانها وقوتها، وقد أعادت تنظيم صفوفها، وضمت الآلاف من الشبان الجدد الى كتائبها المقاتلة، واستطاعت ترميم قدراتها، وأعادت إنتاج القذائف والصواريخ من مخلفات العدو، كما تمكنت وبوتيرةٍ محسوبة ودقيقة جر الجيش الغازي إلى حرب استنزاف رشّدت فيه توظيف السلاح والعتاد.

وما كتبته صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية نقلاً عن مسؤولين عسكريين بأن «الجبهة في مخيم جباليا قد تحتاج إلى أشهر وليس إلى أسابيع، وأنها تحتاج الكثير من قدرات الجيش الإسرائيلي»، يؤكد ما سبق. وبناءً عليه، إن سوء التقديرات هذه تشير إلى فشلٍ آخر يُضاف إلى ملفات فشل نتنياهو وفشل قادته العسكريين.

وسواءً بقيت غزة جبهة قتال ثانوية، أو أي مسمىً آخر، فإنها لا تزال جبهةً مستعرة تكوي جباه الصهاينة وداعميهم، وعلى حدودها تكون الأشياء أو لا تكون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى