تكرار لحروب التحرير.. وفرص الدولة الفلسطينية
حرب غزة اليوم "مختبر" لتكرار الحروب والفرص وبقاء التوجهين في الساحة، فأهل الحق التاريخي يريدون كل فلسطين من البحر إلى النهر مهما يكن الثمن ومهما طال الزمن وتعددت الحروب والتضحيات، وأصحاب الضرورات التي تبيح المحظورات يميلون إلى اغتنام أي فرصة متاحة لأخذ الممكن من الحق قبل أن يضيع كل شيء
في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي تكرار للحروب والفرص. والسائد كان ولا يزال توجهان، أحدهما التيار المصر على الحق التاريخي في فلسطين وموقفه كما وصفه الحبيب بورقيبة هو، كل شيء أو لا شيء، والأخير التيار الذي يعتبر أن الواقعية السياسية التي تضع في حساباتها موازين القوى الإقليمية وموازين المصالح الإقليمية والدولية تفرض “أخذ الممكن” مع أو من دون شعار بورقيبة، خذ وطالب.
حرب غزة اليوم “مختبر” لتكرار الحروب والفرص وبقاء التوجهين في الساحة، فأهل الحق التاريخي يريدون كل فلسطين من البحر إلى النهر مهما يكن الثمن ومهما طال الزمن وتعددت الحروب والتضحيات، وأصحاب الضرورات التي تبيح المحظورات يميلون إلى اغتنام أي فرصة متاحة لأخذ الممكن من الحق قبل أن يضيع كل شيء، ولا مجال لردم الهوة بين التوجهين ولا بد من أخذ العبر من دروس التاريخ.
عام 1947 كانت هناك فرصة لقيام دولة فلسطينية على 54 في المئة من فلسطين عبر مشروع التقسيم إلى دولتين، عربية ويهودية بتأييد من أميركا وأوروبا والاتحاد السوفياتي. ديفيد بن غوريون وافق على مشروع التقسيم ضد تيار مناحيم بيغن وتلاميذ جابوتنسكي الذين يريدون كل فلسطين ومعها شرق الأردن، وقال لرفاقه، “الحصول على دولة أهم من حدودها”. الفلسطينيون والعرب رفضوا المشروع على أساس أن فلسطين “وقف إسلامي”، وتقرر دخول الجيوش العربية إلى فلسطين عام 1948 لإزالة الدولة اليهودية التي أعلن بن غوريون قيامها.
لكن اللعبة في الكواليس كانت مختلفة بناء على اتفاقات سرية. حتى المندوب السوفياتي في مجلس الأمن أندريه غروميكو الذي أصبح وزيراً للخارجية ولقبه “المستر نيتّ” أو “السيد لا”، فإنه لم يتردد أمام المجلس في الـ29 من مايو (أيار) 1948 في “اتهام الدول العربية بتنظيم غزو لفلسطين وتجاوز قرارات المجلس المرسومة على أساس وضع نهاية للحرب”، وصار ما صار.
بعد “عاصفة الصحراء” والمؤتمر الدولي في مدريد ومفاوضات التسوية بدا “اتفاق أوسلو” عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل فرصة لمسار دولة فلسطينية على مساحة 28 في المئة من أرض فلسطين، لكن المناورات الإسرائيلية التي جوهرها رفض الدولة وألعاب القيادات الفلسطينية وضعت حداً للفرصة.
اليوم بعد77 عاماً من قيام إسرائيل تلوح الفرصة من جديد، فحرب غزة بين طرفين ضد “حل الدولتين” هما إسرائيل وحركة “حماس” ومحور المقاومة بقيادة إيران، غير أنها فتحت الباب أمام إجماع عربي ودولي على تحقيق “حل الدولتين” بقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية في الضفة والقطاع.
هذا ما تعمل له إدارة الرئيس جو بايدن والقيادات الأوروبية والروسية والصينية، وما طالبت به القمة العربية والإسلامية في الرياض، وهو الشرط الذي وضعته الرياض بصورة واضحة وحاسمة قبل قيام أي علاقات دبلوماسية بين المملكة وإسرائيل تصر عليها أميركا. فهل تضيع الفرصة من جديد؟
المشكلة كانت ولا تزال هي تطرف اليمين الإسرائيلي الرافض لقيام دولة فلسطينية الذي تمثل حكومة نتنياهو أقصى أطرافه المتطرفة. وكانت أيضاً عجز الطرف العربي عن فرض التسوية ودفع أميركا وأوروبا والصين وروسيا بقوة مصالحها في العالم العربي إلى الضغط على إسرائيل للتسليم بالدولة الفلسطينية كعمود للاستقرار في المنطقة وضمان الأمن للفلسطينيين والإسرائيليين، وحكومة نتنياهو اتخذت قراراً ضد أي دولة فلسطينية.
ولا أحد يعرف إن كانت الفرصة ستتكرر مرة أخرى، لكن الكل يعرف أن الحرب الدائمة للتحرير هي مشروع قرن وأن ما يحفز على اغتنام الفرصة هذه المرة قوي.
وأبسط ما يكشف الواقع هو قول الروائي الإسرائيلي عاموس آوز، “الشعبان يعرفان أن السلام عملية جراحية مؤلمة، وهما مستعدان لها، لكن الأطباء أي القادة لا يمتلكون الجرأة على إجرائها”. وما أقوى العواصف الرملية في الشرق الأوسط حيث فقدان الرؤية.