هل انتهت حرب الإلهاء والإسناد في غزة؟
أعادت إسرائيل الربط بين مختلف الجبهات، وهو ما ترجمته بتجميد العمليات العسكرية الكبرى في غزة، وباشرت بمجموعة انتقائية منها في الضفة الغربية، قبل ان تتفرّغ للبنان.
مما لا شك فيه، انّ تدحرج الوضع الأمني أنهى السباق بين الخيارات المختلفة لمصلحة العسكرية منها، وأُقفلت قنوات التواصل وغاب الاميركيون عن المنطقة منذ أن فشل الموفد الرئاسي الاميركي عاموس هوكشتين أخيراً في مهمّته للفصل بين ما يجري في غزة ولبنان، تزامناً مع مسلسل التفجيرات و”غارة الجاموس”، فبات البلد على فوهة السيناريوهات المقلقة. وعليه، طُرح السؤال هل انتهت “حرب الإلهاء والإسناد” لغزة، ليبدأ العمل بحثاً عمّن سيساند لبنان؟ وهذه هي بعض المؤشرات.
من الواضح انّ الحراك الديبلوماسي الذي أطلقه لبنان في مواجهة العدوان الاسرائيلي المتصاعد جراء العمليات التي استهدفت شبكات “البيجر” والـ “توكي ووكي”، قبل الغارة التي استهدفت الضاحية الجنوبية وأدّت الى اغتيال مجموعة من القيادات في المواقع العسكرية الحساسة المتقدّمة التي زادت من حجم الضربة المؤلمة التي تلقّاها الحزب، لم تؤد النتائج المرغوب بها. حتى إنّ السعي إلى بيان إدانة وتنديد لمجلس الأمن الدولي بما حصل لم يتوفر، على رغم من تعاطف معظم أعضائه مع التوجّهات اللبنانية من الزاوية الإنسانية، فيما صُرف النظر عن أي شكوى يمكن ان تُرفع أمام اي من المحاكم او الهيئات الدولية المعنية بقوانين الاتصالات، ربطاً بعملية التفجير التي استهدفت أجهزة يُعتقد انّها يجب ان تكون آمنة بكل المعايير القانونية والإخلاقية والانسانية.
ومهما اختلفت الأسباب المتصلة بالتعثر الديبلوماسي والعوائق التي حالت دون اكتمال فصولها، فإنّ مراجع معنية وجدت استحالة في تأليب الرأي العام على العدوان الإسرائيلي الأخير من خارج محور الممانعة وبعض الفصائل الفلسطينية والعراقية واليمنية، على رغم من الخسائر البشرية التي حصدها بنحو لم يكن متوقعاً في مجالات التطور الذي بلغته صناعة الإتصالات والتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، والتوجّه إلى استخدامها في العمليات الإجرامية التي استهدفت المدنيين الآمنين وعائلاتهم في منازلهم ومؤسساتهم والشوارع، واعتُبرت مساً بأبسط الحقوق الإنسانية. ذلك أنّ لكل منها متطلبات ومستندات ووثائق دولية ليست في حوزة المسؤولين الحكوميين اللبنانيين، لخروج الصفقة التي رافقت عقدها عن كل القواعد التي تتحكّم بالتجارة الدولية والأصول الواجب اعتمادها في التعاطي بين المؤسسات المعنية والدول المصنّعة لها من جوانبها الإدارية والتقنية والمالية.
على هذه الأسس برّرت المراجع الديبلوماسية الدولية عدم تجاوبها مع لبنان. ونُقل عن ديبلوماسيين معتمدين في لبنان والخارج مجموعة من الملاحظات التي ارتقت الى مرتبة النصائح، وأبرزها ما يثير القلق على الطروحات اللبنانية المحقة، إلى درجة وضعت المساعي اللبنانية في وادٍ والمجتمع الدولي في وادٍ آخر، أبعدت إمكان التوصل إلى اي إنجاز. ولذلك قيل إنّ من بين هذه النصائح ما ادّى إلى الغاء رئيس الحكومة نجيب ميقاتي زيارة نيويورك، ظناً منه انّ في إمكانه إجراء لقاءات على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها التاسعة والسبعين، لتوفير الدعم للموقف اللبناني، قبل ان يتبلّغ بما واجهه وزير الخارجية عبدالله بوحبيب من معوقات حالت دون أي إنجاز ديبلوماسي على الاقل، فعدّت تضييعاً للوقت.
اقرأ أيضا| فلسطين أولا والأصل وليس محور المقاومة
وإلى هذه المعطيات، قالت المراجع المعنية انّ ما بلغته التطورات على قساوتها وضعت لبنان في مواجهة غير متكافئة مع العدو وحلفائه. فالدول الغربية تتقدّمهم الولايات المتحدة، قالت بكل صراحة “لن تذرف الدموع على مقتل مسؤول كبير من الحزب، ولن تتوقف عند حجم الخسائر المدنية التي قضت على عائلات بجميع افرادها بمن فيهم من أطفال ونساء، ذلك انّ استهداف قائد او مجموعة من القادة العسكريين في منظمة متّهمة بالارهاب له ما يبرّره، وقد سبقته غارات مماثلة استهدفت قادة لبنانيين وفلسطينيين في لبنان وطهران بعد سوريا، ولم تحظ بالإدانة التي يتمناها اللبنانيون خارج إطار دول الممانعة وأذرعها في المنطقة.
وإن أضافت المراجع المعنية أسباباً أخرى للتعثر اللبناني، فهي تتوقف أمام حجم ما بلغه النزاع في غزة والضفة الغربية والفرز الدولي مما يجري في ظل الشلل الذي أصاب الادارة الاميركية التي دخلت مدار الانتخابات الرئاسية ومستلزماتها التي دفعت بالمرشحين الأساسيين الى استجداء الدعم اليهودي على رغم من حجم المجازر المرتكبة، فواصلت تزويد إسرائيل بالقذائف المدمّرة التي تضمن تفوقها بأشواط بعيدة، وتجاهلوا حجم الخسائر البشرية وصولاً إلى اعتراف الموفدين الأميركيين بالفشل الذريع في لجم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي يتباهى بما حققته الآلة العسكرية، رغم نزاعه مع وزير الدفاع يؤآف غالانت، والذي لم يلتق معه سوى على المضي في الحرب على لبنان على حساب اي مبادرة ديبلوماسية.
وعليه، تمضي المراجع عينها لتقول انّ اسرائيل قدّمت وجهاً جديداً لها في حربها الاخيرة لم يُعرف عنها من قبل، منذ ان اعتبرت انّها تخوض حرباً “وجودية” بعد عمليتي “طوفان الأقصى” و”الإلهاء والإسناد”. وهي تناست قوانينها التي تدعوها الى حماية الأسرى، ومنها “قانون هانيبال” الذي يفرض عليها حمايتهم واستعادتهم. وبرزت قاعدة اخرى تقول ما معناه، انّ “جثة جندي أسير أرخص من جندي على قيد الحياة”. وهو ما أسقط من حركة “حماس” وحلفائها من الفصائل، أكبر الأوراق التي تتمسك بها.
وتكريساً للمضي في هذه التوجّهات الجديدة، أعادت إسرائيل الربط بين مختلف الجبهات، وهو ما ترجمته بتجميد العمليات العسكرية الكبرى في غزة، وباشرت بمجموعة انتقائية منها في الضفة الغربية، قبل ان تتفرّغ للبنان سعياً الى نزع اهم اوراق الحزب الذي ربط وقف عملياته في الجنوب بوقف النار في غزة، فيما المطلوب بات دولياً محصوراً بالفصل بينهما. وعليه، انتهت هذه المراجع لترسم الاستراتيجية الإسرائيلية الأخيرة التي وضعت لبنان في عين العاصفة، سعياً الى صفقة متكاملة لا يمكن توقّعها قبل الانتخابات الاميركية؟ وعلى هذه الأسس ستبنى كل الاستراتيجيات الأخرى بحثاً عمّن سيساند لبنان المتروك وحيداً في هذه المواجهة.