انتحار الجندي الأميركي.. ورسائل الزي العسكري
غالبية الشعوب العربية والمسلمة، يتحكم في رقابها وحراكها، "حُكام مستبدون".. هؤلاء الحكام يؤمنون بأن سيد البيت الأبيض الأميركي، هو المُتحكم في الكون، وأنه فعال لما يريد. لذا، فقد اختاروا دعم الشعب الفلسطيني.
جاء إقدام الجندي بسلاح الجو الأميركي آرون بوشنل (25 سنة)، على إشعال النار في نفسه، أمام السفارة الإسرائيلية بالعاصمة الأميركية واشنطن (الاثنين الماضي)، بمثابة صرخة عالية، إدانةً للإدارة الأميركية في دعمها العدوانَ الصهيونيَّ على قطاع غزة.
وهي صفعة مدوية للرئيس الأميركي جو بايدن- وإدارته- للسقوط المُخجل؛ أخلاقيًا وإنسانيًا، وقانونيًا، بالمُشاركة الفعلية لبلاده عسكريًا، وسياسيًا، ومعنويًا، في حرب الإبادة الجماعية- غير المسبوقة- التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي، على سُكَان “قطاع غزة”، المُحاصر كُليًا مُنذ 18 عامًا.
رسائل الزي العسكري
الجندي الأميركيّ، أعلن عبر منصة للتواصل الاجتماعي، قبل شروعه في إنهاء حياته حرقًا، أنه على وشْك تنفيذ “عمل احتجاجي” شديد القسوة، منوهًا بأنه (العمل)، لا يساوي في قسوته، مُعاناة الفلسطينيين على يد الاحتلال، الذي تدعمه الطبقة الحاكمة الأميركية.
اختار “الحرق”، وهو أعنف وأقسى “الوسائل” على الإطلاق، التي يمكن لإنسان أن يُقدم عليها، لإنهاء حياته، بمادة شديدة الاشتعال سكبها على نفسه. “بوشنل” في ارتدائه الزيَّ العسكري للمرة الأخيرة، مُنهيًا حياته، لابد أنه أراد مُخاطبة العالم.. لافتًا إلى أن “إدارة بلاده”، تفتقد الإنسانية، والأخلاق، والشرف بهذا الدعم العسكري غير المسبوق.
إنه أراد النأي بنفسه- كإنسان- عن السقوط في هذا العار، حتى ولو كان الثمن هو أن يضحي بحياته حرقًا. يؤكد هذا المعنى، ما بثه (الجندي النبيل)، على صفحته من كلمات مودعًا الحياة، قائلًا: إنه مجنّد بالقوات الجوية الأميركية، ولن يكون متواطئًا في جرائم الإبادة الجماعية بعد الآن.
تجسّس أميركي وبريطاني
يبدو، أن نشاط بوشنل، وعمله في إدارة تكنولوجيا المعلومات والتخابر بقوات بلاده الجوية، أتاح له ذلك الوقوف على اتصال الجيش الأميركي، ومشاركته في أعمال الإبادة الجارية في غزة، وأن هذه المشاركة فاعلة ونشطة؛ ما حدا به إلى إعلان رفضه التواطؤَ في هذه الجرائم.
معلوم، أن أميركا وبريطانيا منخرطتان في أعمال تجسس ومراقبة- لا تنكرانها – للقطاع ليلًا ونهارًا؛ إسنادًا للكيان الصهيوني، في إبادة الفلسطينيين.
رسالة أخرى أرادها “آرون”، من الزي العسكري، هي توثيق انتمائه للجيش الأميركي، بما يعني- حتمًا- خضوعه لاختبارات دورية تقطع بسلامته البدنية، والعقلية، والنفسية، وإلا لتمَّ تسريحه، من الخدمة العسكرية.
تعتيم أميركي
ويؤشر على إدراكه أنّ “إدارة بايدن”، الغارقة في الكذب والنفاق، ربما، لن تتورع عن وصمه بأنه مختل عقليًا، أو نفسيًا، بعد مماته، على غرار سلوك حكومات العالم الثالث في مثل هذه الحالات، لذا، فقد احتاط آرون- بالزي العسكري-، لقطع الطريق على الإدارة الأميركية للتورط في أي محاولة من هذا النوع، لا سيما، أن هذه الإدارة لا تتورع عن الكذب والغش والتدليس؛ تبريرًا لحروبها الاستعمارية والعنصرية، التي لا تنتهي للسيطرة على العالم، ومنها الحرب على غزة.
وسائل الإعلام الأميركية حاولت التعتيم على واقعة انتحار الجندي الأميركي ودوافعها، خصامًا للمهنية والمصداقية، لولا أن وسائل التواصل الاجتماعي، لم تترك لها الفرصة، وفضحت الأمر كله، فلم يعد الإعلام حكرًا على الوسائل التقليدية من صحافة وتلفزيون.
شعور بالقهر
لا أحد يعلم شيئًا، مما دار في عقل ونفس هذا “الجندي الأميركي”- الذي يتمتع بأخلاق الفرسان، وضمير نابض بالحياة – قبل أن يتخذ قراره بمغادرة الدنيا. لابد، أنه يُعاني منذ بداية الحرب على غزة، أو خلالها- مثلنا نحن العربَ والمسلمين – من الشعور بالقهر، والظلم، والخنوع والكمد، نتيجة قلة الحيلة، والعجز عن مد يد العون والإغاثة والنجدة، لهؤلاء البشر الذين يُبادون أمام أعين الكون كله.
الجميع، وأولهم بنو جلدتهم العرب والمسلمون يكتفون بالفُرجة على “المشاهد” شديدة البشاعة المتوالية أمام عيونهم على الشاشات، طوال ساعات اليوم.. حتى إنها صارت مُعتادة، ومألوفة رغم فظاعتها ووحشيتها التي فاقت كل وصف.
غالبية الشعوب العربية والمسلمة، يتحكم في رقابها وحراكها، “حُكام مستبدون”.. هؤلاء الحكام يؤمنون بأن سيد البيت الأبيض الأميركي، هو المُتحكم في الكون، وأنه فعال لما يريد. لذا، فقد اختاروا دعم الشعب الفلسطيني القابع تحت النار في غزة، بمجرد كلمات وبيانات باهتة فارغة المضمون، بلا فاعلية أو تأثير.
كما أنهم أحكموا التسلط على شعوبهم، لمنعهم حتى من التظاهر والتعبير عن تضامنهم مع أهل غزة، للتنفيس عما في نفوسهم من براكين تغلي.
تربية مثالية
مشكلة هذا الجندي الكريم الذي جاد بروحه، هي نشأته في مؤسسات التعليم الأميركية، التي أكسبته قيمًا ديمقراطية، وأخلاقًا محمودة، بأن يكون إيجابيًا، متعاونًا، متفاعلًا مع المجتمع، مؤمنًا بحقوق الإنسان، وحرياته، واعيًا بفكرة التعايش الإنساني، واحترام الآخر، وأنه من خلال التعاطي مع الآخرين، بمقدوره أن يغير العالم للأحسن.
مع وعي الجندي الأميركي آرون بوشنل بممارسات “الطبقة الحاكمة الأميركية” في حرب غزة.. التي أشار إليها في كلماته الأخيرة، قُبيل الرحيل، والتي اختتمها بـ “فلسطين حرة”، اكتشف أن هذا “البلد” الذي يعيش فيه، ليس بهذه “المثالية” التي تربى ونشأ عليها في المدارس.
وقع الصدمة
بحكم عمله في القوات الجوية؛ عرف وأيقن أن بلاده تمارس الإبادة لـ “بني البشر” الذين تربى على احترام حقوقهم والتعايش معهم. أدرك أنه ليس بمقدوره “تغيير العالم” كما أفهموه صغيرًا، ولا تعديل مسلك حكومته ولا جيشه الداعم جرائمَ الاحتلال الإسرائيلي.
فكانت “الصدمة”، شعور بالقهر والعجز- مثلنا – عن تغيير الواقع.. زاد من وقعها عليه صفاء النفس والقلب لمن كان في عُمره (آرون بوشنل).
هنا قرر الرحيل، مغادرًا الدنيا التي أغرقتها بلاده فتكًا ودمارًا وتقتيلًا في غزة، وغيرها. كان لابد أن يرحل إلى عالم آخر، يخلو من الاحتلال، والإبادة للبشر.
رحيل آرون بوشنل، بهذه الطريقة.. هو انتحار للنُبل والشرف والمروءة والإنسانية الراقية التي يمثلها هذا الرجل الشريف.
فتحيّة للجندي الأميركي آرون بوشنل، والسلام لروحه.