إنهاء الصراع في أوكرانيا وفق “النموذج الألماني”
هذه الخطة، التي يتم مناقشتها في دوائر صنع القرار في أميركا والدول الأوروبية الكبرى، والتي أطلقت عليها صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية "نموذج ألمانيا الغربية"، تعد إقراراً من الغرب بفشل رهاناته على إضعاف روسيا وعزلها
تتزايد التقارير الواردة في الصحف الأميركية والأوروبية التي تتحدث عن خطة غربية لإنهاء الصراع في أوكرانيا، تنص على اعتراف كييف بالسيادة الروسية على المناطق التي سبق أن أعلنت انضمامها إلى الاتحاد الروسي، مقابل انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، أو على الأقل الحصول على ضمانات أمنية بالحماية منه.
هذه الخطة، التي يتم مناقشتها في دوائر صنع القرار في أميركا والدول الأوروبية الكبرى، والتي أطلقت عليها صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية “نموذج ألمانيا الغربية”، تعد إقراراً من الغرب بفشل رهاناته على إضعاف روسيا وعزلها، ورضوخاً للشروط الروسية التي اختصرها رئيسها فلاديمير بوتين في اثنين: الاعتراف بالسيادة الروسية على المناطق الشرقية، وضمانات حول حياد أوكرانيا.
الاعتراف بالوقائع
نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية في الأسبوعين الماضيين عدة تقارير حول الخطة الغربية لإنهاء الصراع في أوكرانيا. أشار أول هذه التقارير إلى أن تأثير النقص الحاد في القدرات البشرية والقوة النارية، وتراجع الدعم الغربي عن مستوياته السابقة، دفع حكومة كييف إلى خوض مفاوضات وإجراء نقاشات مع حلفائها الغربيين حول الاعتراف بالسيادة الروسية على المناطق التي سيطر عليها الجيش الروسي في الشرق، مقابل حصولها على ضمانات غربية معينة. وفي الأصل، فإن هذا المقترح يشكل أحد الشروط الأساسية التي طالب بها الرئيس الروسي من أجل عملية السلام.
اقرأ أيضا.. هل لدى بوتين ما يكفي من القوات لهزيمة أوكرانيا وحماية روسيا؟
وذكرت الصحيفة نفسها في تقرير ثانٍ، استندت فيه إلى مصادر سياسية ودبلوماسية، أن القوى الغربية البارزة تناقش منذ عدة أشهر، وبشكل متزايد، مقترحاً يقضي باعتراف أوكرانيا بالسيادة الروسية على بعض المناطق في الشرق، مقابل الانضمام إلى “الناتو”. وأشارت الصحيفة إلى أن هذا المقترح يعيد إحياء “النموذج الألماني” الذي استمر قرابة أربعة عقود، حيث انقسمت ألمانيا حينذاك إلى جمهوريتين: ألمانيا الغربية، التي كانت جزءاً من التحالف الغربي وعضواً في “الناتو”، وألمانيا الشرقية، التي كانت جزءاً من المنظومة السوفياتية وعضواً في “حلف وارسو”.
ومع أن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي وصف الخطة في تعليق له بأنها “هراء”، إلا أن المؤشرات حول جديتها تتوالى، حيث تشير التقارير والتسريبات الإعلامية إلى أن القوى الغربية ترى أن “الضمانات الأمنية الهادفة” تمثل حلاً معقولاً يمكن أن يؤسس لإنهاء النزاع، بحيث تحصل كييف على ضمانات أمنية مقابل اعترافها بالسيادة الروسية على المناطق الشرقية. علاوة على ذلك، فقد تحدث الأمين العام السابق لـ”الناتو” ينس ستولتنبرغ في تصريحات صحفية عن إمكانية قبول أوكرانيا في الحلف من دون الأراضي التي أصبحت تحت سيطرة روسيا.
بين الناتو والاتحاد الأوروبي
في المقابل، ذكرت صحيفة “كورييري ديلا سيرا” الإيطالية أن كييف مستعدة لوقف النزاع من دون الاعتراف رسمياً بالسيادة الروسية على المناطق الشرقية، مقابل حصولها على ضمانات أمنية مقبولة من “الناتو”. والأهم قبول انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وهو بند إشكالي في ظل الشروط الأوروبية المعقدة، لكنه يمثل طموحاً أوكرانياً قديماً.
وبينت الصحيفة أن جولة الرئيس الأوكراني الأخيرة على برلين وباريس وروما كانت بهدف الحصول على ضمانات من هذه العواصم الثلاث بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بشكل يضمن خروج أوكرانيا من النزاع “دون أن تجثو على ركبتيها”. وتستند هذه الضمانات الأمنية التي تطالب بها كييف إلى نماذج من الضمانات الأمنية المماثلة التي سبق أن قدمتها واشنطن إلى كل من اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين.
كذلك، ذكرت صحيفة “الباييس” الإسبانية الواسعة الانتشار أن الحكومة الأوكرانية تتعرض إلى ضغوط من حلفائها للموافقة على اتفاق ينهي الصراع. وأشارت إلى تجاهل واشنطن والعواصم الأوروبية الخطة العدوانية التي طرحها الرئيس الأوكراني. كل ذلك يشكل مؤشراً بارزاً على جدية النموذج المطروح، خصوصاً مع احتمال وصول الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض من جديد، وتنفيذه الخطة عينها، وهو الذي تحدث عنها أكثر من مرة. كما أنه يعكس حجم القناعة الغربية بضرورة التكيف مع الوقائع الميدانية، والاستجابة للشروط الروسية، حتى ولو كان ذلك بطريقة غير مباشرة، المهم أن يفضي ذلك إلى إنهاء الصراع.
غموض أميركي
تتسق التسريبات والتقارير الإعلامية الأوروبية مع تقارير في الصحف الأميركية تتحدث عن غموض واسع حيال استمرار الدعم الأميركي الهائل لكييف من عدمه في الفترة المقبلة، ولا سيما في ظل الأجواء الانتخابية الحامية، وحالة اللايقين السائدة في أوساط الإدارة الأميركية.
حالة الغموض هذه تحدثت عنها صحيفة “واشنطن بوست” في أحد تقاريرها، وأشارت إلى أن زيارة زيلينسكي الأخيرة إلى واشنطن كانت نتائجها مخيبة لآمال كييف، التي لمست تراجع اهتمام واشنطن بها إلى حد كبير. بالإضافة إلى فشل زيلينسكي في انتزاع موافقة الرئيس الأميركي جو بايدن على إزالة القيود التي تمنع الجيش الأوكراني من استخدام الصواريخ الأميركية لضرب الأراضي الروسية، الأمر الذي يؤيد فكرة وجود توجه أميركي لتبني خطة إنهاء الصراع.
كذلك، تحدثت صحيفة “واشنطن بوست” في تقرير آخر، بالاستناد إلى مصادر سياسية ودبلوماسية، عن وجود حزمة إغراءات أميركية تعتزم واشنطن عرضها على كييف في اجتماع “مجموعة الاتصال” في قاعدة “رامشتاين” في ألمانيا الأسبوع المقبل. وإذ أشارت الصحيفة في التقرير نفسه إلى أن انضمام أوكرانيا إلى “الناتو” قد يكون إحدى الخيارات المطروحة ضمن الحزمة الأميركية، إلا أن ذلك لا يسهل عملية إنهاء الصراع، في ظل تشدد موسكو حيال هذه الفكرة، والتي كانت السبب الرئيس في اندلاع الصراع بعد نشر “الناتو” صواريخ وأسلحة قرب الحدود الروسية، وزرع عشرات أجهزة التنصت في الغابات القريبة، بما يعد تهديداً جدياً وخطيراً للأمن القومي الروسي.
وعليه، فإن فكرة الضمانات الأمنية المقدمة من “الناتو” إلى كييف قد تكون مقبولة أكثر من قبل موسكو، لكن ذلك يستوجب مناقشة تفاصيل هذه الضمانات مع حكومتها للحصول على موافقتها. فهل تقدم الحكومات الغربية على هذه الخطوة الحاسمة التي تقرب عملية إنهاء النزاع المستمر منذ شباط (فبراير) 2022؟