الحركة الوطنية الجزائرية والاستعمار
الحركة الوطنية الجزائرية، هي النفي التاريخي للاستعمار الفرنسي، مثلما كانت عليه سائر حركات التحرر في ربوع العالم المقهور كله.
الحركة الوطنية الجزائرية هي ما قبل تاريخ الثورة التحريرية، التي اندلعت في أول نوفمبر 1954، والتي سنحتفل بذكراها السبعين في الفاتح من أكتوبر المقبل. وقد جاءت الحركة الوطنية الجزائرية من صلب التاريخ المعاصر وتداعيات العصر الحديث، مستوفية أهم الشروط والمقتضيات التي توفر لها أن تكون دولة عظمى في نهاية القرن العشرين، ولكن..
الحركة الوطنية الجزائرية، مثلها مثل سائر الحركات الوطنية في العالم الحديث والمعاصر، سعت إلى الحرية والاستقلال، فقد استوعبت، من خلال كفاحها الوطني، بهذا القدر أو ذاك، جملة من المفاهيم والأفكار المؤسسة لوعي سياسي جديد، فالحركة الوطنية الجزائرية، من الناحية التاريخية، تتواصل مع الفكر السياسي الحديث، الرامي إلى تعديل المسار الفاسد للدولة الفرنسية، والاستعمار الأوروبي بشكل عام، بمحاولة ثَنْيِها عن الحكم بأساليب الظلم والحيف والجور.
كان الاستعمار الأوروبي لشعوب ومجتمعات الأطراف، أعلى مراحل الاستغلال للنظام الرأسمالي المتطور، وقد تصدت له الحركات الوطنية بِحَمْله على العودة إلى مبادئ الثورة المدنية الحديثة وشعاراتها المعبرة عن ميلاد عصر الحرية والديمقراطية، ونظام حكم المؤسسات والمواطنين. ومن هنا التلازم الذي نَظَّم العلاقة بين الاستعمار والحركات الوطنية، فمن رحم هذا الصراع ورَحَاه ظهرت نزعة الشعوب المستَضْعَفة والمُحْتلة إلى التَّحرر والاستقلال. فقد لقي الفعل الاستعماري رد فعل الحركات الوطنية، التي استطاعت في نهاية المطاف أن تنتزع استقلالها التاريخي بمعنى بلورة وبناء مقوِّمات الذات، واستقلالها السياسي بالمعنى الذي يشير إلى التطلع إلى إرساء نظام حكم يليق بالسُّكان الأهالي، والانتقال بهم إلى مصاف المواطنة المتماشي مع الدولة الحديثة.
الاستعمار ظاهرة عالمية، استتبع بالتالي أن الحركات الوطنية التي حاربته وقاومته أخذت بدورها البعد العالمي، فتح على إثره المجال للصراعات الدولية والحروب العالمية. النزعة الوطنية Nationalisme، تشير إلى البحث عن الوطن القومي المراد تحريره وترقيته. والوطن القومي يشير بدوره إلى الأرض وإلى الأمة، وكلها مصطلحات تغَذَّت من كفاح ونضال الحركات الوطنية التي عَمِلت على ملئها بالمعاني والدلالات الحديثة. كما أن مفهوم الوطنية في المرجعية العربية صار يتسع في العصر الاستعماري، إلى مقوِّمات الوطن والأمة وتراثهما وكل خصائص المجتمعات الأهلية وسكانها التي لا تكف عن التميز والتباين عن المستعمِر. وفي هذا الجانب، لعبت الحركات الإصلاحية رديف ورافد الحركات الوطنية الدور البالغ في استخلاص الاستقلال التاريخي للشعوب المسلمة.
توكّأت الحركات الإصلاحية، في نشاطها السلمي المسالم، على مقومات الدين، اللغة والتاريخ، كأفضل سبيل إلى استعادة الذات والهوية وبناء الكيان المستقل. وهذه الحقيقة، صارت بينة وواضحة للعيان، في سياق الوضع الاستعماري المؤثر على الطرفين معا مستعمِر ومستعمَر، وفي هذا الصدد يرى الباحث الأنثروبولوجي ارنست جيللنر: «الحقيقة أنه يصعب التمييز بين الحركات الإصلاحية والحركات الوطنية الحديثة.
فالإسلام، كان دائما ينطوي على هذا البعد الخاص، القابل للبحث عن الجديد وإصلاح العقيدة». والواقع أن أصل الحراك قادته النخبة الوطنية والنخبة الإصلاحية، على حد سواء، ولم تكن دائرة كل حركة مغلقة في وجه الأخرى. ففي الجزائر، على سبيل المثال، قاد المثقفون والمناضلون والفاعلون السياسيون والاجتماعيون الفعل الوطني والإصلاحي على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم الثقافية والسياسية، من الاندماجي إلى الثوري الراديكالي، ومن الإصلاحي إلى الاستقلالي، ومن الديني إلى الشيوعي، كلهم كانوا يحيلون، لدعم استحقاقهم الكيان السياسي المستقل، إلى الحضارة الإسلامية ومجدها الغابر، كحجة على وعيهم الحضاري المتحفز، في العصر الاستعماري إلى إعادة بناء كيان عربي وإسلامي جديد.
عموما، إذا كانت المفاهيم والكلمات تستمد معانيها من التجارب والوقائع، فإن الوطنية أيضا من هذا القبيل، التي امتلأت معانيها من التاريخ، خاصة التاريخ الحديث والمعاصر، سواء في العالم العربي، أو العالم الغربي، الذي شهد ثورات في سبيل تحرير شعوبها من ربقة الاستعمار والأنظمة الطاغية العميلة. ولعلّ، ما يمكن أن يستخلص من تجربة حركات التحرر، خاصة لحظة ما بعد الحرب العالمية الثانية، هو شمول حقيقة الوطنية إلى كل الوطن والشعب والرغبة في الاستقلال، والتطلع إلى بناء كيان الدولة القومية أو الوطنية. يرى المفكر والمؤرخ الإنجليزي أريك هوبزبازم، أن الأمة تاريخيا، تعود إلى العهد الحديث، أي إلى لحظة صراع الحركات الوطنية ضد الاستعمار. فالأمة كيان اجتماعي يشير إلى وجود إقليم حديث يعرف بالدولة/ الأمة، ولا معنى لأي حديث عن الأمة في ظل غياب الصلة بين الأمة والتاريخ الحديث.
إقرأ أيضا : النظام الإيراني والاختبارات الصعبة
وتوكيدا لما سبق، يمكن تقديم الشاهد التاريخي على مسألة عمل الحركات الوطنية على إبراز الملامح الوطنية لمجتمعاتها وشعوبها كأول تمهيد لاستحقاق الانعتاق والسيادة. إن الفرنسيين الذين جاءوا إلى الجزائر في إطار التحقيق والمعاينة أو للإقامة أو حتى للسياحة، تواضعوا كلهم على اعتبار السكان الجزائريين يمثلون كيانا مستقلا من الناحية الاجتماعية والنفسية والثقافية عن المعمرين. ولعلّ الذي ساعد أكثر على ذلك هو نظام الحكم الفرنسي الذي تبنى سياسة أهلية تخاطب المسلمين الجزائريين بمجموعة من التشريعات والتدابير عرفت بمدونة الأهالي، تبقيهم ضمن نظام الشريعة الإسلامية، فضلا عن خضوعهم إلى جملة من الإجراءات الاستثنائية ذات الطابع العقابي الزَّجري. امتلكت الحركة الوطنية الجزائرية الوعي السياسي الذي هداها إلى الاستقلال. ولعلّ الاعتبار الحاسم في هذا الوعي، الإجماع الضمني للتشكيلات السياسية والتنظيمات الأهلية على رفض الظلم والإجحاف والجور. فقد تنوعت وسائل الرفض وطرق تقديم المطالب وصياغتها، كما تنوعت البرامج والدعوات، صُبَّت كلها في تحصيل الوعي بالتحرر والاستقلال الذاتي، أي البحث عن الكيان الجزائري الخاص.
وهكذا، فإن الوطنية في الجزائر ارتبطت بالتاريخ الحديث، ومنه على وجه الخصوص بالتاريخ الفرنسي والثقافة الفرنسية، فقد انصهرت النزعة الوطنية في إرهاصاتها الأولى، بالتجربة اليسارية الفرنسية في بعدها المعادي للاستغلال والظلم الاجتماعي والسياسي، وكذلك في بعدها الأممي والإنساني الداعي إلى تعميم قيم ومبادئ وجماليات وأفكار الحداثة في سائر العالم. فالوعي السياسي للنخبة الوطنية الجزائرية تبلور من خلال تعاملها مع المجال الفرنسي، ومنه استقل بتمايزه المتطلع دائما إلى البحث عن الكيان الوطني الذي تزدهر فيه شخصية الجزائريين. وعلاوة على النزعة الوطنية في مدلولها الشعبوي الثوري والاستقلالي هناك رافد آخر، يؤازر بشكل عضوي الحركة الوطنية في مدلولها العام، وهي الحركة الوطنية التي بررت وجودها بالدعوة إلى الوطن الجزائري واللغة العربية والدين الإسلامي. فقد ارتقت الحركة الإصلاحية الجزائرية بهذه الدعوة إلى الخطاب الوطني بتجاوز الوضع الطرقي والنزعة الاندماجية الانصهارية في الكيان الفرنسي الخالص.
وصفوة القول، إن الحركة الوطنية الجزائرية، هي النفي التاريخي للاستعمار الفرنسي، مثلما كانت عليه سائر حركات التحرر في ربوع العالم المقهور كله. فإذا كانت النزعة الاستعمارية قد سعت إلى اختزال العالم إلى مركز وأطراف، فإنها أدت أيضا إلى نزعة عالمية لمواجهة الاستعمار نفسه، أي عالمية المقاومة والكفاح كأفضل سبيل إلى استحقاق الكيان الشرعي المستقل.