فى 6 أغسطس الماضى، هاجمت القوات المسلحة الأوكرانية مدينة كورسك الحدودية، فى مفاجأة حملت تساؤلات كثيرة لدى الشارع الروسى والنخبة السياسية فيه، وسلطت الضوء من جديد على الداخل الروسى، والتحديات التى يطرحها هذا الاختراق، الذى يعد أول اختراق للحدود الروسية المعترف بها دوليًّا منذ الحرب العالمية الثانية؛ مما جعل بعضهم يصفه بـ«الطعنة الثانية فى الظهر»، وهو التعبير الذى استخدمه الزعيم الروسى فلاديمير بوتين، واصفًا تمرد مجموعة فاجنر العسكرية قبل عام.
لماذا كورسك؟
تقع كورسك على بعد نحو ١٥٠ كيلو مترًا من الحدود مع أوكرانيا، وتمتد على طول نهر سيم، وتبعد عن العاصمة موسكو نحو ٥٣٠ كيلو مترًا.
تعد كورسك فى الذاكرة التاريخية والسياسية الروسية مدينة المجد العسكرى والصمود الأسطورى؛ حيث هُزمت القوات الألمانية على أرضها خلال الحرب العالمية الثانية.
إلى جانب الذاكرة التاريخية للمدينة، وحضورها المتميز فى الذاكرة الجمعية للشعب الروسى، تُعد المدينة مركزًا صناعيًّا مهمًّا، كما تعد كذلك قطبًا زراعيًّا مهمًّا للدولة الروسية، حيث تعد من المنتجين الكبار للحبوب وغيرها من المحاصيل الزراعية المتنوعة؛ ما جعلها مدينة الاستثناء فى الجمع بين القطاعين الزراعى والصناعى.
كيف تم التوغل؟
استخدمت القوات الأوكرانية تكتيكات فاجأت هيئة القيادة العسكرية الروسية؛ حيث تزامن التوغل، بالإضافة إلى عنصر المفاجأة، مع عملية تعطيل أجهزة الاتصالات والتواصل على طول الحدود بين المقاطعة وأوكرانيا؛ مما جعل القوات الدفاعية الروسية المسؤولة عن حراسة الحدود فى حالة وهن وتعطل تام، وهو ما يفسر سقوط كثير من تلك القوات بين قتيل وأسير.
بعد ذلك، استمر التوغل الأوكرانى قبل تدخل الطيران الروسى الذى تمكن من إيقاف التقدم السريع للقوات الأوكرانية.
كيف تعاملت السلطات الروسية مع التوغل المفاجئ؟
وصف الرئيس الروسى فلاديمير بوتين تصرفات القوات الأوكرانية بأنها «استفزاز واسع النطاق»، وأضاف أن كييف تطلق النار عشوائيًّا من مختلف أنواع الأسلحة على البنية التحتية المدنية، والمبانى السكنية، وسيارات الإسعاف.
كما أعلن الرئيس بوتين حالة الطوارئ فى المقاطعة الحدودية، وأبلغ قائد الجيش الروسى« فاليرى غيراسيموف» بوتين بقتل نحو ١٠٠ من الجنود الأوكرانيين.
تقول بعض تقديرات خبراء عسكريين روس إن عدد القوات الأوكرانية المشاركة فى عملية التوغل يقارب عشرة آلاف مقاتل.
توالت الانتقادات للقيادة العسكرية الروسية، خاصة الموجهة إلى قائد الجيش غيراسيموف، حيث أشارت بعض التقارير إلى أن المخابرات الروسية قدمت قبل التوغل بأيام قليلة تقارير تفيد بإعداد قوات كبيرة أوكرانية فى مدينة سومى الأوكرانية الحدودية القريبة من كورسك، وتحركات مريبة لها، وهى التقارير التى تم تجاهلها على المستوى الأعلى؛ مما أدى إلى حصول المفاجأة الكبرى، ونجاح التوغل الأوكرانى نسبيًّا.
بعد ذلك بأيام، صرح الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بأن أهداف كييف من التوغل هى ضرب اللحمة الاجتماعية لروسيا، وتفكيك استقرارها السياسى، والأهم هو إبطاء وتيرة التقدم الروسى السريع فى دونيتسك ومحاور أخرى، وأضاف أن «تقدمنا هناك يقاس الآن بالكيلومترات». وأوضح أن كل تلك الأهداف فشلت، حيث استطاعت الدولة الروسية إجلاء عشرات الآلاف من سكان القرى الحدودية، وتم استيعابهم فى مراكز إيواء بعاصمة المقاطعة كورسك.
أما فيما يتعلق بهدف تشتيت القوات الروسية، فقد أضاف بوتين أنه لا تغيير على مستوى الخطة، أو انتشار القوات المسلحة الروسية، وعبّر عن ثقته التامة فى قدرة القوات المسلحة الروسية على طرد المهاجمين الأوكرانيين، وتطهير المنطقة.
الهجوم المضاد الروسى
بدأ الهجوم الروسى المضاد على وحدات الجيش الأوكرانى التى سيطرت على بعض القرى فى كورسك، وحسب تقارير عسكرية عدة، استعاد الجيش الروسى ما يقارب عشرة تجمعات سكنية. ويبدو أن زخم الهجوم يتصاعد، مع أن كثيرًا من المحللين يشير إلى أنه قد يطول بسبب التمركز والدفاعات التى شيدها الأوكرانيون. كما زاد صعوبة العملية تدمير الجسور على نهر سيم الذى قام به الجيش الأوكرانى فى الساعات الأولى من الهجوم المباغت.
على الصعيد السياسى، عين الرئيس الروسى فلاديمير بوتين مساعده ورجل ثقته أليكسى ديومين لقيادة الجهود العسكرية، والتنسيق الأمنى فى منطقة كورسك، وربما يكون هذا اعترافًا مبطنًا من الكرملين بنقاط الضعف التى ظهرت لدى الجيش الروسى، وأهمها:
١- عدم التقدير الدقيق لقوة العدو، وبالتالى عدم القدرة على تحليل الخطوة التالية له والتنبؤ بها، وهو ما ظهر فى عدم التنبؤ بالهجوم المفاجئ فى كورسك.
٢- التراتبية الصارمة لدى الجيش الروسى، حيث يفقد الضباط الأقل رتبة فاعلية الارتجال ووضع الخطط البديلة، وهو أمر بالغ الأهمية فى الحروب الحديثة وتكتيكاتها السريعة والمفاجئة فى الغالب.
يبدو أن الكرملين ما زال يمارس عملية الصبر الاستراتيجى على الساحة الأوكرانية، ويدرك أن تصعيد كييف الأخير جاء بمباركة غربية، وبأدوات وأسلحة غربية. هذا الصبر الاستراتيجى يدرك أن الدولة الأوكرانية تعانى الآن مشكلات كبيرة فى عملية التعبئة، والتعب، والشعور العام بالإنهاك، والسؤال هو: إلى متى سيستمر كل هذا؟
كذلك، فإن قرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، التى قد تسفر عن فوز ترامب، قد يغير السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة مع تصريحاته الشهيرة عن إنهاء الحرب خلال ٢٤ ساعة من توليه الحكم.
مع ذلك، تدرك القيادة السياسية الروسية أهمية استعادة الأراضى الروسية، وما يمثله ذلك من طمأنة للداخل والشعب الروسى عامةً؛ ومن ثم يبدو أنها حريصة على نجاح الهجوم المضاد فى أقرب وقت ممكن، وبأقل الخسائر.
3 تعليقات