حربا غزة ولبنان.. وجهان لعملة واحدة
يمكن وصف الحرب على حزب الله، حتى اللحظة، بأنها ذات طابع عسكري بين جنود وتنظيم مسلح، بينما هي في حالة الحرب على غزّة تتخذ مسار حرب إبادة وتطهير عرقي. وإذ يدرك العدو الإسرائيلي أن غزة وشعبها قد نالهما خذلان كبير من القريب والبعيد.
ثمة تشابه ملحوظ بين الحرب على غزّة والحرب على لبنان، ففيهما يرغب العدو الإسرائيلي في تصفية المقاومة المسلحة هنا وهناك، وطيّ صفحتها وجعلها جزءاً من الماضي، بحيث تنشأ أجيالٌ عربيةٌ كما يتمنى هذا العدو عازفة عن فكرة الكفاح المسلح.
وفي الحالتين، هناك استهداف ممنهج للبيئة الحاضنة أو الكتلة الشعبية المؤيدة، مع توسيع مفهوم هذه البيئة، بحيث يشمل مناطق وبلدات كاملة وتدفيعها ثمن الإيمان بالمقاومة خياراً وحقاً في مناهضة الكيان التوسّعي العنصري. وإلى ذلك، ثمة تشابه بأن كلاً من حركة حماس وحزب الله يتمتّعان بروابط قوية مع إيران، وإن كانت روابط الحزب اللبناني أكبر وأعمق، وبحيث يجري تصوير الحرب هنا وهناك أنها ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وليس ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني.
تتعدّد أوجه التشابه بين هاتين الحربين، إلى درجة أنهما باتتا تُخاضان معاً في الوقت نفسه، فيما يروم العدو انتزاع فكرة وحدة الساحات من المحور الإيراني لنفسه، بحيث يقاتل هو مراكز هذا المحور في ساحاتٍ متعدّدة. على أن هذا التشابه لا يطمس فروقا جوهرية بين الحربين، فحزب الله يحظى برعاية الدولة اللبنانية، ويتمتّع بإمكاناتها، بينما لا تحظى “حماس” بأي رعاية مباشرة، باستثناء الرعاية السياسية من تركيا وقطر وباكستان وماليزيا، ما يجعل الأعباء محتملة على حزب الله، إذ إن إمكاناته الذاتية تتضافر مع إمكانات الدولة اللبنانية في امتصاص الصدمات وتحمّل الخسائر وتقاسم الأعباء، وعلى نحوٍ يتلقى فيه لبنان الرسمي المساعدات عبر مطار رفيق الحريري، إضافة إلى الحدود البرّية المفتوحة مع سورية، بينما لا تحظى حركة حماس بمثل هذه الميزة المهمة.
كما أن لبنان، دولة وكياناً وموقعاً جغرافياً وسياسياً، يحظى بأهمية لدى الخارج، بينما عملت واشنطن وعواصم غربية طوال فترة الحرب على غزّة على تبخيس مكانة القطاع، وامتنع أي مسؤول عربي أو أجنبي، وعلى جميع المستويات، عن زيارته، باستثناء وزيرة قطرية، وجرى منع الصحافيين من دخوله، من دون أي اعتراض من عواصم الغرب التي لطالما تشدّقت عقوداً بشأن حرية الصحافة في الوصول إلى المعلومات، وحقّ الصحافة في أداء مهماتها في مناطق النزاعات. وبينما يستجيب العدو الإسرائيلي (أقله حتى الآن) لمطالبات واشنطن بتفادي استهداف العاصمة بيروت (باستثناء الضربات الموضعية على الضاحية الجنوبية)، والمؤسّسات والمراكز المدنية، فإنه في حالة غزّة جرى استهداف المستشفيات والمدارس والجامعات والأبراج السكنية ودور العبادة، ليس فقط وسط صمت أميركي وغربي، بل أيضا بتحريض أميركي مشين.
وبينما يجري في حالة الحرب على لبنان استهداف حزب الله، قيادات وعناصر ومراكز ومقرّات ومستودعات، مع وقوع ضحايا مدنيين خلال ذلك، فإن الحرب على غزّة تستهدف بصورة مباشرة الكتلة البشرية ومصادر الحياة هناك، مع خسائر تقع خلال ذلك على حركة حماس وفصائل المقاومة، كما على القوة الغازية.. هذا علاوة على اتساع مساحة لبنان مقارنة بمساحة قطاع غزّة، بما يتيح هامشاً ضيقاً لحركة فصائل المقاومة، خلافاً لوضع حزب الله الذي يتمتّع بحرية حركة أكبر.
وعليه، يمكن وصف الحرب على حزب الله، حتى اللحظة، بأنها ذات طابع عسكري بين جنود وتنظيم مسلح، بينما هي في حالة الحرب على غزّة تتخذ مسار حرب إبادة وتطهير عرقي. وإذ يدرك العدو الإسرائيلي أن غزة وشعبها قد نالهما خذلان كبير من القريب والبعيد، فإن هذا العدو يحرص، في هذه المرحلة، على محاولة قطع الصلة بين الحربين هنا وهناك، وهو ما صرّح به بنيامين نتنياهو وقادة الحرب في تل ابيب، وقد راق لهم التخلي الخارجي عن قطاع غزّة واستثمروه إلى أقصى حد، ويريدون لهذا الأمر أن يستمر. وهو ما يفسّر الاستعدادات الإسرائيلية للتفاوض بشأن العمليات العسكرية على لبنان، بعدما حقّقوا نتائج مهمّة، ولم يبق سوى أن يتراجع حزب الله عن المنطقة الحدودية ويتوقف عن إطلاق صواريخه، وينتهي عملياً ارتباطه بالحرب على غزّة.
اقرأ أيضا| حرب غزة.. ماذا يحدث في اليوم التالي؟
وسبق أن أيدت واشنطن، إلى أمد طويل، الفصل بين الحرب على غزّة وما عداها، بل تهدف الدعوات اليومية المتكرّرة، الصادرة عن واشنطن منذ أكتوبر الماضي، لوجوب تفادي حرب اقليمية شاملة، في جانب رئيسي منها، إلى تمكين جيش الاحتلال من الانفراد بغزّة ومواصلة الحرب عليها من دون أي تداعيات إقليمية.
وبينما تبدي إدارة الرئيس بايدن في هذه الآونة بعض الاختلاف عن توجّهات حكومة نتنياهو، وفيما يصدر نداء مشترك عن 15 دولة استنادا إلى مبادرة أميركية فرنسية لوقف مؤقت لإطلاق النار 21 يوماً، إلا أن خبرة السنة الماضية على الأقل تفيد بأن إدارة بايدن تتراجع أمام أي تشدّد إسرائيلي، وأن بايدن، الذي أظهر ضعفه (إضافة إلى انحيازه الأصلي) تجاه حلفائه المحتلين، ليس من المنتظر أو المتوقع أن يبدي موقفاً حازماً قبل أسابيع من انتهاء ولايته، وبحيث تبقى مخاطر توغّل برّي إسرائيلي في الجنوب اللبناني قائمة، وسوف يجد أركان إدارة بايدن حينها الأعذار لجيش الاحتلال، على أن هذا التوغّل سوف يعني الانتقال إلى مرحلة مختلفة، يدفع فيها قادة الاحتلال وجنوده الثمن من أرواحهم، بعدما اكتفوا من قبل بشنّ الغارات الجوية وإطلاق الصواريخ.
وهو ما من شأنه أن يطيل أمد الحرب، وأن يتسبّب بمزيد من الإحراج لـ”الأخ الأكبر” الإيراني، وعندها فإن أحداً لن يكون في وسعه إنكار أن الحرب على غزّة قد اتسع نطاقها، وبخاصة إذا ما تعرّضت القوات الإيرانية في سورية لمزيدٍ من الهجمات الإسرائيلية. وسوف ينال الإحراج أيضاً دول منطقتنا التي ما زالت تحتفظ بعلاقاتها المتشعبة مع تل أبيب، بعدما برهنت الأخيرة أنه ليس في جعبتها أي نيات سلمية، وأنها سريعة الاندفاع إلى حروب متناسلة تتخطى كل القوانين والقيم، كما لا تُخفي مطامعها في ضم الأراضي المحتلة.
هناك سبيل واضح ومضمون النتائج لوقف الحرب بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي، ويتمثل في استثمار مهلة 21 يوماً لوقف الحرب الاستئصالية على غزّة، استناداً إلى مقترحات بايدن في مايو/ أيار الماضي وقرار مجلس الأمن المنبثق عن تلك المبادرة، وهو ما يُنتظر أن تتمسّك به الصين وروسيا وفرنسا وبقية الدول من أجل وضع حد للجنون الدموي الصادر عن حكومة المستوطنين وأركان الحرب في تل أبيب ضد غزّة ولبنان.