ماذا عن فكّ الارتباط مع المشروع الإيراني؟
الحرب مفتوحة على احتمالات متنوّعة، قد تمتد سنوات فتقضي على ما تبقّى في دول المواجهة من قدرة على البقاء، دولاً منهارة وشعوباً منتهكة
التطوّرات الكارثية والمفاجئة التي تحصل اليوم، خصوصاً بالنسبة إلى هذا الاختراق الكبير لحزب الله في لبنان، وفي إيران أيضاً، وإصرار إسرائيل على تأكيده وتطبيق جدواه في الواقع بالاغتيال المتلاحق لقيادات حزب الله، يحيلنا إلى سؤال جوهري ومحق: إذا كان الحزب قد رسّخ، منذ إعلان تأسيسه في العام 1982، حالةَ الولاء المطلق حدّ التقديس للقائد، مثّله بشكل رئيس الأمين العام الراحل حسن نصر الله، على مستوى القاعدة والجمهور التابع له، فهل كانت هذه السياسة تُمارَس بين كوادر الحزب؟ هل كانت هناك مشاورة في اتخاذ القرار على مستوى القيادة، أم هناك شخص مُتفرّد بالقرار، أو أنّ القرار بالمطلق يأتي من طهران؟
خاض حزب الله حرباً حقّقت للشعب اللبناني شعوراً بالانتصار في العام 2000، أمّا ما حصل منذ العام 2006، فكان فرض حزب الله نفسه شريكاً سياسيّاً، إنّما ذا نفوذ بقوة تسليحه التي اشتغل عليها منذ ذلك التاريخ، في وقتٍ كان فيه ارتباطه العضوي بالنظام الإيراني يزداد متانةً وقوةً، وخرج دوره من النطاق الوطني، كما حصل في العام 2000، إلى أن يربط رسالته ومشروعه بالمشروع الإيراني، بزعم محاربة إسرائيل والدفاع عن فلسطين شعباً وأرضاً ومقدّسات. صار حزب الله مؤسّسة قوية تضاهي دولةً ضمن دولة، لها مواردها وامتداداتها خارج لبنان، واستراتيجيتها وتكتيكاتها، وصادر القرار اللبناني (هذا واقع لا يمكن إغفاله)، بصرف النظر عن الطروحات المُعارِضة، وعن الرؤية التي تتبنّاها قوىً أخرى في لبنان، إنّما لا يجوز تجاهل، ضمن البلد الواحد، ضرورةَ أن تشارك كلّ الشرائح والفئات في صنع القرار، إن كان في السياسة الداخلية أم الخارجية، خاصّةً في قرارات الحرب.
ضعفت الدولة اللبنانية، وقوي حزب الله تسليحاً وتنظيماً ونفوذاً وسيطرةً، فمن الطبيعي أن يكون سؤال المصير الشغل الشاغل لكلّ فرد في هذه المنطقة الملتهبة، وهذا من حقّه، خاصّةً بالنظر إلى تصاعد العنف وتواتر الغارات والتدمير واغتيال قادة حزب الله، والسؤال حول عدم وجود خططٍ بديلةٍ بالنسبة إلى القادة العسكريين المُستهدَفين، وذلك ببقاء اجتماعاتهم في مقارّها نفسها، المكشوفة إسرائيلياً.
هل يمشي حزب الله، بأعلى مستوياته القيادية، إلى حتفه بقدميه ما دام أنّ الاختراق وصل إلى العظم، حتّى أن إسرائيل التي أعلنت عن الغارات أخيراً على الضاحية، ووُصِفت بأنّها الأعنف، قالت إنّ المُستهدَف هو هاشم صفي الدين، المُرشّح لخلافة نصر الله، إنّما لم تُعطِ تصريحاً حول نجاح استهدافه، أو فشله، ومن الواضح أنّها تنتظر التأكيد من عيونها القريبة من مكان الحدث، العيون التي زرعتها في جسد القيادة والقاعدة أيضاً؟ وماذا عن شعوب المنطقة، والشعب اللبناني تحديداً، في حال كان يمشي إلى حتفه بقدميه؟
كي لا يقال إنّ نظرةً من هذا النوع انهزامية تشاؤمية، فإنّ طرح الأسئلة أمر طبيعي لدى أيّ مراقب واقع تحت النار، أولها سؤال الغد، ماذا بعد؟ هل علينا التفاؤل والإيمان بالغد أمام هول ما يجري؟ … واقع المنطقة كارثي، غزّة المدمّرة، والضفّة الغربية التي يتصاعد فيها العنف والاستهداف وتغوّل المستوطنين، ولبنان الرازح تحت مشاكله الوجودية، منذ الأزمة الاقتصادية والمالية حتّى تفجير المرفأ، ثمّ جائحة كورونا، والنُخبة السياسية مُعطَّلة، من غلق مجلس النواب إلى حكومة تصريف أعمال، إلى شغور كرسي رئاسة الجمهورية منذ عامَين، وآخرها هذه الحرب التي تحيل مناطق الجنوب مناطقَ خاليةً من السكَّان تحت تهديد الدمار الشامل، عدا تدمير الضاحية الذي ربّما يمتدّ إلى مناطقَ أوسع في العاصمة بيروت، ومئات آلاف النازحين هائمين على وجوههم من دون قدرة الدولة على تأمين حاجياتهم في حدّها الأدنى، والمدن اللبنانية غير مجهّزة من ناحية الملاجئ أو البنية التحتية أو الإمكانات اللوجستية، علماً أنّها في حالة حرب منذ عقود. بينما الجيش اللبناني أُضعِفَ حتّى لم يعد قادراً إلّا على حماية الأمن الداخلي، فماذا لو استدرجته إسرائيل إلى الحرب؟
سورية منهكة بعد حرب أوشكت على إكمال عقد ونصف العقد، مقسَّمة بين جيوش عديدة، وسلطات مختلفة، مُصادَرة القرار، مُستباحة أيضاً من إسرائيل، التي لم تتوقّف عن القصف منذ أن أصبحت إيران حاضرةً بقوة في سورية، والنظام يعمل على النأي بنفسه عن التورّط في حرب ليس مُؤهَّلاً لها، وقد تكلّفه وجوده. إذا فكرنا في الغد، وتخيّلنا بعض السيناريوهات أو المآلات، خاصّةً أنّ إسرائيل ماضيةٌ في التصعيد، وتهدّد بجعلها حرباً مفتوحةً، على الرغم من التحفّظات الأميركية والغربية، إلّا أنّ بنيامين نتنياهو لا يأبه بأيّ تحذير من رُعاته. كيف يأبه وهو يعرف أنّ إسرائيل لا يمكن أن تُغرّر بها أميركا وحلفاؤها، أميركا التي لم تتوقّف عن إرسال الأسلحة إليه ليقتل بواسطتها الفلسطينيين في غزّة، وحالياً في الضفّة الغربية؟
هل الأمر متعلّق فعلاً بالصراع بين إيران وأميركا وحلفائها؟. …
إقرأ أيضا : دلالات ظهور بايدن المفاجئ وتحذيراته!
من الواضح أنّ إيران لا تميل إلى التصعيد، وهي تدير ردودها على إسرائيل بصبرٍ وتروٍّ، على الرغم من الضربات الموجعة التي تتلقاها في حلفائها، مادّياً ومعنوياً، وتحاول ألا تنجرّ إلى حرب مفتوحة. هناك من يقول إنّها بضربها أخيراً إسرائيل كشفت عن تطوّر قدراتها العسكرية، هذا لا يعدو رؤيةَ الموقف من وجه واحد، بينما له وجوه عديدة، فاختبار قوتها الدفاعية لم يحصل، بينما أثبتت إسرائيل تفوّقها التكنولوجي والرقمي والاستخباراتي. هذا ما أثبتته تجارب عدّة، واعتداءاتٌ وانتهاكاتٌ قامت بها منذ اغتيال إسماعيل هنيّة في طهران، تلاه اغتيال قيادات حزب الله على التوالي، إضافة إلى عامل آخر مهمّ أيضاً، وهو أن إسرائيل مستهترة بالقواعد والقوانين والقرارات الدولية كلّها، ولا يهمّها إحراج حلفائها الظاهر أمام تماديها واستهتارها هذا. وهي في الوقت نفسه حصّنت مواطنيها بتأمين بنية تحتية تحميهم في فترات الحرب، فحتّى الشمال، الذي تدعي إسرائيل أنّ أحد أهم أسباب استهدافها حزب الله والسعي إلى تدمير قوته العسكرية وبنيته التحتية هو ضمان عودة سكّانه إلى بيوتهم، فإنّ سكّانه هؤلاء لا يعانون مثل النازحين من سكّان المناطق المُستهدَفة في الحرب، فما زال المواطن الإسرائيلي يتلّقى الخدمات كلّها، لم يتأثّر التعليم، لم تتأثّر الرعاية الصحّية، لم تدمّر البنى التحتية لمدنه، في مقابل المواطنين من غزّة إلى الضفّة إلى لبنان، حتّى إلى سورية، التي لن تنجو بالمطلق في حال تصاعد العنف حرباً مفتوحةً.
الحرب مفتوحة على احتمالاتٍ متنوّعة، منها أن تمتدّ سنوات فتقضي على ما تبقّى في دول المواجهة من قدرة على البقاء، بل هي بالفعل تمشي متسارعةً باتجاه أن تكون دولاً منهارة وشعوباً منتهكة، أجيالها الحالية في حالة عطالة قاتلة، لا مدارس، لا تعليم، لا صحّة، لا عمل، لا اقتصاد، لا بنى تحتية، لا مشاريع، لا خدمات، لا شيء من مقوّمات الحياة، بينما إسرائيل مهما عانت ودفعت من كلفة في هذه الحرب، وفي حروبها المستقبلية، فسوف تكون معاناتها محدودةً، ما دام أنّ الدول الحليفة والراعية لها، وهي دول قوية، لن تتوقَّف عن دعمها على المستويات كلّها، خاصّةً على أن يتعافى اقتصادها الذي تأثّر في هذه الحرب، إنّما هناك فرق بين التعثّر والانهيار. إسرائيل لا تقلق من المستقبل، فلديها ما يكفي من المطمئنات، بينما دول المواجهة؛ سورية، لبنان، ومن بعدهما اليمن والعراق، لن تنهض في المنظور القريب.
هذا إذا استثنينا ما يمكن أن يزيد من التعقيد وأسباب عدم النهوض، وهو الانفلات الأمني والفوضى، فهذا التعاطف الذي نراه بين معظم شرائح الشعب اللبناني لا يمكن الرهان عليه على المدى الطويل، هذا ليس طعناً في مصداقية المشاعر الإنسانية والأخلاق والشعور الوطني لدى اللبنانيين، إنّما هو رؤية واقعية تفرضها المعطيات الحالية، فإلى أيّ مدىً يستطيع الشعب اللبناني الصمود بإمكاناته المحدودة، وفي ظلّ حكومة عاجزة تقريباً؟
الوضع في سورية مختلف، لأنّ أسباب الفوضى والاقتتال البيني جاهزة، والشعب السوري الذي ذاق ويلات الحرب في السنوات المنصرمة، لم يذقها من عدو خارجي، لقد كانت حرباً بين مكوّنات الشعب، أدّت إلى دقّ الأسافين في ما بينها، واستُنزِف الجيش في هذه الحروب. إن كانت إيران وتماديها في المنطقة، برفعها شعار الموت لإسرائيل وأميركا، قد استدرجت دول المواجهة إلى خوض حرب تحت إدارتها، فإنّ حربها أبعد من ذلك، وبالتالي صارت الهدف الاستراتيجي لإسرائيل، لاستهداف خطوط إيران في المنطقة، ومن خلفها أميركا وحلفائها، فمن الحكمة التفكير في طرائق بديلة، في فكّ الارتباط مع المشروع الإيراني، والعمل على مشروع بديل، مستقلّ، من دون ارتهانات خارجية. هذا ما يُفكّر به جزء كبير من شعوب هذه المنطقة، حتّى لو كان بعضهم لا يجرؤ على المجاهرة به.