لماذا الأزمة الفرنسية مهمة؟
غضب اليسار، الذي يوصف في الإعلام الفرنسي بالراديكالي، والذي يمثله ميلانشون (وضع علم فلسطين خلفه خلال فعاليته الأخيرة) مفهوم. ميلانشون، غير المحبوب في الوسط السياسي الرسمي، كان يبشر بفرنسا جديدة متصالحة مع مستعمراتها ومتعاملة مع الجميع بندية واحترام
تضج منطقتنا العربية ومحيطها الإقليمي هذه الأيام بالكثير من الأحداث، التي تستوجب التوقف عندها، خاصة في ظل تمدد العدوان الإسرائيلي، الذي يتخطى كل الحدود، ما يجعل سؤالاً يتبادر إلى الذهن حول سر الاهتمام بما تشهده فرنسا منذ أسابيع متطاولة من أزمة سياسية. الإجابة، هي أن هناك ترابطاً بين أحداث المنطقة، وما يحدث من تفاعلات في عواصم الشمال. بهذا فإنه، من دون فهم لما يدور فيها، فإننا لن نتمكن من استيعاب طريقة عمل هذا العالم، بما يشمل مشهدنا، بشكل صحيح. آخر فصول الأزمة كانت أن الحكومة، التي تم تشكيلها بعد شهرين من عقد الانتخابات البرلمانية، لم تنجح في إنهاء غضب الناقمين، بل إنها زادت الاحتقان، حيث اعتبر أولئك، أن تلك الحكومة التي تكونت بمعزل عن توافق الكتل، التي حصلت على العدد الأكبر من الأصوات، ليست شرعية.
يوم السبت الماضي، كرر الزعيم اليساري جان لوك ميلانشون، من حزب «فرنسا الأبية»، في لقاء مع جمهوره في بلدة ماند، الدعوة لإسقاط الحكومة، وعزل الرئيس إيمانويل ماكرون. كان ذلك يعني أن تكوين حكومة لم يفرض أمراً واقعاً، كما كانت ترجو الرئاسة الفرنسية، فالمعارضة اليسارية لا تبدو مستعدة للرضوخ والاستسلام. وفيما تشتعل التجاذبات والتنافس في دول الجنوب حول امتلاك الشرعية، ما يصل حد الفوضى والحرب، كانت الدول الغربية تنظر إلى كل ذلك بتعالٍ، وهي ترتدي ثوب الناصح والمصحح، المنطلق من تجربة ديمقراطية تظهر كالمثال، الذي يجب أن يحتذى.
تحت اللافتات البراقة الجميلة، التي تحمل شعارات مثل الحرية والديمقراطية والحق في التعبير، تسمح «دول المثال» لنفسها بأن تتدخل من أجل فرض رؤيتها ونموذجها. هذا التدخل يتراوح ما بين محاولة السيطرة السياسية، والدعم المباشر للحروب. في افريقيا، وحينما بدأت ما تعرف بدول الساحل انتفاضاتها ضد الوجود العسكري والنفوذ الأجنبي، أشعر ذلك المستعمر الفرنسي القديم بالقلق، ذلك التوجه السياسي الجديد، كان يعني صعوبة الاستمرار في التغذي على الثروات، التي كانت فرنسا تتعامل معها كحق مكتسب. لم يكن من اللائق، بطبيعة الحال، أن تقول فرنسا إن هذا هو السبب الحقيقي لانفعالها، عوضاً عن ذلك كانت «عاصمة الأنوار» تطرح مسألة الديمقراطية، وتفسر غضبها بأنه غضب لأجل الشرعية. الطريف هو أن فرنسا، التي طالبت الجميع بأن لا يقفوا مكتوفي الأيدي، وأن يسعوا إلى أن تعود الأمور إلى نصابها في تلك البلدان، هي ذاتها التي قالت ببرود، عقب حدوث انقلاب عسكري في الغابون، وبعد ضمان عدم تأثر مصالحها، أن التطورات في ذلك البلد «شأن داخلي». متابعة الأزمة الفرنسية الحالية، وقبلها الأزمة في الولايات المتحدة، وفي دول أوروبية مختلفة مهمة، لأنها تشير إلى أن المثال الديمقراطي «المقدس»، الذي يمثل، كما يدعي، حكم الأغلبية مع حفظ حقوق الأقليات، ليس سوى صنم معيوب، المتابعة اللصيقة ستخبرنا أنه لا الأغلبية، التي تعترض على السياسات الرئيسية والمؤسسة للنظام السياسي «الدولتي» قادرة على الحكم، ولا حقوق الأقليات الدينية والفكرية (المسلمون نموذجاً) في أغلب تلك البلدان محفوظة.
من جانب آخر، تلفت أزمة ما تسمى بـ»الديمقراطيات الراسخة» المعاصرة أنظارنا إلى شيء ثانٍ، حيث يبدو وكأن هذه الدول ما عادت تكتفي بالتعامل ببراغماتية مع الممارسات الديمقراطية في العالم الثالث، فترعى ديكتاتوراً هنا أو تشارك في الانقلاب على رئيس منتخب هناك، بل إنها تحولت للتعامل بالبراغماتية ذاتها في ما يتعلق بوضعها الداخلي، على غرار ما فعله مؤخراً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي رفض أن يمنح اليساريين، الذين كان ائتلافهم قد فاز في الانتخابات البرلمانية، فرصة اختيار رئيس وزراء أو تشكيل حكومة. يتهم الرئيس ماكرون من قبل معارضيه بالالتفاف على نتيجة التصويت. وفق هؤلاء فإن تجاهل الرئاسة الفرنسية لنتيجة الانتخابات، كان يساوي عدم الاعتراف بها، إلا أن الفارق هو أن ماكرون لم يعلن ذلك صراحة، كما يفعل الانقلابيون في دول العالم الثالث، بل اتبع سياسة «تعويم» المسألة عبر تحويلها لمادة للنقاش الفلسفي والدستوري، حول ما إذا كانت نتيجة التصويت تعبر بالفعل عن رغبات الفرنسيين. عوضاً عن القبول بالنتيجة والاعتراف بفوز تكتل اليسار، «الجبهة الشعبية الجديدة»، اعتبر ماكرون أن فارق الفوز الضئيل لا يعبر عن حقيقة التصويت، ولا يعني بالضرورة أن يمنح «الشعبيون» حق اختيار رئيس الوزراء، أو الانفراد بتشكيل الحكومة. بدت الصورة فوضوية، فإلى جانب هذا الرأي الرسمي كانت آراء أخرى تأخذ مساحة كبيرة من الإعلام تحذر من حكومة يترأسها اليساريون، خاصة المنتمين لحزب «فرنسا الأبية»، فيما كان اليمين المتطرف، الذي يمثله «التجمع الوطني» يعتبر، على الجانب الآخر، أنه أحق بأن يضع بصمته على الحكومة المقبلة، على اعتبار أنه الحزب المنفرد، الحاصل على عدد الأصوات الأكبر في مقابل الكتلة اليسارية، التي ضمت طيفاً من الأحزاب والمجموعات.
لم يقتنع «الشعبيون» بمنطق الرئيس ماكرون، الذي كان يردد أنه لا يتعامل مع طرف فائز، بل مع ثلاث أقليات برلمانية تشمل اليساريين واليمين المتطرف ومجموعته الحزبية في الوسط. بالنسبة لجان لوك ميلانشون، فإن هذا كان بمثابة التحايل لاختيار مقربين من الرئيس للمقاعد الوزارية وبالتالي ضمان استمرار سياساته الفاشلة، التي عبرت الغالبية، من خلال ما ظهر جلياً في نتيجة الانتخابات، على رفضها. صحيح أن تظاهرة السابع من أيلول/ سبتمبر، التي شارك فيها الآلاف وانطلقت في أكثر من مئة وخمسين موقعاً، لم تغير في الواقع السياسي الفرنسي شيئاً، إلا أن أهميتها كانت تكمن في تأكيد أن ثمة ما هو خاطئ في تلك الممارسة الديمقراطية. في قلعة الحريات لم ينته الأمر ببساطة بقبول النتيجة وتهنئة الفائزين، بل اتضح أن بالإمكان تدخل مقص السلطة من أجل منع البعض من تصدر المشهد، ولو أتت بهم الانتخابات. لم يساعد اختيار السياسي الفرنسي المخضرم ميشيل بارنييه (مواليد 1951) لرئاسة الوزراء في إطفاء الأزمة. الرجل، الذي ينتمي إلى اليمين الوسطي، الذي يمثل التيار الأهم في السياسة الفرنسية على مدى العقود الأخيرة، جنباً إلى جنب مع يسار الوسط، بدا مقبولاً من اليمينيين، بمن فيهم أيقونة التطرف الشعبوي مارين لوبان. في المقابل لم يجد بارنييه الدعم الكافي من كتلة اليسار، الذين قابلوا تعيينه بسؤال حول جدوى الانتخابات، إذا ما كان الرئيس سيستخدم سلطته في الأخير لاختيار رئيس وزراء وحكومة وفق مقاسه وهواه.
إقرأ أيضا : الطريق الوعر إلى السوق الإفريقية الحرة
غضب اليسار، الذي يوصف في الإعلام الفرنسي بالراديكالي، والذي يمثله ميلانشون (وضع علم فلسطين خلفه خلال فعاليته الأخيرة) مفهوم. ميلانشون، غير المحبوب في الوسط السياسي الرسمي، كان يبشر بفرنسا جديدة متصالحة مع مستعمراتها ومتعاملة مع الجميع بندية واحترام، لا بالاستعلاء، الذي أفقدها الكثير من الحلفاء والأصدقاء، والذي يظهر حتى في تعامل باريس مع الجزر التابعة لها سياسياً ككاليدونيا الجديدة، الجزيرة، التي شهدت تظاهرات وقمعاً عنيفاً مؤخراً.
«الجبهة الشعبية» كانت بشرت أيضا بأفكار للتعامل مع قضايا المهاجرين ومع الأزمة الاقتصادية، التي تؤثر على الجميع من خلال التضخم المتزايد وغلاء المعيشة، من دون اللجوء لفرض الضرائب أو لتقليل الإنفاق الاجتماعي وغيرها من الخيارات السهلة. تلك الأفكار أثارت حماس الملايين، قبل أن تقطع «المؤسسة» الفرنسية الطريق على أحلامهم.