حل الدولتين قابل للحياة
يمكن لإسرائيل وفلسطين إنشاء مؤسسات مشتركة لمعالجة الأمور التي تتعلق بالبنية التحتية أو الموارد، مثل الطيران المدني والجمارك والطاقة وحماية البيئة والهجرة والصحة العامة والنقل، وسيكون لكل دولة سلطة على أمنها الداخلي.
في يوليو (تموز) الماضي التقت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمناقشة الحرب في غزة ومستقبل الشرق الأوسط، وبعد ذلك أكدت هاريس التزامها حل الدولتين للإسرائيليين والفلسطينيين، إذ إنه على حد تعبيرها “المسار الوحيد الذي يضمن أن تظل إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية آمنة، ويضمن للفلسطينيين أن يحصلوا أخيراً على الحرية والأمن والرفاهية التي يستحقونها بحق”.
وهاريس ليست الوحيدة التي تتبنى هذا الرأي، ففي جميع أنحاء العالم يستمر القادة في التعهد بدعم حل الدولتين بحجة أنه يوفر توجيهاً وزخماً للجهود الرامية إلى إنهاء الحرب وإعادة بناء غزة في نهاية المطاف، وفي قرار وقف إطلاق النار الذي طال انتظاره والصادر في يونيو (حزيران) الماضي، جدد مجلس الأمن الدولي التزامه بـ “رؤية حل الدولتين حيث تعيش دولتان ديمقراطيتان، إسرائيل وفلسطين، جنباً إلى جنب في سلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها.”
وبالنسبة إلى أي شخص يتابع ما يحدث على الأرض فإن هذه التصريحات تبدو منفصلة عن الواقع، فقد تعهد نتنياهو وشركاؤه من اليمين المتطرف بعدم السماح بإنشاء دولة فلسطينية، وحتى معارضو نتنياهو الرئيسون
لا تريد إسرائيل التخلي عن السيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة، وليست مستعدة لنقل مئات آلاف المستوطنين أو إقامة حدود مادية تقسّم القدس، وربما لهذا السبب لا أحد تقريباً ممن نجري معهم محادثات خاصة، سواء كانوا محللين أو دبلوماسيين أو صناع سياسات، يعتقد حقاً أن حل الدولتين الذي طال تخيله قابل للتحقيق، وقد اعترفت هاريس نفسها بعد لقائها نتنياهو في يوليو الماضي أنه “في الوقت الحالي من الصعب التفكير في هذا الاحتمال.”
في الواقع إن عدم إمكان تحقيق خطة الدولتين المعروفة قد دفع بعض المثقفين إلى الحث بدلاً من ذلك على اعتماد حل الدولة الواحدة، ووفقاً لهذه المقترحات سيكون الفلسطينيون واليهود الإسرائيليون مواطنين يعيشون على قدم المساواة في دولة واحدة تحكمها حكومة واحدة منتخبة ديمقراطياً، وقد يكون مثل هذا الحل هدفاً طويل الأمد يستحق العناء، ولكن في الوقت الحالي يظل مجرد هدف طموح، فلا الإسرائيليون اليهود ولا الفلسطينيون على استعداد للتخلي عن حقهم في تقرير المصير الوطني، وكلاهما لديه أسباب وجيهة تدفعه إلى التردد، ففي الحقيقة لا توجد هوية مشتركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وعلى رغم إمكان تطويرها فإن ذلك سيستغرق أجيالاً.
إذا كان حل الدولتين التقليدي وحل الدولة الواحدة لن ينجحا فقد تبدو آفاق السلام بين الشعبين قاتمة للغاية، ولكن هناك بديل وهو إنشاء كونفدرالية إسرائيلية – فلسطينية تقوم على مبادئ المساواة والشراكة، وفي هذه الكونفدرالية سيحصل كل من الإسرائيليين والفلسطينيين على دولتهم الخاصة والمستقلة، وستكون لديهم حدود واضحة وحق في إصدار قوانينهم الخاصة، ولكن بعد فترة انتقالية ستصبح الحدود مفتوحة وسيكون لكلا الشعبين في النهاية الحق في العيش داخل جميع أنحاء الأرض الممتدة بين الأردن والبحر الأبيض المتوسط التي يعتبرها كلاهما موطناً تاريخياً له، وستدير الهيئات الإسرائيلية – الفلسطينية المشتركة القضايا التي تتجاوز حدود كل دولة، مثل الطاقة والأمن الخارجي، وإضافة إلى ذلك ستكون هناك مؤسسات قضائية مشتركة لحماية حريات الجميع.
وفي هذا النهج ستعالج الكونفدرالية المسائل الشائكة النابعة من عدم التطابق بين المواطنة والهوية القومية والدولة، وكذلك بين الديموغرافيا (الموازنة بين عدد السكان) والجنسية والسيادة، وستضمن المساواة لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وتساعد كلا الشعبين في التعاون على أساس عادل بعد عقود من الاحتلال والصراع.
الموت والتقسيم
منذ تسعينيات القرن الماضي ارتبط تقسيم الأرض ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط إلى دولتين بنموذج “الفصل” (أو “هافرادا” بالعبرية)، وهو يشير إلى أن إسرائيل لا يمكن أن تكون دولة يهودية وديمقراطية إلا إذا انفصلت فعلياً عن ملايين الفلسطينيين الذين تحكمهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وخلال حملته الانتخابية الناجحة عام 1999 أخبر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك مواطنيه أنه سيسعى إلى تحقيق “السلام من خلال الفصل”، وكان أحد شعاراته “نحن هنا وهم هناك.”
لقد شكل هذا النموذج الخطوط العريضة لاتفاق السلام الذي سعت إسرائيل إلى الوصول إليه في نهاية المطاف، وتضمنت شروط المقترحات التي طرحها كل من باراك وخليفته إيهود أولمرت ضمّ أكبر كتل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية إلى الدولة العبرية، وإجلاء كل المستوطنين الذين يعيشون خارجها، فضلاً عن إقامة حدود مادية داخل القدس من أجل تقسيم المدينة على أسس عرقية، مع حرمان اللاجئين الفلسطينيين إلى حد كبير من العودة لمواطنهم الأصلية داخل إسرائيل.
لكن الجانبين لم يتفقا على الطريقة المناسبة لتحويل هذا المفهوم إلى واقع، فخلال محادثات السلام التي ترأستها ثلاث إدارات أميركية، تجادل الإسرائيليون والفلسطينيون حول أي المستوطنات، التي بُنيت جميعها في انتهاك للقانون الدولي، سيبقى وأي منها سيُزال، وإضافة إلى ذلك اختلفوا حول طريقة تقسيم مدينة القدس على وجه التحديد.
في الوقت الحاضر يبدو أن هذا النموذج لم يعد فعالاً أو قابلاً للتطبيق، فقد تجاوز عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية 700 ألف مستوطن، وهو ضعف العدد الذي كان عليه عام 2000، ويقيم أكثر من 115 ألفاً من هؤلاء المستوطنين خارج الكتل التي كانت إسرائيل تطالب بضمها في السابق، وفي الوقت نفسه يتمتع اليمين المتطرف بنفوذ غير مسبوق في الحكومة، ونتيجة لهذا أصبحت الكلف السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة على إخلاء المستوطنين قسراً باهظة الثمن.
يذكر أن المشكلات التي تواجه حل الدولتين القائم على الفصل ليست عملية وحسب، بل أخلاقية أيضاً، والحقيقة هي أن هذا النموذج بُني على فرضيات مشكوك فيها، فهو يعزز مفهوم الدول القومية المتجانسة عرقياً مما يعيد للأذهان عمليات تهجير السكان الكارثية التي حصلت في القرن الـ 20 ويهدد بإعادة تكرارها، فضلاً عن أنه يهمش حقوق اللاجئين الفلسطينيين ويؤسس لحدود صارمة تفصل الفلسطينيين واليهود عن الأماكن التي لها أهمية مركزية في تاريخهم وذاكرتهم، وأخيراً يقدّم إطاراً مؤسسياً محدوداً لإدارة الترابط الحتمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين الذين، سواء كانوا منفصلين أم لا، فلا بد من أن يعيشوا معاً في قطعة من الأرض أكبر بقليل من ولاية فيرمونت [نحو 25 ألف كيلومتر مربع]، ونتيجة لهذه الجغرافيا المترابطة فقد حذّر خبراء الصحة من أن مرض شلل الأطفال الناتج من نظام المياه المدمّر في غزة قد يتفشى إلى إسرائيل.
اقرأ أيضا| رؤية فلسطينية لمواجهة مخططات دولة الاحتلال
وعلى رغم هذه العيوب غالباً ما يجادل المحللون بأن الفصل المادي بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين ضروري من أجل حماية أمن هؤلاء الأخيرين، ويشيرون إلى أن هذا الفصل يمكن أن يساعد في منع الهجمات الإرهابية وتقليل التوترات العرقية، ولكن هذه الحجة يدحضها الواقع، ففي داخل إسرائيل يعيش اليهود جنباً إلى جنب مع نحو مليوني مواطن فلسطيني من إسرائيل، ونادراً ما وقعت أعمال عنف عرقية.
وعلى النقيض من ذلك فإن العزل القسري لقطاع غزة عن إسرائيل والضفة الغربية لم يفشل في منع الحروب المتكررة والهجمات عبر الحدود وحسب، بل أسهم أيضاً في نشوبها، وحتى لو كان من الممكن إقامة حواجز تفصل بالكامل بين اليهود الإسرائيليين وجيرانهم الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة فإن المراكز السكانية الرئيسة في إسرائيل ستظل عرضة للهجوم، إذ إن الجميع ببساطة قريبون جداً من بعضهم بعضاً.
وبالنسبة إلى معظم المدافعين عن نموذج الفصل فقد كان الحل لهذه المعضلة هو الحفاظ على سيطرة إسرائيل الشاملة على كامل الأراضي، وقد أوضح يائير لابيد، وهو سياسي إسرائيلي من تيار الوسط، هذا الموقف حينما دعا في مارس (آذار) الماضي إلى حل دولتين “يتضمن تفوقاً في القوة لمصلحتنا ويخلق كيانين سياسيين غير متساويين في القوة أو القيمة، الأول دولة فلسطينية منزوعة السلاح وصغيرة وتعتمد علينا، والثاني إسرائيل قوية استعادت ثقتها بنفسها”.
لكن هذا ليس حلاً للدولتين على الإطلاق بل سيترك حياة الفلسطينيين وسبل عيشهم تحت سيطرة المؤسسات الإسرائيلية التي أظهرت باستمرار تجاهلاً صارخاً تجاههم، وهي رؤية للهيمنة والصراع الدائمين، خلافاً لتقرير المصير بالتوافق والتعايش السلمي.
مشاركة المساحة والتعايش
إذا لم ينجح نموذج الفصل، وإذا كان حل الدولة الواحدة غير قابل للتحقيق في المستقبل المنظور، فقد يبدو ببساطة أنه لا توجد خيارات جيدة، ووفقاً للاستبيانات الأخيرة فهذا هو الرأي الذي يتبناه عدد كبير من الإسرائيليين والفلسطينيين، لكن مجموعة متزايدة من المراقبين، ونحن من بينهم، يعتقدون أن كونفدرالية مكونة من دولتين تقدم أرضية وسطى قابلة للتطبيق، فهذه الكونفدرالية من شأنها أن توفر لكلا الشعبين حق تقرير المصير الوطني، في حين تضع أيضاً إطاراً عادلاً لإدارة روابطهما واعتمادهما على بعضهما في وطنهما المشترك.
يشار إلى أن الكونفدرالية الإسرائيلية -الفلسطينية لن تكون الأولى من نوعها، فقد كانت الكونفدراليات موجودة منذ قرون، ويشير هذا المصطلح إلى رابطة أو اتحاد تتفق فيه دولتان أو أكثر ذات سيادة على التنازل عن بعض سلطاتها السيادية لهيئات مشتركة في سبيل تحقيق أهداف مشتركة، مثل الأمن المتبادل أو التكامل الاقتصادي، وعادة ما تمتلك الدول التي تشكل اتحاداً كونفدرالياً هوية دولية فردية، لكن الكونفدراليات تسهل في كثير من الأحيان أيضاً حرية حركة الأشخاص والسلع داخلها.
منذ فترة طويلة اُستخدمت الكونفدراليات، على غرار غيرها من ترتيبات تقاسم السلطة، لمعالجة التوترات العرقية في المساحات المشتركة، وفي بعض الأحيان لعبت الكونفدراليات دوراً انتقالياً، فاتحاد صربيا والجبل الأسود، على سبيل المثال، سهّل الانتقال السلمي نحو استقلال الجبل الأسود (مونتينيغرو) في منطقة كانت تعاني الحروب العرقية، وعلى نحو مشابه كانت سويسرا ذات يوم كونفدرالية بين كانتونات ناطقة بالألمانية والفرنسية والإيطالية، لكنها تحولت في دستور عام 1848 إلى اتحاد أكثر تماسكاً.
ومع ذلك فليس من الضروري أن تكون الكونفدراليات موقتة، فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، هو كونفدرالية أثبتت استمراريتها ومتانتها إلى حد كبير، وقد تأسس الاتحاد لضمان ألا تكون أوروبا مصدراً لحرب عالمية ثالثة وحقق نجاحاً هائلاً في تلك المهمة، حتى إنه حصل على جائزة نوبل للسلام عام 2012، وعلاوة على ذلك حقق الاتحاد نجاحات أخرى مثل دعم التعاون الاقتصادي والعلمي وتمكين حرية التنقل وتعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، وقد سعت الدول الخارجية إلى الانضمام إليه ولم يغادره سوى عضو واحد.
وعلى رغم أن الاتحاد الأوروبي قد وضع سياسة تجارية مشتركة وقوانين بيئية وأنواعاً أخرى من التنظيمات، فإن كل دولة عضو فيه تحتفظ بسيادتها وقوانينها الخاصة ومكانتها الدولية المميزة وهويتها الوطنية الخاصة.
وعلى غرار الاتحاد الأوروبي ستكون الكونفدرالية الإسرائيلية – الفلسطينية مؤلفة من دولتين منفصلتين، وستقام فلسطين إلى جانب إسرائيل مع وجود حدود دولية معترف بها تفصل بينهما، وستتمتع كل من الدولتين بالسيادة وتمتلك نظاماً دستورياً منفصلاً وعضوية في المنظمات الدولية وسلطة مستقلة في مجموعة واسعة من المجالات، على غرار التعليم والشؤون الخارجية وإنفاذ القانون والرعاية الاجتماعية والضرائب، وفي هذه النواحي تُعتبر الكونفدرالية في جوهرها حلاً يقوم على دولتين.
لكن هذا الإطار سيختلف عن حل الدولتين المعروف في جوانب مهمة.، فسوف تكون هناك، على سبيل المثال، حدود مفتوحة ولكن منظمة بين الدولتين على مدى فترة انتقالية، وسيكتسب مواطنو كلا الطرفين الحق في التنقل في جميع أنحاء البلاد مع الالتزام بتدابير أمنية متبادلة ومنسقة، وفي نهاية المطاف سيتمتع الإسرائيليون والفلسطينيون أيضاً بحرية الإقامة في جميع أنحاء وطنهم المشترك (على أن تُطبق حقوق الإقامة تدريجياً مع مراعاة الاستقرار السياسي والاقتصادي)، وهذا يعني أن المواطنين الإسرائيليين، بمن في ذلك المستوطنين في الضفة الغربية، يمكن أن يقيموا في فلسطين شرط الالتزام بقوانينها، بينما يمكن للمواطنين الفلسطينيين، بمن في ذلك اللاجئين، الإقامة في إسرائيل على الأساس نفسه، وسيحتفظ المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل بجنسيتهم وحقوق إقامتهم الإسرائيلية.
وكما في الاتحاد الأوروبي فإن حقوق التصويت في الانتخابات الوطنية ستحدد من خلال الجنسية، في حين أن حقوق التصويت في الانتخابات المحلية ستعتمد على مكان إقامة الأفراد، وبالتالي فإن اللاجئ الفلسطيني العائد الذي يختار العيش في يافا سيصوت في المجلس الوطني الفلسطيني وليس في الكنيست، لكنه سيكون قادراً على التصويت في انتخابات مجلس مدينة يافا – تل أبيب.
وعلى النقيض من ذلك فإن الإسرائيلي المقيم في مستوطنة (سابقة) مثل آرئيل سيصوت في الكنيست وليس في المجلس الوطني الفلسطيني، لكن يمكنه المشاركة في اختيار ممثلين في حكومة بلدية آرئيل المدمجة.
في الواقع إن نظام الحدود هذا يعالج قضايا عدة أعاقت اتفاقات السلام في الماضي، وهو يقدم حلاً للمستوطنات لا يستلزم الإخلاء القسري الجماعي للمستوطنين الإسرائيليين ولا يهدد السيادة الفلسطينية، ويوفر للاجئين الفلسطينيين فرصة العودة للعيش في مواطنهم الأصلية مع ضمان بقاء إسرائيل الوطن القومي للشعب اليهودي، وإضافة إلى ذلك يتجنب إنشاء حاجز مادي يقسّم القدس مما يسمح بأن تكون عاصمة كل من الدولتين مدينة مفتوحة تُدار إما من بلدية مشتركة واحدة أو عبر مجلسَي حكم بلديين منسقين ينتخبهما السكان في جانبَي المدينة، وبما أن هذا الإطار لا يتطلب من الإسرائيليين أو الفلسطينيين التخلي عن ارتباطهم بأي جزء من البلاد فإنه يقلل التوتر المحيط بترسيم الحدود بين الدولتين.
شركاء متساوون
ستختلف الكونفدرالية عن حل الدولتين المعروف بطريقة مهمة أخرى، فهي ستوافر للإسرائيليين والفلسطينيين إطاراً مؤسسياً قوياً ومرناً بما يكفي لإدارة التحديات المشتركة التي يواجهونها، ففي محادثات السلام السابقة كان كلا الجانبين يدركان أن المساحة الصغيرة التي يتشاركانها تتطلب التعاون بين إسرائيل وفلسطين المنفصلتين وفي بعض المجالات، على غرار الزراعة والخدمات المصرفية والعدالة الجنائية وتخطيط التنمية والتعليم والشؤون الخارجية والضرائب والسياحة، كان مثل هذا التعاون كافياً على الأرجح، لكن الكونفدرالية ستسهل على الدولتين معالجة المواضيع الأكثر صعوبة بصورة مشتركة.
وعلى سبيل المثال يمكن لإسرائيل وفلسطين إنشاء مؤسسات مشتركة لمعالجة الأمور التي تتعلق بالبنية التحتية أو الموارد، مثل الطيران المدني والجمارك والطاقة وحماية البيئة والهجرة والصحة العامة والنقل، وسيكون لكل دولة سلطة على أمنها الداخلي، لكن المؤسسات الكونفدرالية من شأنها أن تسهل التعاون الوثيق وتبادل المعلومات الاستخباراتية بين أجهزة الشرطة في كل جانب، وفي المقابل قد يُدار الأمن الخارجي من خلال مؤسسات مشتركة ترتبط بإطار أمني إقليمي.
ومن أجل ضمان حل النزاعات بين الدولتين بصورة سلمية وحماية حقوق الإنسان في جميع أنحاء الوطن المشترك، ستحتاج الكونفدرالية إلى مجموعة من المؤسسات القضائية المشتركة (تعمل جنباً إلى جنب مع المحاكم الوطنية)، ومن المحتمل أن تتطلب هذه المحاكم وغيرها من الهيئات الكونفدرالية مشاركة طرف ثالث في البداية من أجل بناء الثقة المتبادلة وتجنب المآزق، لكن يجب أن تكون جميعها مبنية على مبدأ المساواة الجماعية المتمثلة في فكرة أن كلا الطرفين متساويان وألا أحد يهيمن على الآخر، وهذا المبدأ ضروري بعد تجربة “اتفاقات أوسلو” التي ساعدت في إنشاء لجان مشتركة للتعاون في مجالات مثل الأمن وإدارة المياه والاتصالات، لكن الفلسطينيين شعروا في كثير من الأحيان أنها تستخدم أساليب قسرية وإجبارية معهم.
يذكر أن هيكلة الترتيبات الكونفدرالية حول المساواة الجماعية لا يعني أن الطرفين يجب أن يتفاوضا بقدرات متساوية، ففي عدد من المجالات، مثل القدرة الاقتصادية والرعاية الاجتماعية والرعاية الصحية والدفاع، ستكون هناك تفاوتات كبيرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين قد تتطلب من كل دولة أن تتولى أدواراً ومسؤوليات مختلفة [تتناسب مع قدراتها] أو أن تحصل على فوائد متباينة لفترة من الزمن، ومع ذلك فالمطلوب هو التزام معياري بالمساواة الفردية والجماعية، وإطار يضمن تحويل هذا الالتزام إلى واقع.
ضم الصفوف
إن إنشاء كونفدرالية إسرائيلية – فلسطينية سيكون صعباً للغاية، وفي الواقع قد يبدو لبعضهم أن سيناريو بناء دولة فلسطينية من أنقاض غزة والضفة الغربية المجزأة ثم الدخول في تعاون وثيق مع إسرائيل أمر مستحيل، ذلك أن العداوة بين الطرفين وعدم التوازن الشديد في القوة وتجاهلهما الصارخ للقانون الدولي تشكل عقبات هائلة أمام السلام، لكن هذه الحواجز تعوق أي حل مقترح، وفي المقابل تُعتبر الكونفدرالية أكثر قابلية للتطبيق من النهج القائم على الفصل والهيمنة، والأهم من ذلك هو أنها مصممة أيضاً لإقامة سلام مستدام وليس لإنشاء نظام يهدف إلى إدارة الصراعات الدائمة.
ومن أجل التغلب على هذه العقبات سيتعين على الإسرائيليين والفلسطينيين الحصول على مساعدة خارجية، بل وربما تكون هناك حاجة إلى إدارة انتقالية دولية تتمتع بالسلطة على الضفة الغربية وقطاع غزة، تُيسر نقل السلطة من الجيش الإسرائيلي إلى المؤسسات الحكومية الفلسطينية، وفي الأمد القريب ستكون مثل هذه الإدارة ضرورية لإحلال الأمن والنظام العام والإغاثة الإنسانية في المنطقتين، وفي الأمد المتوسط ستركز هذه الإدارة على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي والمساعدة في بناء دولة فلسطينية قابلة للحياة وتأسيس مؤسسات مشتركة في الكونفدرالية، وعلاوة على ذلك ستعمل الإدارة على تقليل الفجوات الاجتماعية والاقتصادية بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين، ولا بد من أن تحظى هذه الإدارة بتفويض من مجلس الأمن وأن تعمل بالتعاون مع كل من الحكومتين الإسرائيلية والفلسطينية، وأن تكون لديها أحكام واضحة تحدد متى تنتهي مهمتها.
في الوقت الحالي قد يبدو الحديث عن مثل هذه الإدارة سابقاً لأوانه، فمن الطبيعي أن يظل انتباه العالم منصباً على تحقيق وقف إطلاق النار الذي من شأنه أن ينهي القتل والدمار في غزة ويعيد الرهائن والسجناء لديارهم، ويقلل من فرص اندلاع حرب إقليمية أكبر، ولكن من أجل تحقيق كل هذه الأهداف لا بد من أن تسترشد الدول المعنية برؤية مستقبلية واضحة وموثوقة وعادلة، وأن تدرك أن شعبين، كل منهما يضم أكثر من 7 ملايين نسمة، سيستمران في العيش معاً في وطنهما المشترك، والواقع أن الاتحاد الكونفدرالي المبني على قيم الشراكة المتساوية وحرية الحركة يمثل بالضبط هذا النوع من الرؤية، وهو يوفر بديلاً مقنعاً لتطلعات القوميين المتطرفين الخطرة، ويجب أن يكون بمثابة بوصلة تساعد المسؤولين في تحديد المسار الذي يسلكونه في القرارات الصعبة خلال المرحلة المقبلة.