عام على بدء الحرب: المأساة وحديث اليوم التالي وأشياء أخرى!
ما يثير الاستغراب والدهشة هذه الأيام، هو حديث الفصائل عن أدوار مستقبلية في مشهد اليوم التالي للحرب، وهي لا تعرف معالمه، ولا متي سيبدأ، ولا حتى الطريقة التي ستقف بها هذه الحرب. هناك من لا يزال يستخف بعذابات الناس.
عندما اندلعت الحرب على غزة، افترضت أنها لن تستمر سوى أشهر قليلة، وكنت على خطأ، فها هي بعد أيام، تطوي عامها الأول، دون أن يلوح في الأفق حل قريب.
ورغم أن غزة معتادة على الحروب، لكن الأخيرة ليست كأي حرب، وليس من قبيل المبالغة أنها قلبت حياة الغزيين رأساً على عقب، وحولتها إلى كابوس لا ينتهي، حيث تتوالى الأزمات واحدة تلو الأخرى، وكأنما كتب على هذا القطاع أن يعيش في دوامة لا تنتهي من القتل والنزوح والألم والمعاناة والجوع.
في غزة، يترصدك الموت حيثما كنت، في البيت، وأنت تتجول في الشارع، في صورة قصف مفاجئ من الطيران أو قصف مدفعي، رصاصة طائشة أو مقصودة، من بندقية أو مسيرة. من لم يمت بالقصف أو بالرصاص، مات بالمرض أو الجوع أو بالقهر من هول الأوضاع. اليوم تنتشر المجاعة في الشمال، ولم يبق في الناس من صور الحياة سوى جلد وعظم، وفي الجنوب لا يزال نقص المواد الغذائية حاداً، ومعدلات سوء التغذية وأسعار الغذاء تبلغ عنان السماء. بينما تقف الأوبئة كعدو جديد يتحضر لحصد الأرواح، في ظل انهيار النظام الصحي بفعل الحرب المستمرة. وموسم الشتاء الذي يقف على الأبواب، وما يعنيه من سيول وغرق الخيام، وزيادة المعاناة وصعوبات الحياة اليومية، خاصة بعد منع الاحتلال دخول الخيام والشوادر والأغطية وغيرها من مستلزمات فصل الأمطار.
حياة النزوح، أصبحت مشهداً مألوفاً، فأغلب العائلات تعيش إما في مراكز الايواء المكتظة وغير المجهزة، أو في خيم مؤقتة، نصبتها في الشوارع العامة والأراضي الفارغة وعلى شاطئ البحر، بعد أن أجبرها الاحتلال على ترك منازلها، ووجدت نفسها مشردة بلا مأوى ولا مال ولا ملابس ولا غذاء ولا ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا رعاية ولا خدمات ولا بنية تحتية.
لم يلتفت أحد، إلى الدمار الذي تتركه الحرب في النفوس البشرية، لا أحد يهتم بالصحة النفسية، الناس تعاني من مشاهد القصف والقتل والعنف والدماء والدمار، ومن غلاء الأسعار والفلتان والفوضى، والعيش في رعب وقلق وتوتر دائم، أصوات القصف المتواصلة والانفجارات التي لا تتوقف، وصلة تعذيب مستمرة للصغار والكبار، الكل يحاول أن يتعايش مع تلك الآثار النفسية، فلم يعد هناك مجالاً للتنفيس، ولا تقديم الدعم النفسي لتجاوز هذه المحن. أكثر ما يقلق في الحرب، هو تأثيرها على الأطفال، فهم يعيشون ظروفاً مأساوية، بلا دعم ولا مساعدة ولا تعليم للعام الثاني على التوالى.
اقرأ أيضا| سرقة الأرض وتهويدها وسياسات التهجير المتلاحقة
هنا، ترى في عيون الناس بوضوح الحرب والموت والفقد والفزع واليأس، تحاول إظهار رباطة الجأش وبث الأمل والقوة، لكن دون جدوى. لقد دمرت الحرب كل شيء جميل، ليس المباني والبنية التحتية فقط، بل أيضاً استهدفت النسيج المجتمعي، الذي كان مضرباً للمثل في الوحدة والتماسك. قتلت الحرب الأمل، وألقت بالسكان في هاوية اليأس، يكافحون للبقاء على قيد الحياة في ظل ظروف لا يمكن لأي إنسان خارج غزة أن يتخيلها.
ما يزيد من الألم، هو انعدام التضامن من المجتمع الدولي والمنظومة العربية والإسلامية. فقد تم تجاهل مآسينا، وأدار الكل لنا ظهره، وصرنا أرقاماً في نشرات الأخبار، مجرد قصص تُروى في المناسبات والسهرات والتقارير الإخبارية، دون أن تترجم الكلمات والبيانات والإدانات إلى أفعال حقيقية، توقف هذه الإبادة والمأساة الإنسانية التي تتفاقم بمرور الوقت.
هذا هو الواقع الكارثي المعاش في غزة، وكنت أتصور أنه سيدفع بقوة للوحدة الوطنية، وسيقود لثورة تصحيح شاملة، تنقذ الشعب من الأهوال والمأسي وحالة الضياع والدمار الشامل التي يعيشها، لكن خاب ظني، فالواضح اليوم أن هذه القيادات في كوكب آخر غير الذي نعيش فيه.
لقد أظهرت الحرب ما كان خافياً من سطحية وفهلوة وجهل وغرور وعناد من يتصدر المشهد السياسي والحزبي والإعلامي، وأظهرت أيضاً المعايير التي يتم اختيارهم على أساسها. يكفي أن تتأمل الوجوه لتدرك هذه الحقيقة بوضوح تام.
ما يثير الاستغراب والدهشة هذه الأيام، هو حديث الفصائل عن أدوار مستقبلية في مشهد اليوم التالي للحرب، وهي لا تعرف معالمه، ولا متي سيبدأ، ولا حتى الطريقة التي ستقف بها هذه الحرب. هناك من لا يزال يستخف بعذابات الناس، ويتحدث بنفس الضبايبة عن مصالحة وحكومة جديدة ودمج وإعادة هيكلة، بينما يجاهر آخرون بأحقيتهم في الحكم، والحصول على المناصب والمكاسب والامتيازات، بناء على نتائج حرب لم تضع أوزارها بعد، وما يعنيه ذلك من فرض وصاية مستقبلية، وقفز عن مبدأ المحاسبة، واستعداد واضح للهيمنة والاستفادة حتى لو كان ذلك على أطلال وأشلاء وطن.
إن هذه الأقوال والأفعال، تكشف بوضوح عمق أزمة الفصائل وانفصالها عن الواقع، فهي تقول الشيئ وضده في نفس الوقت، تتعمد استفزاز الرأي العام، نعم تتعمد، واشعار المواطن بعدم الإحساس بمعاناته، ولا بالأذى الكبير الذي لحق به. الكثير مما يقال، لولا أن البلد غارقة في الأحزان، لكان مادة كوميدية من الطراز الفاخر لبرنامج سياسي ساخر. لا تملك وأنت تتأمل المشهد إلا أن تشعر بالأسى على أحوالنا، وبالقلق العميق طالما هذه الوجوه والأفكار والرؤى هي من تتحكم في مصير البلاد والعباد.
ختاماً، أتمنى من الفصائل، أن تنظر حواليها لترى معاناة المواطنين وما فعلته الحرب بهم. غزة تنزف دماً وألماً وقهراً، ولم تعد تحتمل أكثر، لا شيء يستحق هذا الدمار. ولذلك، بدلاً من الهروب للأمام، والانشغال بالحديث عن اليوم التالي للحرب، حبذا لو تم التركيز على اليوم الحالي، فهو الأكثر أهمية والأولى بالاهتمام. المطلوب أولاً، وقف الحرب وحقن الدماء، وإحياء الأمل وإعادة الحياة الطبيعية لغزة، ومن يفعل، سيكون بكل تأكيد، المُخلص، وسيد اليوم التالي!
2 تعليقات