كيف سخّر الحوثيون المساعدات الأممية لليمنيين لصالحهم؟
لا تنظر الجهات الغربية المانحة، والسفارات المقيمة في صنعاء، إلى المناطق التي تخضع لسلطة الحوثيين باعتبار أن هنالك سكاناً فاعلين سياسياً واجتماعياً، تم حرمانهم من هذا الحق، وإنما كمنطقة طوارئ إنسانية، وبدلاً من التعمق في الجذور السياسية للأزمة اليمنية، تقوم المنظمات بمنح حلول إنسانية مؤجلة، والمراهنة على جماعة مسلحة لا يبدو أنها ستكترث إلى حقوق الإنسان
في عام 2018، شنت الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً هجوماً عسكرياً كبيراً لاستعادة مدينة الحديدة الساحلية المطلة على البحر الأحمر من سيطرة جماعة الحوثي المدعومة إيرانياً. حينها، كانت معركة السيطرة على الحديدة على وشك الحسم في كانون الثاني/ ديسمبر، إلا أن الحوثيين أطلقوا صرخات إغاثة من أجل وقف الحرب، وقد تكفلت المنظمات الإنسانية بنقل الكارثة إلى لغة الأرقام، إذ قدرت اليونيسف أن 300 ألف طفل معرضون لخطر الموت جوعاً في حال أُغلق الميناء، وسيؤدي الهجوم إلى خنق شريان الحياة وستكون له عواقب مدمرة، على الرغم أن مدينة تعز، ثالث أكبر مدن اليمن، كانت لا تزال تشهد حصارا خانقا من قبل جماعة الحوثي، إذ قطعوا الماء عنها منذ ذلك الوقت حتى الأشهر الماضية، وفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير حديث صادر في مطلع آذار/ مارس 2024.
وفي ذروة الضغط العسكري على الحوثيين، استجابت الجماعة لشروط السلام بعد أشهُرٍ من رفضهم إرسال وفد للتفاوض من خلال جهود السلام والوساطة التي تقودها الأمم المتحدة، إذ أعلنت أنها ستناقش ملف فك الطرقات المحاصرة، ومشاركة إيرادات ميناء الحديدة، وبل أرسلت وفداً إلى السويد لإجراء حوار السلام في الاتفاق الذي سمّي باتفاق استوكهولم، وقد نصّ على عدم دخول القوات الحكومية إلى مدينة الحديدة، وتسليم الأمور العسكرية إلى طرف عسكري ثالث، بالإضافة إلى تخصيص حساب بنكي بإيرادات الميناء لصالح صرف المرتبات، وقد توعدت الجماعة باستخدام عائدات الميناء لدفع رواتب موظفي الخدمة المدنية في حال تراجع الطرف الآخر عن هجومه وسمح للسفن النفط والسفن التجارية الدخول عبره، لكن ما إن أخذت الجماعة تستعيد سيطرتها على المدينة، حتى انقلبت على جميع الالتزامات التي تعهّدتها في إطار الاتفاق الذي جرى التوصّل إليه برعاية الأمم المتحدة.
بدا حينها أن التجاوب الدولي معهم في تسليم الميناء، جعلهم يطمحون إلى هدف أكبر من ذلك، إذ طالبوا بعائدات النفط من أجل تسليم المرتبات، وهو ما اعتبره الكثيرون تهرب الجماعة من مسؤوليتها تجاه حقوق الناس.
ومنذ نهاية العام 2016، استثمرت جماعة الحوثي ملف رواتب الموظفين بمختلف الأشكال، منها عندما أصدر الرئيس السابق عبدربه منصور هادي قرار نقل مقر البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى مدينة عدن، إذ أوقفت الجماعة عملية صرف رواتب الموظفين، بحجة قرار نقل البنك، على الرغم من استمرار توريد إيرادات الدولة إليه، وبعد اتفاق السويد أشار تقرير فريق الخبراء الصادر في العام 2019 إلى أن الحوثيين تحصلوا في العام 2018 نحو 132 مليار ريال يمني مقابل الرسوم على المشتقات النفطية الواردة عبر ميناء الحديدة فقط، وفي العام 2022 قال تقرير لجنة الخبراء إن الجماعة تحصلت على أكثر من 4 مليارات دولار خلال العام من رسوم المشتقات النفطية في ميناء الحديدة، ومع ذلك لا تزال ترفض صرف مرتبات الموظفين وفقاً للاتفاق المبرم في العاصمة السويدية ستوكهولم.
إقرأ أيضا : روسيا والأطلسي… مخاطرة التصعيد وكسر المحرمات النووية
وفي نهاية العام 2023، احتج ناشطو مواقع التواصل الاجتماعي في المناطق الخاضعة تحت سيطرة الحوثيون على إضافة جرعة سعرية جديدة على المشتقات بقيمة (500 ريال) خاصة أن تلك الجرعة جاءت بعد توقف الأعمال القتالية والدخول في هدنة، وفي توضيح نشره عصام المتوكل الناطق الرسمي لشركة النفط عند الجماعة الحوثية على صفحته على منصة أكس أشار إلى أن الشركة وتجار النفط لا تزال تورد كافة الرسوم الجمركية إلى حساب البنك المركزي الخاص بمرتبات الموظفين أولاً بأول منذ بداية الاتفاق، ولا أحد يعرف مصير تلك الأموال.
عسكرة البحر الأحمر
بعد سيطرة الحوثيين على ميناء الحديدة، وجد “فريق الخبراء المعني باليمن” التابع للأمم المتحدة، أن إيران “لم تتخذ التدابير اللازمة لمنع توريد أو بيع أو نقل، بشكل مباشر أو غير مباشر، مختلف الصواريخ الباليستية التي يستخدمها الحوثيون لتنفيذ هجمات غير قانونية”.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عمليات القرصنة ومهاجمة السفن في البحر كانت قد قامت بها الجماعة قبل التصعيد العسكري الأخير على البحر الأحمر، إذ رصد تقرير فريق الخبراء هجوم من قبل مسلحين مجهولين، يشتبه تقرير الخبراء أنهم حوثيون، هاجموا يختاً للسباق الدولي يدعى “لاكوتا” قبالة الحديدة، في تاريخ 19 أيار/ مايو من العام 2018، أي بعد 50 يوماً تقريباً من بدء سريان الهدنة من العام نفسه.
وقال التقرير إن الهجوم على اليخت “لاكوتا”، لم يكن الأول، فقد سبقه هجوم على سفينة إمداد تابعة للغذاء العالمي في المنطقة البحرية نفسها في حزيران/ يونيو 2018، إذ هاجمها مسلحون مجهولون على متن ثلاثة قوارب. وأكد التقرير أنه حصل على معلومتين عن هجومين حوثيين بالصواريخ ضد سفن تجارية في البحر الأحمر أثناء الهدنة وبعدها، الأول في آذار/ مارس 2022، والثاني في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022. وأضاف أن ميليشيا الحوثي استعرضت في أيلول/ سبتمبر 2022 قوتها العسكرية البحرية لإظهار قدراتها على تهديد الملاحة الدولية.
ليست تلك المرة الوحيدة التي تستفيد الجماعة من جهود المنظمات إغاثياً وإنسانياً، لتمكن نفسها سياسياً وعسكرياً ومالياً، ففي الأيام الأخيرة من عهده الرئاسي في عام 2021، صنف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الحوثيين منظَّمةً إرهابيةً أجنبية، فأعلنت منظمات أن هذا القرار سيعيق التدفقات المالية والمساعدات الإنسانية، ولكن عندما رفع الرئيس الأمريكي جو بايدن التصنيف في وقت لاحق، عاد الحوثيون على الفور إلى ممارساتهم السابقة وبدأوا عمليات عسكرية جديدة في جميع أنحاء اليمن، خصوصاً مدينة مأرب التي شن الحوثيون عليها غارات متواصلة بهدف السيطرة على الحقول النفطية، حيث استهدفت المدنيين بشكل مباشر، وحاصرت بعض القرى، وقطعت طرق الوصول إليها، بالإضافة إلى قطع الإنترنت والاتصالات، واستمرّت في حدود خمسة أشهر، وأسفرت عن قتل 27 ألف مقاتل من الطرفين منهم أكثر من 14 ألفاً من الحوثيين بحسب وكالة أسوشيتد برس.
المساعدات الإنسانية بين التمكين السياسي والتجويع الممنهج
على مدى سنوات من الصراع المستمر، حرم الحوثيون أولئك الذين لا يخضعون لتعاليمهم العقائدية من تلقّيها، محتكرين المساعدات للعائلات الحوثية، مما منحهم إمكانية التحكم في المواطنين، وتجنيد الأطفال في القتال، واستقطاب المواطنين لمعارك الجماعة مقابل توفير مواد غذائية لعائلاتهم.
وبحسب تقرير صادر في 2021 عن منظمة مواطنة لحقوق الإنسان فإن الجماعة مارست الضغط على تلك المنظمات، إذ فرضت أسماء شخصية غير محتاجة، كما اتخذت إجراءات مباشرة أثرت على الأمن الغذائي للمدنيين، بما في ذلك قصف مناطق أثرت على وصولهم إلى الغذاء وزرع الألغام داخل مطاحن البحر الأحمر في الحديدة، والتي كانت تحتوي في السابق على ما يكفي من القمح لإطعام 3.7 مليون شخص لمدة شهر واحد، وهو ربع مخزون برنامج الأغذية العالمي WFP داخل البلد.
استغلال الحرب الإسرائيلية على غزة
ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، تحوّل ميناء الحديدة الذي تمت إعادة فتحه لأسباب إنسانية إلى منصة لأعمال القرصنة ومنطلقاً لهجمات الحوثيين على الملاحة، معطلاً وصول السفن التجارية. ففي 19 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، استولى الحوثيون، على “غالاكسي ليدر”، ناقلة سيارات تملكها شركة بريطانية وتشغلها شركة يابانية ومسجلة في البهاما،. ونشرالحوثيون فيديو على الإنترنت، يُظهر قوات تابعة لهم تصعد إلى السفينة، ويتنقلون فيها، ويصوبون أسلحتهم إلى الطاقم، اقتادوا السفينة، والطاقم لا يزال على متنها، إلى ميناء الصليف في الحديدة، الذي يسيطرون عليه، على الساحل الغربي لليمن.
حينها، أعلن محمد عبد السلام، المتحدث باسم الحوثيين، على منصة “إكس” أن الاستيلاء على السفينة “مجرد بداية لمعركة البحر” التي يخوضها مقاتلوه، مما دفع سفن كثيرة إلى تعديل مسارها بسبب هذه الهجمات، بحسب “الغرفة الدولية
لا تنسحب مغامرة الحوثي بحياة آلاف اليمنيين على ميناء الحديدة فحسب، إذ بعد مرور سنوات من المناشدات الإنسانية التي رفعتها المنظمات في اليمن حول فتح مطار صنعاء، من أجل تسهيل سفر اليمنيين، قام الحوثيون بعد أشهرٍ من افتتاحه باختطاف أربع طائرات على متنها 1300 شخص، ومنعوا عودتها لاستكمال نقل الحجاج، وهو ما أثار سخط العديد من رواد مواقع التواصل حيث اعتبروا صمت المنظمات نوعاً من التواطؤ مع جرائم الحوثيين.
وزيادة على ذلك، فقد انحصر استخدام المطار منذ افتتاحه على أعضاء جماعة الحوثيين والمقربين منهم، إذ أُغلق أمام المواطنين، بتسهيل من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، فقد خصصت الأمم المتحدة طائرة تابعة لشركة ” Air Taquan” الأمريكية لسفر أعضاء الجماعة، بعدما رصد تحقيق استقصائي أكثر من 270 رحلة، بين حزيران/ يونيو وآب/ أغسطس 2020، مقارنة بمطار عدن الدولي الذي استقبل في تلك الفترة 220 رحلة فإن مطار صنعاء المغلق استقبل أكثر رحلات من مطار عدن المفتوح. وقالت مواطنة في بيان لها إنه يتم تحديد هوية المسافرين عبر مندوب الأمن والمخابرات، وبالتالي هو من يسمح لمن تريد له الجماعة بالسفر .
افتعال حروب جديدة وخنق الفضاء المدني
يشير الكثير من الحقوقيين إلى تلك الضغوط الدولية التي أوقفت الحكومة الشرعية من الاستيلاء على ميناء الحديدة لدواعٍ إنسانية، فيما اختفت هذه الضغوط على خلفية قصف إسرائيل لأهم ميناء حيوي، فضلاً عن استمرار الحوثي باستخدام هذا الميناء إما للهجمات العسكرية أو جلب المزيد من الخصوم ومراكمة المآسي الإنسانية، لكن لا أحد يوقف الحوثي فعلياً عن ممارساته، وهو ما يمنحه الاعتقاد بأنه خارج المساءلة.
وبرغم خطاب الشيطنة الذي يستخدمه الحوثي ضد المنظمات منذ سنوات، فإن المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي (SCMCHA) الذي تم إنشاؤه في العام 2017 من قبل الحوثيين بهدف الإشراف على عمل المنظمات بالطريقة التي تناسب الجماعة هو من يدير مهام تلك المنظمات، وبحسب الصحافي والناشط الحقوقي رياض الدبعي، “لا يتحكم المجلس الأعلى فقط في الموافقة على المشاريع وتنفيذها، بل ينظم بشكل صارم سلوك العاملين في المجال الإنساني في اليمن. إذ إنّه في كانون الثاني/ يناير 2021 حظر على موظفي الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية تنظيم أو المشاركة في أي نوع من الدراسات أو الورش الافتراضية أو المراقبة أو الأنشطة الأخرى دون موافقة مسبقة من المجلس”.
وشن الحوثيون مؤخراً حملة قمع واسعة شملت معظم موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية التابعة لها، وداهمت الجماعة منازل ومكاتب 10 موظفين على الأقل في مختلف وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية في 6 حزيران/ يونيو 2024، منهم تسعة موظفين أمميين على الأقل، واحتجزتهم في صنعاء، والحديدة، وصعدة، وعمران في اليمن، وفقاً لهيومن رايتس ووتش في تقرير صادر في حزيران/ يونيو 2024.
لا تنظر الجهات الغربية المانحة، والسفارات المقيمة في صنعاء، إلى المناطق التي تخضع لسلطة الحوثيين باعتبار أن هنالك سكاناً فاعلين سياسياً واجتماعياً، تم حرمانهم من هذا الحق، وإنما كمنطقة طوارئ إنسانية، وبدلاً من التعمق في الجذور السياسية للأزمة اليمنية، من أجل تفعيل دور اليمنيين في بلدانهم، فإن ما تفعله تلك المنظمات هو منح حلول إنسانية مؤجلة، والمراهنة على جماعة مسلحة لا يبدو أنها ستكترث للحريات الاجتماعية والسياسية، ومواثيق حقوق الإنسان.