الرئيس التونسي قيس سعيد كان مشغولا لسنتين بإعادة بناء المؤسسات عبر سلسلة من الانتخابات المركزية والمحلية، ولا حديث له سوى عن مواجهة المؤامرة السياسية وتفكيك اللوبيات، وحان الوقت لأجل الالتفات إلى القضايا الحيوية المؤجلة، وهو ما بدأ قيس سعيد يلتفت إليها، خاصة المسألة الاقتصادية وملفات الثقافة والرياضة.
من حق الرئيس سعيد أن يعيد بناء المؤسسات الدستورية عبر انتخابات تعطي شرعية لنظامه، حتى لو كانت انتخابات شكلية ونسب المشاركة فيها محدودة، وحتى لو كان الناس لا يهتمون لها ومنشغلين عنها بتفاصيل حياتهم اليومية. يكفي أن تلك الانتخابات أفرزت مؤسسات منتخبة سيكون عليها أن تنفذ تفاصيل نظام الحكم القاعدي الذي يتبناه الرئيس.
ليس المهم الشكل والمشروعية الدستورية، ولكن الشرعية التنفيذية التي تكتسبها المؤسسات من أدائها وقدرتها على تحسين واقع الناس. جربنا الديمقراطية الليبرالية الاستعراضية لعشر سنوات، ورأى الناس بأمّ أعينهم أن أحزاب اليمين والوسط واليسار من إسلاميين وناصريين ويساريين بمللهم ونحلهم المختلفة ليس لديهم سوى فائض الكلام والشعارات والقدرة على استدعاء صراعات الماضي.
لأجل لذلك تظاهر الناس مطالبين برحيل الطبقة السياسية الماضية ودعّموا إجراءات قيس سعيد في 25 يوليو 202. كان المهم بالنسبة إليهم تغيير منظومة الكلام والعودة إلى منظومة البناء، ولذلك هم لا يتباكون على الديمقراطية بالرغم من كونها فكرة جذابة للكثير من خريجي التعليم في الدولة الوطنية.
عاد الناس مضطرين لدعم حكم الرجل الواحد، وليس مهمّا أن يكون ديمقراطيا أو حاكما بأمره، المهم أن يبدأ التغيير الذي يغير حياتهم نحو الأفضل. دعمت نسبة كبيرة من التونسيين إجراءات قيس سعيد، التي كان من ضمنها حل برلمان 2019 المشكل من أحزاب وكتل متنافرة، واستحسنوا فكرة تحييد الأحزاب عن حكم الدولة والتخفيف من قبضة الاتحاد العام التونسي للشغل المتحكمة في القطاع العام بالاعتصامات والإضرابات.
بعد هذا كله، فإن الناس ينتظرون أن تبدأ عجلة التغيير في الدوران. بدأ الانتظار ينفد من حديث الرئيس سعيد عن محاربة الفساد واللوبيات وكارتلات الدولة العميقة وتأثيرها على غلاء الأسعار وندرة السلع وخاصة المواد الحيوية.
يريد الناس أن يروا أن تلك الحرب قد آتت أكلها عمليا بخفض الأسعار التي ما تزال في السماء، وأن يتم حل أزمة المواد الحيوية من خبز وزيت وسكر وحليب وقهوة. ولا شك أن هذه المخاوف ستزداد مع اقتراب شهر رمضان الذي يزيد فيه الاستهلاك ويتضاعف وترتفع فيه درجات اللهفة على تخزين السلع وبيعها بأسعار أكبر.
يطالب البعض الرئيس سعيد بأن يكلف المؤسسة العسكرية بإدارة القطاعات الحيوية، وأن يأخذ الجيش بقبضة من حديد مهمة توريد السكر والقهوة والقمح والدقيق، وأن يمسك بمسالك التوزيع بما في ذلك التفاصيل الصغيرة التي تهم كميات التوزيع والمستحقين.
والسبب أن الثقة اهتزت في الإدارة بمستوياتها المختلفة خاصة أن الحكومة لم تأخذ على عاتقها مهمة إحداث تغيير في المهام والمأموريات الحيوية عدا أن الرئيس سعيد قام بتغيير رئيس ديوان الحبوب والمدير العام لديوان السياحة بسبب الإخفاقات. البلاد تحتاج إلى تغييرات لا تأخذ في حسابها مراعاة أيّ جهة لا منتسبي الأحزاب ولا النقابيين ولا اللوبيات التي تسري في الإدارة مسرى الدم في العروق وتحتاج إلى إجراءات قوية وسريعة ورادعة.
وما يزيد من صعوبة مواجهة هذه اللوبيات أن عملها قانوني، فهي تقوم بأنشطتها عبر هياكل مختلف المؤسسات، وتحصل على الصفقات والقرارات والامتيازات عبر المسالك العادية وتحوز توقيع المسؤول المعني دون إثارة أيّ شبهات، وتشغّل معها سلسلة من الشبكات والموظفين وتمنحهم مزايا مغرية تجعل من الصعب على أيّ موظف أن يقف في وجهها، ومن يعترض تقدر على استبداله بيسر دون أن يسمع صوته أحد.
ولا يمكن اتهامها بالفساد بالمعنى الحرفي للكلمة، مثل اتهامها باستلام رشاوى وعمولات، ولكنها أكثر تأثيرا ونفوذا واتساعا داخل الإدارة، ولهذا يحتاج قيس سعيد إلى طرق مبتكرة ونفس طويل للوصول إلى هذه الشبكات وكبار المؤثرين فيها.
وبموازاة هذه المعركة المعقدة وطويلة النفس، تحرك الرئيس سعيد للاهتمام بالاقتصاد من خلال تشجيع الحكومة على عقد اتفاقيات مع جهات مختلفة وتنويع الخيارات منها ما هو مع الاتحاد الأوروبي، وهو مسار متعثر إلى حد الآن بسبب غياب الرؤية لدى الاتحاد والحسابات المحدودة لبعض دوله، ومنها ما هو مع الجيران مثل الجزائر وليبيا، وهو مسار متعثر أيضا، وهناك تحرك محدود نحو الخليج بسبب غياب الرؤية والخطط المعروضة لدى الطرف التونسي.
وهناك مسار آخر يجب دعمه وهو الاتفاقيات التي تجري مع البنك الدولي وبعض البنوك الأوروبية. هذا المسار هو الأكثر عملية وواقعية لأن تونس ستتعامل مع جهات مانحة لا تأثير للقرار السياسي فيها، مثلما الأمر مع الأطراف سابقة الذكر. البنوك ليس لديها حساب غير حساب الربح، وقبل ذلك ضمان أن الأموال التي تدفعها لا تذهب في ما لا يعني. لأجل ذلك تظهر تفاصيل الاتفاقيات بنودا واضحة داعمة للمؤسسات المتوسطة والصغرى أو لإصلاح القطاع المالي أو الهيكلي أو البنية التحتية وبرامج للفئات محدودة الدخل.
قد يرى البعض في هذا تضييقا على الحكومة أو النظام السياسي الذي لديه حسابات يريد أن يوظف القروض لخدمتها كمرحلة أولى من أجل دعم الاستقرار والسلم الاجتماعي، أو حفز الأنصار. لكن هذا النوع من الإنفاق لا يؤثر إيجابا على واقع الناس، وهو كمن يحرث في الرمل. في المقابل، فإن أموال الصناديق المالية والبنوك المانحة تذهب وجوبا لمشاريع اقتصادية ويكون لها عائد في المدى القريب والمتوسط، خاصة أن تونس لا تملك بدائل عنها مثل مصر التي نجحت في الحصول على مشاريع كبرى من الخليج، وآخرها مع الإمارات ضمن مشروع “رأس الحكمة”.
وبالتوازي مع الاقتصاد، بات الرئيس سعيد يوسع من مجال اهتمامه إلى الثقافة والرياضة، وهو ما عكسته زياراته الأخيرة لمسبح مدينة تونس، المعطل منذ أربعين عاما، ولعدد من الإدارات والمؤسسات الثقافية، واهتمامه بالشأن الرياضي والفساد الذي ينخره، وهذا مؤشر على أن الاستقرار السياسي يسمح للرئيس وللحكومة بأن تعالج المواضيع المختلفة وتبحث لها عن حلول.
تحتاج تونس إلى أن تعيد النظر في مفهوم الثقافة من بعد الرهان على كسب ود المثقفين واستقطابهم إلى جانب السلطة إلى التفكير فيها كقطاع منتج يخدم البلاد على المدى الطويل، وذلك من خلال تشجيع المشاريع والاستثمار في المسلسلات والسينما والمسرح كمشاريع ذات عوائد مالية ومساعدة على مواجهة البطالة بين المثقفين.
والأمر نفسه بالنسبة إلى الرياضة التي تحولت إلى قطاع فعال عالميا. وقد لا تبدو الرياضة مهمة لفئات من المثقفين أو الأثرياء الذين يعتبرون أنها قطاع لتلهية العامة وإغراقها في التفاصيل والضحك عليها. لكن هذا فهم قاصر ومحدود لفئات عاشت على الكتب والمثل، وما تزال تقيس واقع الناس بأيديولوجيات الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وهي أفكار قديمة لم تعد تصلح لشيء.
الرياضة باتت قطاعا اقتصاديا حيويا منتجا ومساهما في تحسين حياة الناس، ومن واجب الدولة أن تفكر فيه، وتبحث له عن حلول، وتفكك لوبيات الفساد التي تحكمت فيه لعقود، وهي واجهة من واجهات لوبيات المال والأعمال التي تبسط أيديها على كل شيء.