هل يدخل الاستثمار في حسابات المرشحين لانتخابات تونس
يحتاج المرشحون إلى أن يقدموا قراءة في وضع الاستثمار بالبلاد، وخاصة وضع مقترحات مسنودة إلى معطيات وأرقام عن كيفية تطويره، وعدم الرهان على أن الدولة ستتحرك وأنها يمكن أن تحصل على تمويلات من هذه الدولة أو تلك.
مع تقدم الوقت، واقتراب موعد الانتخابات المقرر في السادس من أكتوبر، لا تسمع في الحملات الانتخابية أو ما يحيط بها من جدل إلا النزر القليل من الحديث عن البرامج والمستقبل وكيفية الخروج بالبلاد من أزمتها الاقتصادية، وهل هناك خطط لجلب المستثمرين الأجانب وتشجيع رجال الأعمال والمال المحليين على الاستمرار في العمل بالرغم من الصعوبات وتوسيع أنشطتهم بدل تقليصها أو تعليق أنشطتها والهروب إلى الخارج.
الاستثمار غير السياسة، لا يحتاج إلى كثير كلام، بل إلى خطوات عملية يشعر من خلالها المستثمر بأن الوضع مشجع على البقاء، وأن الدولة تقوم بدورها في ترغيبه وتشجيعه على العمل واستقطاب الخريجين من الجامعات أو معاهد التكوين المختصة أو اليد العاملة الرخيصة.
هذا الوضع المثالي كان موجودا قبل ثورة 2011 حين كانت البلاد مستقرة وتضع خططها وفق دراسات وخطط واضحة تقوم على فكرة تشجيع القطاع الخاص من خلال تسهيل إجراءات تكوين المؤسسات وطرق التمويل، وإجراءات التوريد، والقيام بتأهيل الخريجين الجدد عبر دروس رسكلة وخلال جزء من منح مرحلة التدريب والتجريب ودفع أموال الضمان الاجتماعي، ما يتيح لأصحاب المؤسسات فرصة اختبار قدرات الخريجين الجدد في تربصات تأخذ وقتها حتى يتم توظيف الكفاءات والخبرات بعد دراسة وتمحيص.
كانت الدولة تنظر إلى القطاع الخاص كشريك في مهمة النهوض بالاقتصاد، والمساعدة في حل أزمة البطالة، وتنمية موارد الصناديق الاجتماعية من خلال اقتطاعات مالية للتقاعد أو للتأمين على المرض، ولذلك فإن إجراءات الحكومة كانت تفيد الدولة كما تفيد الخواص.
بعد 2011 اختلف المشهد كلية من خلال معادلة مبنية على فكرتين الأولى أن الدولة أولى بالتوظيف والإنفاق بسخاء على كل القطاعات، والثانية أن القطاع الخاص متهم بأنه ضد الثورة بفعل تأثير الأيديولوجيات التي هجمت على الدولة وتريد تطويعها لأفكار قديمة تخلى عنها أشد المدافعين عنها.
المقاربة الأولى جعلت الدولة هي المحور، فهي التي تقوم بتوظيف الآلاف من الخريجين ممن طالت فترات بطالتهم، وهي التي تسوّي وضعية آلاف آخرين عملوا بأشكال هشة مع الدولة. ومع تقدم الوقت وتوسع دائرة البطالة وعجز موازنة الدولة عن الإيفاء بتعهدات جديدة بات خيار التوظيف داخل الدولة معلقا إلا في حالات ضرورية. لكن الدولة لا تدافع عن تعديل خيارها ولا تصارح الناس بأنها باتت عاجزة عن استقطاب عمالة جديدة وأنها في أمس الحاجة إلى مساعدة القطاع الخاص.
في ظل مناخ عام وثقافة قديمة متجددة تعتقد أن الدولة هي التي يجب أن تنفق وتطور وتشيّد تخلت الدولة عن عنصر ثان من مهامها، وهو عنصر الاستثمار والإنفاق على المشاريع المعطلة خاصة البنى التحتية مثل الجسور والطرقات والقطارات الكهربائية التي تدخل ضمن مقاربة استثمارية تمكن البلاد من استعادة ما صرفته وخلاص القروض المخصصة لذلك.
لماذا الاستثمار في الجسور والطرقات وتحسين أداء سكك الحديد مهم. السبب بسيط وواضح أنها تأتي ضمن مقاربة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، القديمة المتجددة، والتي تحرص على تعصير البنى التحتية لتسهيل بناء مصانع وشركات واستثمارات في المناطق الداخلية، تفيد المستثمر حيث يتنقل بنفسه إلى المناطق الداخلية ويجد يدا عاملة رخيصة قياسا بالعمالة في المدن الكبرى، ثم يتمكن من نقل الإنتاج في ظروف مريحة إلى الموانئ للتصدير.
وتستفيد الدولة من جانبين أولا أن المشاريع في المناطق الداخلية تساعدها على تشغيل أعداد من الخريجين ومن العمالة المختصة أو الرخيصة وفي مناطق مختلفة، ويحقق لها هدفا إستراتيجيا طالما سعت له، وهو جعل سكان المناطق الداخلية يستقرون فيها بدلا من النزوح إلى المدن الكبرى، وهو خيار جلب الكثير من المنغصات الاجتماعية والأمنية. وثانيا، فإن الدولة ستحصل بالمقابل على عائدات لصناديقها الاجتماعية تمكنها من تحسين الخدمات الصحية.
وحين تبدأ الدولة في أداء مهامها، فإن ذلك يكون عنصرا مشجعا للمؤسسات المالية لمساعدتها على تنفيذ برامجها وتطوير أداء مؤسسات وتحقيق عائدات أفضل. وهنا يمكن أن نشير إلى مشكلة تونس مع صندوق النقد. صحيح هناك احترازات أيديولوجية على دور الصندوق، لكن أيضا هناك خلاف معه، وهو العنصر الأهم، حول طرق صرف القروض التي ستتأتى منه.
الصندوق يريد توظيف الأموال في تحريك الاقتصاد سواء الحكومي أو الخاص، ويرفض توظيفه في دفع الرواتب. كما أنه يشترط إصلاحات تقوم على التقشف وتقليص الإنفاق الحكومي، وتقليص الأموال التي تصرف للدعم، وبدل من ذلك ضخها في الاقتصاد كي تحدث الحيوية المطلوبة.
كما أنه يريد أن يذهب جزء من تلك الأموال لدعم المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي تضررت من كوفيد ومن الأزمة الاقتصادية الدولية ومن تراجع دعم الدولة، والكثير منها أغلق والبعض قلص أنشطته. الشركات تستفيد من القروض لتحريك الدواليب وتستفيد هي والدولة وصندوق النقد نفسه، الذي يعرف مسار إنفاق أمواله وكيفية استردادها بدلا من أن تذهب إلى الإنفاق الحكومي وتتراكم الديون على الدولة وتعاد الجدولة مرات ومرات.
إقرأ أيضا : شيخوخة الأوروبيين: هل تعاني أوروبا من أزمة في القيادة؟
السؤال الذي يجب أن يجيب عنه المترشحون للانتخابات خلال حملاتهم الدعائية، هم أو من يمثلهم: لماذا ينظر إلى القطاع الخاص على أنه خصم أو عدوّ وليس شريكا في بناء الاقتصاد وتوفير مواطن الشغل وتمكين الدولة من السيولة التي هي في أمس الحاجة إليها؟
لا شك أن ثلاثة عشر عاما من الثورة، ومن الرهان على الدولة في موقع “البقرة الحلوب” قد جعل المرشحين يرون صورة أخرى لتونس، يشترك فيها الجميع لإنقاذ الاقتصاد، وهم مدعوون في ما بقي من أيام الحملة إلى أن يقدموا قراءة للوضع الاستثماري المقترح بالبلاد.
كيف ينظر الرئيس قيس سعيد أو المرشحان زهير المغزاوي، والعياشي زمال، هم أو من يتحدث باسمهم أو أحزابهم إلى سبل إنقاذ تطوير الاستثمارات. لننس الدولة ولو لوقت قصير، يكفيها ما ستنفقه على الانتخابات. كيف يمكن استعادة ثقة المستثمر التونسي والكف عن وصفه بالفاسد والسارق والذي يجب أن يدفع الإتاوة لتبرئة نفسه.
ومن الطبيعي أن دعم المستثمر التونسي لا يعني الكف عن المراقبة والتدقيق واستعادة حق الدولة من دون أن يتحول الأمر إلى سيف مسلط على الرقاب. وكسب ثقة المستثمر تعني توجيه رسالة إيجابية للمستثمرين الأجانب كي يعودوا إلى تونس، لكن الرسالة يجب أن تكون واضحة وشفافة ومفادها أن الدولة هي الضامن، وهي من تتولى تسهيل مختلف الإجراءات التي تشجع المستثمر على البقاء وتوسيع نشاطه، وألا يترك لابتزاز النقابات أو لوبيات نافذة.
لقد ابتعد المستثمرون عن تونس من قبل جائحة كوفيد وانكمشوا خلالها وبعدها لاعتبارات مختلفة منها الوضع السياسي الملتبس، والصراعات السياسية والفوضى، وتلكؤ الحكومات عن تنفيذ الإصلاحات المقترحة في الاقتصاد، ووجود طمأنة واضحة للمستثمرين في ظل الغموض الذي رافق مسألة المصالحة المالية.
لا يجب أن تقف الحملات الانتخابية عند شعارات عامة وفضفاضة أو أن تغرق في الردود على السياسي اليومي أو أن تترك لحملات مواقع التواصل بترديد الشعارات. يحتاج المرشحون إلى أن يقدموا قراءة في وضع الاستثمار بالبلاد، وخاصة وضع مقترحات مسنودة إلى معطيات وأرقام عن كيفية تطويره، وعدم الرهان على أن الدولة ستتحرك وأنها يمكن أن تحصل على تمويلات من هذه الدولة أو تلك.
يكفي هنا الإشارة إلى أن الدولة لا تضخ الأموال لاعتبارات تتعلق بالصداقة أو نصرة جهة على حساب أخرى. الدولة تستثمر وتريد أرباحا وتسهيلات، ولا تلقي بأموالها دون أن تكون على معرفة تامة بأنها في أمان.