أمريكا

هل تدخل الولايات المتحدة مرحلة ” الشغور الرئاسي ” بعد الانتخابات المقبلة؟

الواضح أن الولايات المتحدة سوف تعيش شهورًا عصيبة بعد الانتخابات المقبلة، لكن أخطر السيناريوهات هو انتشار العنف بين الجمهوريين والديمقراطيين، وهو أمر لن يقود إلى الشغور فى المنصب الرئاسى فحسب؛ بل سيقود إلى حرب أهلية ثانية.

لأول مرة منذ الحرب الأهلية الأمريكية، تسود حالة من الشك و«عدم اليقين» بشأن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على تسليم السلطة للرئيس الفائز فى انتخابات الثلاثاء 5 نوفمبر المقبل؛ فالانقسام السياسى والأيديولوجى والمجتمعى والجهوى وصل إلى مستويات لا يمكن التحكم فيها، أو احتواؤها بالطرق التقليدية السابقة التى كانت تعالج من خلالها الانقسامات السياسية التى تعصف بالساسة والنخبة الأمريكية، ويصعب سرد كل الأسباب والدوافع التى يمكن أن تحول دون تجليس الرئيس الذى سيفوز فى الانتخابات الرئاسية المقبلة.

ولا يتعلق الأمر – هذه المرة – بالتجاذبات الحزبية فقط بين الديمقراطيين والجمهوريين؛ بل يعود أكثر إلى تشابكات وتعقيدات جديدة فى البنية السياسية، والتفاعلات الأمنية والسكانية فى الولايات المتحدة الأمريكية؛ فالمرشح الجمهورى دونالد ترامب ما زال يعتقد أن الانتخابات سُرقت عام 2020، وكرر ذلك فى المناظرة مع المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس فى فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا فى سبتمبر الجارى، وتكشف استطلاعات الرأى عن أنه بعد مرور ما يقرب من 4 سنوات على انتخابات 2020، ما زال نحو 72٪ من الجمهوريين يعتقدون أن الانتخابات سُرقت من مرشحهم الجمهورى، وعندما سُئل الرئيس الحالى جو بايدن عن تقديره لموقف ترامب من نتائج الانتخابات المقبلة، قال بصراحة إن ترامب لن يقبل بالنتيجة إذا خسر تلك الانتخابات.

لكن القراءة الدقيقة لواقع الحياة السياسية الأمريكية تقول إن الاتفاق على رئيس الولايات المتحدة القادم سوف يكون «معضلة شديدة»، حتى لو لم يكن ترامب هو مرشح الجمهوريين؛ فالشكوك وعدم الثقة بسلامة العملية الانتخابية الأمريكية تتخطى شخص ترامب وكل الجمهوريين، ووصل الأمر إلى الديمقراطيين والمؤسسات المستقلة فى الولايات المتحدة وخارجها، بعد تصنيف الولايات المتحدة بأنها «أقل الديمقراطيات موثوقية» فى مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، وتأتى فى المرتبة الأخيرة من حيث الثقة بالقضاء، ونزاهة الانتخابات؛ وذلك لأن الولايات المتحدة هى الدولة الرئاسية الوحيدة التى لا يفوز فيها تلقائيًّا المرشح الذى يحصل على أعلى الأصوات فى صناديق الانتخاب.

وبجانب المجمع الانتخابى، والمجمع الصناعى العسكرى، ولوبيهات رجال المال والأعمال، والتسريبات المخابراتية التى تؤثر فى توجيه الناخبين، هناك عوامل أخرى هذا العام تزيد حالة «الشك وعدم الثقة» بمن سيجلس فى البيت الأبيض يوم 20 يناير المقبل، وهذه العوامل الجديدة تتعلق بتركيبة المحكمة العليا الأمريكية وبنيتها، خاصة ما يتعلق بالتوجهات الأيديولوجية لقضاة المحكمة، والفجوة الزمنية الكبيرة بين يوم التصويت فى 5 نوفمبر، وتجليس الرئيس الجديد فى 20 يناير المقبلين، فضلًا عن انتشار السلاح والذخيرة، وثقافة العنف، على نحو غير مسبوق فى الشارع الأمريكى، فما هى سيناريوهات تسليم السلطة للرئيس الأمريكى القادم؟، وهل يمكن أن تعيش الولايات المتحدة حالة من «الشغور الرئاسى» فى 20 يناير المقبل؟.

لماذا الشكوك؟

تعود حالة الشك فى تسلم الرئيس الأمريكى القادم مهام منصبه فى 20 يناير المقبل إلى أسباب كثيرة، منها ما يتعلق بطبيعة النظام الانتخابى الأمريكى، وبعضها يعود إلى المستجدات السياسية والأمنية فى البلاد، حيث يرفع كلا الحزبين الجمهورى والديمقراطى «الحسابات الصفرية» فى وجه الطرف الآخر، إذ يعتقد المرشح الجمهورى دونالد ترامب أن فوز الديمقراطية كامالا هاريس سوف يقود إلى «انهيار» الولايات المتحدة، فى حين تقوم دعاية الديمقراطيين على أن فوز الجمهورى دونالد ترامب سيكون «نهاية» للديمقراطية الأمريكية، ولعل اتهام ترامب لمواقف هاريس وبايدن وتصريحاتهما بأنها وراء محاولات الاغتيال التى تعرض لها، تكشف عن طبيعة المسارات السياسية والأمنية الخطيرة التى يمكن أن تعقب يوم الانتخابات فى 5 نوفمبر المقبل؛ ولهذا تغيب الثقة هذا العام بقبول طرفى المعادلة الانتخابية نتيجة الانتخابات القادمة؛ لعدد من الأسباب وهى:

أولًا: توظيف أحداث ما قبل الانتخابات

كل من الحزبين الجمهورى والديمقراطى يوظف الأحداث التى جرت قبل الانتخابات لبناء موقف سياسى ضد الطرف الآخر بعد الانتخابات، يقوم على التشكيك فى النتيجة لو لم يفز هذا الحزب أو ذاك، فالرئيس جو بايدن ونائبته كاملا هاريس يؤكدان دائمًا شكوكهما فى قبول ترامب النتائج حال فوز هاريس، فى حين يؤكد الرئيس السابق دونالد ترامب أنه سوف يقبل بنتائج الانتخابات فقط إذا كانت نزيهة وغير مزورة، وهو هنا يمهد الطريق للطعن على نتائج الانتخابات كما جرى فى عام 2020، ومطالبته آنذاك لنائب الرئيس مايك بنس بعدم تثبيت النتائج فى 6 يناير 2021، وتؤكد كل استطلاعات الرأى أن عدد الجمهوريين الذين يطالبون ترامب بعدم قبول النتيجة حال سرقة فوزهم فى الانتخابات القادمة تجاوز 60٪، لكن الأكثر خطورةً أن 52٪ من هؤلاء قالوا إنهم مستعدون للنزول إلى الشوارع والمدن لإجبار مندوبى الولايات على عدم تثبيت كامالا هاريس إذا سرقت الانتخابات- حسب وصفهم.

إقرأ أيضا : سياسة أوروبا في إفريقيا: بلا خطة أو رصيد من الثقة

ثانيًا: الفوز الشعبى والفوز فى المجمع الانتخابى

ربما يفتح النظام الانتخابى الأمريكى الفريد من نوعه الباب لثغرات كثيرة، منها أن الرئيس الذى يفوز بأكبر عدد من الأصوات ليس شرطًا أن يكون هو الرئيس الذى يفوز بالانتخابات، أو يكون سيد البيت الأبيض القادم. وفكرة «المجمع الانتخابى» تبدأ أولًا باختيار المندوبين «أعضاء المجمع»، وبعد ذلك يجتمع المندوبون لاختيار الرئيس ونائب الرئيس، ثم تُفرَز أصوات المندوبين فى الكونجرس، وتختلف طريقة اختيار أعضاء «المجمع الانتخابى» من ولاية إلى أخرى، لكن بشكل عام، يتم اختيار المندوبين عبر مرحلتين، تبدأ الأولى بتقدم الحزبين الجمهورى والديمقراطى فى كل ولاية بقوائم المندوبين المحتملين ليصوت عليهم المواطنون، وفى المرحلة الثانية يتم التصويت على هؤلاء المندوبين، بمعنى أن التصويت للمرشح الرئاسى المفضل فى ولاية ما يعنى التصويت لصالح مندوبى حزبه فى تلك الولاية، وهؤلاء المندوبون يكونون أشخاصًا حزبيين، أو لهم علاقة بالحزب.

ويعود السبب فى فوز أحد المرشحين فى التصويت الشعبى، وخسارته فى المجمع الانتخابى، إلى أن المرشح الفائز فى أى ولاية يحصل على جميع أصوات مندوبى هذه الولاية. وبسبب التفاوت فى نسب الأصوات التى يفوز بها كل مرشح، فإن أحد المرشحين قد يحصل على أصوات أقل على المستوى الوطنى، لكنه ينجح فى المجمع الانتخابى، فعلى سبيل المثال، فى انتخابات 2016 فاز ترامب بهامش بسيط جدًّا فى ولايات فلوريدا، وبنسلفانيا، وويسكونسن، لكنه حصل على جميع أصوات المندوبين فى هذه الولايات رغم فوز كلينتون بولايات كبيرة أخرى، مثل كاليفورنيا، وإلينوى، ونيويورك، بهوامش أوسع بكثير. ويحتاج الفائز إلى الحصول على 270 صوتًا من أصوات المجمع الانتخابى الذى يتكون من 438 صوتًا.

ثالثًا: الفجوة الزمنية بين إجراء الانتخابات واعتماد النتيجة

تستغرق هذه العملية شهرين كاملين من يوم 5 نوفمبر حتى يوم 6 يناير، وهى فترة يتوقع أن تشهد جدلًا كبيرًا، وربما تشهد مظاهرات وعنفًا سياسيًّا بين الحزبين الديمقراطى والجمهورى، فعقب انتخابات 2016 تظاهر الديمقراطيون فى الشوارع ضد فوز ترامب، وفى انتخابات 2020 رفض ترامب وأنصاره النتيجة، وبعد شهر ونصف الشهر من الانتخابات، أى فى 17 ديسمبر المقبل سوف يجتمع المجمع الانتخابى ليصوت لاختيار الرئيس ونائبه فى اقتراعين منفصلين، لكن قبل ذلك، وفى 26 نوفمبر المقبل سوف يصدر الحكم على ترامب فى قضية دفع أموال فى مانهاتن، وهنا يمكن لترامب إذا فاز فى الانتخابات أن يمارس الحكم خلف أبواب السجن، لكن حتى لو لم يُسجَن فإن الفائز فى الانتخابات سوف ينتظر إلى جلسة مجلس الشيوخ التى سوف تعقد يوم 6 يناير المقبل لتثبيت النتيجة التى تم التوصل إليها فى 17 ديسمبر بعد فرز أصوات المندوبين أمام أعضاء مجلس الشيوخ بقيادة نائب الرئيس، وهذه المرة، فى 6 يناير المقبل، سوف تكون لكامالا هاريس صفتان؛ الأولى أنها نائبة للرئيس، ومن ثم سوف تترأس اجتماع تثبيت النتيجة، والأخرى أنها مرشحة أيضًا، وهذا سوف يضيف تعقيدات جديدة إلى قضية الاعتراف بالنتيجة.

رابعًا: انتشار السلاح والقتل الجماعى

نتيجة لانتشار أكثر من 400 مليون قطعة سلاح فى الولايات المتحدة الأمريكية، بات القتل الجماعى سلوكًا مألوفًا بعد قتل طفل يبلغ من العمر 14 عامًا فى ولاية جورجيا الأمريكية 4 أمريكيين، وإصابته 9 آخرين، بل إن نائبة الرئيس كامالا هاريس اعترفت أن لديها سلاحًا شخصيًّا فى المنزل فى لقائها مع الإعلامية أوبرا وينفرى الشهر الحالى، وهو ما يجعل تظاهر ملايين الأمريكيين فى الشوارع ضد أى نتيجة لا ترضى طرفى العملية السياسية الأمريكية بمنزلة «قنابل موقوتة» تتحرك فى الشوارع والمدن، فخلال السنوات الأربع الماضية، وقع ما لا يقل عن 2373 حادث إطلاق نار جماعى فى الولايات المتحدة، وفى عام 2024 وحده وقع 385 حادث إطلاق نار حتى 5 سبتمبر الحالى، وخلال الفترة من 2001 حتى 2020 قُتل نحو 60250 شخصًا بالأسلحة النارية، وهو ما يضع الولايات المتحدة أمام حقيقة مرعبة، وهى أن أى خلاف سياسى فى الشارع نتيجة لرفض نتيجة الانتخابات الرئاسية المقبلة يمكن أن يتحول إلى مجازر وقتال جماعى بين الجمهوريين والديمقراطيين.

4 سيناريوهات

نتيجة للعوامل السابقة وغيرها، يمكن أن نشهد 4 سيناريوهات رئيسة تؤدى إلى الشغور الرئاسى الأمريكى، أو تعطيل تنصيب الرئيس القادم، وهذه السيناريوهات هى:

الأول: اغتيال ترامب

وهو سيناريو ليس ببعيد، بعد أن كان القاتل قاب قوسين أو أدنى من قتل ترامب مرتين؛ الأولى عندما أصيب ترامب فى أذنه فى تجمع انتخابى فى الهواء الطلق بولاية بنسلفانيا فى 13 يوليو الماضى، والثانية كانت فى 16 سبتمبر الحالى فى ملعب الجولف بولاية فلوريدا، وهو ما يقول إن اغتيال ترامب -حتى لو فاز فى الانتخابات المقبلة- ليس بعيدًا، وعندئذ سوف يأتى السؤال: هل يحق لنائبه جى دى فانس تولى الرئاسة (رغم عدم تنصيب ترامب)، أم تُعاد الانتخابات؟، أم تتولى كامالا هاريس؟.

الثانى: التعادل فى المجمع الانتخابى

وهذا السيناريو مرجح جدًّا هذه المرة فى ظل التقارب الشديد بين المرشحين الديمقراطى والجمهورى فى «الولايات المتأرجحة»، وهو ما يمكن أن يقود إلى تعادل المرشحين فى المجمع الانتخابى، وحينئذ سوف يتم الذهاب إلى مجلس النواب لحسم النتيجة، وهذا السيناريو لو حدث سوف يكون لصالح ترامب نظرًا إلى تمتع الجمهوريين بتفوق واضح فى مجلس النواب.

الثالث: سيناريو انتخابات 2000

ويمكن أن يحدث هذا السيناريو إذا خسرت كامالا هاريس ولايات فلوريدا، وبنسلفانيا، وميشغان، وأوهايو، وفى حال نشوب نزاع بشأن النتيجة، والذهاب إلى المحكمة العليا، ستكون هناك أفضلية أيضًا لترامب؛ حيث هناك أغلبية جمهورية فى توجهات قضاة المحكمة بعد أن نجح ترامب فى تعيين 3 منهم خلال ولايته الأولى، لكن خطورة هذا السيناريو أنه قد يدفع الديمقراطيين إلى عدم الاعتراف بالنتيجة اعتمادًا على الزعم بأن أغلبية القضاة جمهوريون ومنحازون إلى ترامب، خاصة بعد قرار المحكمة بشأن الإجهاض، وحصانة الرئيس، ويشبه هذا السيناريو سيناريو انتخابات عام 2000 بين جورج بوش الابن وآل جور، التى فاز فيها جورج بوش الابن.

الرابع: سيناريو 2020

ويقوم هذا السيناريو على رفض الجمهوريين للنتيجة، والتشكيك فى فوز كامالا هاريس. واستعدادًا لهذا السيناريو؛ رفعت حملة ترامب من الآن أكثر من 100 دعوى فى الولايات المتأرجحة. ورغم خسارة ترامب هذا السيناريو عام 2020، فإن غالبية الجمهوريين يقولون إنهم لن يتركوا هذا السيناريو يتكرر مرة أخرى مهما كلفهم الأمر من ثمن، خاصة أن خسارة ترامب يمكن أن تقوده بالفعل إلى السجن.

الواضح أن الولايات المتحدة سوف تعيش شهورًا عصيبة بعد الانتخابات المقبلة، لكن أخطر السيناريوهات هو انتشار العنف بين الجمهوريين والديمقراطيين، وهو أمر لن يقود إلى الشغور فى المنصب الرئاسى فحسب؛ بل سيقود إلى حرب أهلية ثانية.

مركز الدراسات العربية الأوراسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى