السودان والازمة الإنسانية القاتلة
كان الجنوبيين اذكى الشعوب السودانية قاطبة ، لانهم فهموا اللعبة منذ وقت مبكر، ففضلوا الانفصال، ومعهم النوبة وقبائل النيل الأزرق عبر الحركة الشعبية لتحرير السودان
تمثل الأزمة في السودان، التي جاءت تتويجا لعقود من الصراع وعدم الاستقرار السياسي والفوارق الاجتماعية والاقتصادية، نسيجا معقدا من التحديات التي أثرت بعمق على الأمة وشعبها. تهدف هذه السلسلة إلى كشف شبكة العوامل المعقدة التي أدت بالسودان إلى وضعه الحالي، وكشف القضايا الأساسية التي تكمن وراء الأزمة الإنسانية المستمرة. في هذا الجزء الأول، نتعمق في الأسباب الجذرية للاضطرابات في السودان، ونتتبع الخطوط التاريخية والسياسية والاقتصادية التي شكلت مصيره.
تبدأ رحلتنا باستكشاف الاختلالات السياسية والاقتصادية العميقة الجذور التي ابتلي بها السودان منذ استقلاله. يكشف السرد كيف أدت سنوات من سوء الإدارة والفساد وفشل الحكم المنهجي إلى معاناة واسعة النطاق وعدم الاستقرار. ومن خلال دراسة الطبيعة المتعددة الأوجه لهذه الأسباب الجذرية، بما في ذلك التوترات العرقية وعسكرة الانقسامات المجتمعية، فإننا نهدف إلى تقديم فهم شامل لأسس الأزمة.لا يعد هذا الاستكشاف بمثابة سرد للتحديات التي يواجهها السودان فحسب، بل يعمل أيضًا كأساس للحوار حول المسارات المحتملة نحو السلام والاستقرار والازدهار. وبينما نبحث في ثنايا هذا المشهد المعقد لماضي السودان وحاضره، ندعو القراء إلى التفكير في الآثار العالمية والمحلية لهذه الأزمة، مع التأكيد على الحاجة الملحة إلى بذل جهود متضافرة في معالجة القضايا العميقة الجذور المطروحة.
حيث ان السودان ظل متورطا في صراع معقد، و ممتد عبر التاريخ لم يمزق نسيج مجتمعه فحسب، بل أدى أيضا إلى حدوث أزمة إنسانية حادة وخانقة. والأسباب متعددة الأوجه، وتمتد جذورها إلى عقود من عدم الاستقرار السياسي، والتوترات العرقية، والفوارق الاقتصادية. إن الحلول، رغم كونها صعبة، إلا أنها حتمية وتتطلب جهودا متضافرة من كل من المجتمع الدولي والقيادة السودانية المومنة بالسلام والاستقرار التنمية والانتقال من مثلث الحرب، الانقلابات والديمقراطية الموودة، إلى دائرة الازدهار.الأسباب الجذرية
تكمن في قلب أزمة السودان قضايا سياسية واقتصادية عميقة الجذور، وهي جاءت بسبب الاختلال البنيوي للدولة السودانية. يقول الدكتور أمين محمود، الخبير في الشؤون السياسية الأفريقية: “لقد تركت سنوات من سوء الإدارة والفساد والصراع الاقتصاد في حالة يرثى لها”، مما يؤكد كيف ساهمت إخفاقات الحكم المنهجية في الوضع الحالي الذي نعيشه، ويقول د بخيت اوبي في مقاله بتاريخ 23 فبراير صحيفة الراكوبة: ” لقد مر السودان بأزمات متتالية ومتواترة بعد ميلاد الدولة ووضع أسس بنائها أول الأمر، إذ لم يكن قد بنى أركانه على أسس متينة تقوى على مواجهة تقلبات الظروف ، مناخا سياسيا ملغومة وفضاءات مفتوحة للاختلافات والاختلالات والأطماع ، شكلت بيئة خصبة لإنبات جميع انواع الاستيعاب والإقصاء والاستبعاد أو الإلغاء، بقوالب متنوعة ثقافية ودينية وقومية وعرقية وغيرها، تحولت من صراع الآراء والرؤى والأفكار والتصورات إلى صراع عنيف ولا عقلاني، دفع ثمنه القاطنون على هذه البقعة من الأرض التي لا تتوقف أزيز مدافعها إلا لتبدأ حلقة جديدة من الحرب والدمار” وقد لعبت التوترات العرقية أيضاً دوراً حاسماً. ويُعَد الصراع الذي أدى الى انفصال جنوب السودان، والصراع في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق بالاضافة الى الصراع في دارفور، الذي بدأ في عام 2003، مثالاً ساطعاً لكيفية عسكرة الانقسامات العرقية، الأمر الذي أدى إلى انتشار أعمال العنف والنزوح على نطاق واسع. وتفيد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن “أكثر من 2.5 مليون شخص قد نزحوا في دارفور وحدها، ويعيش العديد منهم في ظروف محفوفة بالمخاطر في مخيمات اللاجئين”. بعد خلفت حرب دارفور حتى العام 2019 أكثر من 250 ألف قتيل، سبقتها حرب الجنوب إذ تجاوز عدد القتلى فيها 750 ألف قتيل، مما تسبب في انفصال جنوب السودان.
نتيجة لمطالب موضوعية، لكن لم تحتملها النخب الحاكمة في الخرطوم والمسيطرة على الثروة والسلطة، واستخدم الجيش للاستئثار بالسلطة والثروة، مع ضمان استمرار الحروب في الأقاليم لضمان الاستثمار في موارد الإقاليم. واستغلالها في غفلة من أهلها المشغولين بحروب متناسلة، وتهم متسلسلة أما يوغنديين كما في حرب جنوب السودان، أو تشاديين كما حدث للقيادي الإسلامي الكبير المنشق د خليل ابراهيم ومني اركو مناوي وعبدالواحد محمد نور في حرب دارفور او في الحرب الجارية بانهم تشاديين ومن النيجر وغيرها. في خطوة للهروب من الاجابة عن السؤال الموضوعي لماذا كل الاقاليم منذ الاستقلال في حالة حرب مستمرة ضد الخرطوم الحكومة رمزا والهي حكومات ظلت تتوارثها قبائل تعد بأصابع اليد من شمال السودان. وزادت الطين بلة حرب 15 أبريل 2024 التي نقلت الصراع إلى أبعاد يصعب تصورها ولكن يمكن قراءتها من خلال آثارها المدمرة على الصعيد الإنساني والتنموي مقرونة بالاصطفاف الاثني والجهوي. خلفت كل هذه الحروب عدد لا حصر له من اللاجئين والنازحين، تخيل ان الذين نزحوا منذ العام 2003 في دارفور مازالوا حتى اليوم في خيام معسكرات النازحين، والأطفال الذين ولدوا منذ ذاك التاريخ اليوم بلغوا من العمر 20 عام وهم في مخيمات ومعسكرات النازحين حتى اليوم. وهي دليل موضوعي للانقسام الشعبي حول حروب السودان، وان الوجدان السوداني ليس واحد كما يحاول البعض الترويج لذلك لانه العقل المركزي لا كما يقول د الوليد مادبوا ” إن “العقل المركزي” لا يستعظم الفاحشة ولا يحسبها ظلماً إلّا إذا ارتكبت في ذويه، ولا يستنكر المنكر ولا يحسبه إثماً إلّا إذا طاول ساحته.
وها هم فجأة يتباكون على دارفور وما حدث فيها من خراب بل ويتظاهرون بالتعاطف مع النازحات في غرب البلاد وقد نسوا أن هؤلاء النسوة مكثن وأطفالهن ما يزيد عن العقدين من الزمان في هذا العراء وتلكم المسغبة”. كان الجنوبيين اذكى الشعوب السودانية قاطبة ، لانهم فهموا اللعبة منذ وقت مبكر، ففضلوا الانفصال، ومعهم النوبة وقبائل النيل الأزرق عبر الحركة الشعبية لتحرير السودان، ولحقت بهم دارفور الفور والمساليت والزغاوة عبر حركات دارفور المنتشرة، وها هو الدعم السريع يلحق بذات الطريق في حربه ضد المركز المسيطر عبر بوابة الجيش والأمن والاقتصاد. حينما ثارت هذه المجتمعات ضد المركز الذي تسيطر عليها قبائل بعينها. فنتج واقع من الحروب، والنزاعات الأهلية التي كانت تديرها الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن الوطني والمخابرات بصورة مفتعلة في تلك الاقاليم، هذه الحروب هي التي شكلت تاريخ السودان. وتركت آثار سواء في صحائف المسار الإنساني ومعاناة لا حصر لها سنتناولها في سلسلة ثنايا هذا المقال.