أوروبا

«هاري».. وخيانة العائلة المالكة

يعلمنا التاريخ القريب أن ثمة قنوات أخرى يستطيع هو وولي عهده، ربما، "التدخل" من خلالها في شؤون البلاد.

بدأت الأميرة إليزابيث جولة افريقية كولية لعهد بريطانيا في عام1952 من دون أن تعلم أن والدها الملك جورج السادس كان على فراش الموت. وبعد نحو سبعين عاماً، كانت حالتها هي تمضي من سيئ إلى أسوأ، وتوجهت إلى قلعة بالمورال في اسكتلندا لتموت هناك من دون أن يعرف كثير من المقربين بذلك، حتى يوم الوفاة في 8 أيلول (سبتمبر) 2022. وفيما كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة ظهر ذلك اليوم، قال بيان رسمي إنها كانت “تنام بارتياح”!

ابنها الملك تشارلز الثالث آثر منذ اللحظة الأولى أن يكون صريحا، ولو باقتضاب، حول مرضه بعدما شخّص الأطباء إصابته بالسرطان. إنه الزمن الذي يتغير ويغير معه العادات، والذي أملى هذا التوجه على سياسي تربع على العرش في الرابعة والسبعين من عمره بعد نحو 50 عاماً كولي للعهد رآكم خلالها الكثير من الخبرات.

لم يكن يعيش في قصر عاجي بعيداً عن الناس خلال تلك السنوات. اهتمامه العميق بالبيئة والأديان، لاسيما الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية يؤكد أنه لم يكن متفرغاً لنفسه في منأى عمن حوله. وإذ كان يقترب من حدود السياسة بحذر، فابنه وليام أثبت أنه أكثر جرأة، إذ دعا قبل أيام على نحو غير مسبوق، إسرائيل، بصورة غير مباشرة، إلى وقف إطلاق النار في غزة فوراً.

وأمير ويلز، هو أول عضو في العائلة المالكة يزور الأراضي الفلسطينية المحتلة في 2018. وكان لندائه الأخير عبر مداخلة متوازنة صدى واسع في إسرائيل وفلسطين، ناهيك ببريطانيا. البعض في بلاده حاول التقليل من قيمة الموقف، معتبراً أن المداخلة لم تكن من صنعه وانتقده لأنه خرج عن قواعد الملكية الدستورية السائدة منذ القرن السابع عشر. ولعل هؤلاء لم يلاحظوا أن الزمن قطع شوطاً طويلاً في ثلاثة قرون!

وقد تفتح هذه البداية الباب على مرحلة جديدة حافلة بالتحديث لجهة العلاقة بالسياسة. وأمير ويلز مؤهل لقيادة هذا التوجه، بصرف النظر عن وضع أبيه الصحي، وخصوصاً أن تشارلز الثالث نفسه كان دوماً مع التجديد. أما إذا تحقق السيناريو الأسوأ وغادرنا الملك، وهذا احتمال يصعب استبعاده، فستكون هناك تداعيات شتى على صعيد العائلة والدولة، لن تلغي مسيرة التطوير التي أطلق ولي العهد رصاصة البدء فيها.

لا تعمل المملكة المتحدة بموجب دستور مكتوب. لكن سيكون من الممكن الاسترشاد بسوابق تضمن الاستمرارية وانتقال الحكم بشكل يحفظ وحدة البلاد. قد تكون هناك تعقيدات محرجة بسبب الظروف العائلية الصعبة. مثلاً، ثمة سوابق قد تملي جلوس الأمير وليام على العرش في حال شغوره، وعندها ينبغي أن يصبح هاري ولي عهده لأن ابنه جورج لن يبلغ السن القانوني (18 عاماً) لاحتلال هذا المنصب حتى 2031. وباعتبار أن الاتصالات مقطوعة بين الأخوين منذ نحو سنتين، فهل سيكون من السهل عليهما أن يعملا معا؟

في هذه الأثناء يحاول بعض خصوم هاري الاصطياد في الماء العكر للتهجم عليه وعلى زوجته واتهامهما بـ “خيانة” العائلة المالكة. يتجاهل هؤلاء الاهتمام الذي أبداه الأمير منذ أبلغه والده التشخيص المفاجئ هاتفياً. فعدا عن أنه طار من موطنه الموقت في لوس أنجليس للاطمئنان عليه ولو لأربعين دقيقة، وجه عدداً من الرسائل عبر وسائل الإعلام توحي برغبته بالتصالح مع عائلته.

أما الأثر الذي سيتركه غياب تشارلز الثالث على بلاده، فهو أخطر بكثير. معروف أن عاهل بريطانيا يملك ولا يحكم، ولا يحق له الخوض في السياسة، لأنه فوق الأحزاب والحكومات. وقد يظن كثيرون أن قيمته كملك دستوري تنحصر بكونه الرمز الذي يجسد عراقة وطنه ووحدته ويبقي صورته جذابة للسياح. لكنه رئيس الدولة ورئيس كنيستها، وله أدوار أخرى تستمد فعاليتها من كونها غير مباشرة وغير علنية.

مثلاً، يلتقي الملك رئيس وزرائه مرة كل أربعاء، على انفراد. ويبقى مضمون هذه الجلسة سرياً. وينص دوره التقليدي على” تقديم المشورة” بشأن القضايا العامة و”التشجيع، والتحذير”. وهذا يوفر له فرصة كبيرة لترك بصمته على عمل الحكومة وربما المشاركة في اتخاذ بعض القرارات.

ويعلمنا التاريخ القريب أن ثمة قنوات أخرى يستطيع هو وولي عهده، ربما، “التدخل” من خلالها في شؤون البلاد. صحيح أن أحداً لم يدلِ برأيه في قضية سياسية بشكل صريح، مثلما فعل وليام في تعليقه على غزة، إلا أن الملكة إليزابيث وولي عهدها فعلا ذلك سراً. وبوسع العاهل أن يتحدث علنا بشكل موارب، كما فعلت الملكة إليزابيث حينما نصحت الأسكتلنديين عشية استفتاء الاستقلال في 2014 بـ “التفكير بعناية بالغة بشأن المستقبل” من دون أن تذكر القضية الجوهرية من قريب أو بعيد. وبعد ثمان سنوات اعتذر القصر الملكي عن عدم التعليق على تقارير نقلت عن “مصدر” مقرب من ولي العهد قوله إنه سمع الأمير تشارلز، ينتقد مشروع ترحيل اللاجئين غير الشرعيين إلى رواندا ويصفه بـ “الفظيع”! وتم نشر رسائل عدة قيل إنه وجهها إلى وزراء في محاولة للضغط عليهم لاتخاذ إجراءات تتعلق بالتعليم والبيئة والصحة أو تتصل بتوفير تجهيزات الحماية الشخصية للجنود الذين كانت الحكومة ترسلهم إلى العراق.

في نهاية المطاف، إن مواصفات “الملك” وليام وشخصيته وصدقيته هي التي تحدد قدرته على التأثير. وولي العهد الشاب يتمتع بالكاريزما، ويبدو في إطلالته العامة أكثر قرباً من الناس من والده. ولعله ورث هذا الدفء عن والدته ديانا “أميرة الناس”. لكن يتساءل مراقبون عن قدرته على النهوض بأعباء البلاد نظراً إلى ضآلة خبرته. صحيح أن لعمق التجربة دور في نجاح الرئيس من دون شك. إلا أن بوسعه أن يواصل خلال وجوده على رأس السلطة تعلم مالم يسمح له عمره بتعلمه. وعلى أي حال يدل أداؤه كولي للعهد الى أنه حريص على الابتكار والتجديد، ما يعني أنه سيصنع تجربته بيديه.

لن تكون مهمته سهلة بالتأكيد، فخلافة والده تمثل تحدياً كبيراً في وقت هبطت أسهم العائلة المالكة إلى مستوى متدن في السنتين الأخيرتين بسبب الاتهامات الموجهة إلى الأمير أندرو وإبعاده عملياً عن الواجهة، وخلافات هاري مع عائلته وأخيه. وسواء خرج والده من المشهد خروجاً مؤسفاً جرّاء مرضه أم بقي في الحكم، لابد للعائلة المالكة، وفي مقدمتها الملك، من أن تكسب ثقة البريطانيين حتى تؤدي دورها بنجاح وفعالية. وربما كان وليام الشاب الدافئ الشغوف بالابتكار أقدر من غيره على مدّ الجسور مع الأجيال الشابة.

عمّار الجندي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى